يتكرر في القرآن الكريم كثيراً قول الله تعالى: «اذكروا نعمة الله عليكم»، وفي ختام سورة الضحى يأمر الله نبيه فيقول “وأما بنعمة ربك فحدث”.. فما هو الأثر الإيجابي الذي يتركه تذكر نعمة الله علينا وتحديث الناس بها على نفوسنا في ضوء علوم التنمية البشرية والبرمجة العصبية؟.. حياة الإنسان من صنع أفكاره، فمن يملؤ عقله بالأفكار والخواطر الإيجابية فإن شخصيته ستتشكل تشكلاً إيجابياً وسينظر إلى الحياة نظرةً مشرقةً مفعمةً بالأمل والحب..ومن يملؤ عقله بالخواطر السلبية فلن يرى من حوله إلا السواد والظلام لأنه ينظر إلى الحياة من منظار أسود قاتم.. وحين يكثر الإنسان من تذكر نعم الله عليه وتحديث الناس بها فإنه يرسل إلى عقله الباطن رسائل إيجابيةً فيمتلئ قلبه بمشاعر الرضا والطمأنينة ويتحرر من الشعور السلبي بالحرمان والدونية وأن الناس أسعد حظاً منه، ومع تكرار إرسال هذه الرسائل الإيجابية فإنه سيتحول إلى شخصية إيجابية مفعمة بالنشاط والفاعلية والإقبال على الحياة.. واختلاف النظرة إلى الحياة لا يعود إلى اختلاف واقعها الموضوعي ولكنه يعود إلى اختلاف أفكارنا تجاهها ، فتجد من الفقراء المعدمين في هذه الحياة من ينظر إليها نظرة إشراق وأمل وسعادة، وفي المقابل تجد من المترفين المتخمين بالنعمة من يكثر من السخط والشكوى والتذمر، فلو كان سبب السعادة مادياً لكان أصحاب الثراء الفاحش أولى بالسعادة من الفقير البائس الذي لا يكاد يجد قوت يومه، ولكن السبب هو في طريقة التفكير والنظر إلى الأمور.. فهناك من لا يرى في الوردة إلا الشوكة التي يخفيها جمالها، لذلك يقول المثل الرائع «لا تقل تحت الورد شوك، ولكن قل فوق الشوك ورد..». يروى عن النبي «صلى الله عليه وسلم» أنه قال “انظر إلى مَن هو تحتك، ولا تنظر إلى مَن هو فوقك، فإنه أجدر ألاَّ تزدري نعمة الله عندك”..أي لا تقل إن فلاناً يملك بيتاً أجمل من بيتي، ولكن قل إنني أملك بيتاً، وغيري يسكن في كوخ، وهذه النظرة إلى أمور الدنيا تورث في قلب الإنسان شعوراً بالرضا والطمأنينة ، وتذكره بنعمة الله عليه، أما من ينظر إلى من هو أعلى منه فإنه سيظل في صراع نفسي عنيف، لأنه لن يرى كل النعم التي أنعمها الله عليه، وسيرى فقط ما في يد الآخرين مما سيولد في نفسه شعوراً بالسخط تجاه الحياة لأنه لا يرى منها إلا ما لا يملكه.. إن المداومة على استحضار نعم الله يعزز المشاعر الإيجابية في قلب الإنسان فتمنحه طاقةً هائلةً من النشاط والإقبال على الحياة برضا وطمأنينة وتتعزز فرصه في النجاح والاستزادة من النعم، لأن الشخصية الإيجابية عامل جذب للنجاح فهي ترى لكل مشكلة حلاً، وفي كل محنة منحة، ومع كل تحد فرصة، بينما الشخصية السلبية عامل طرد فترى في كل حل مشكلةً، وبذلك نفهم فهماً علمياً قول الله تعالى “لئن شكرتم لأزيدنكم”..والشكر قبل أن يكون قولاً باللسان فهو شعور قلبي بالرضا والمحبة..ومن يكن هذا هو شعوره فسينظر إلى الحياة بمنظار إيجابي وسيتحرر من النظرة القاتمة والتشويش الذهني وسيصفو تفكيره ويصبح أكثر قدرةً على التركيز واكتشاف الفرص مما سيجذب إليه فرص النجاح والاستزادة من الرزق .. إن الشخص الإيجابي التي يكثر من تذكّر نعم الله عليه في نفسه، ومن تحديث الناس بها فإنه لن يظل في قلبه موضع للحقد والحسد والضغينة، وسيتعامل مع الناس بمحبة وإحسان ظن، لأن أفكاره وخواطره لن توجهه إلا في اتجاهات إيجابية، فإن بدا من أحد الناس خطأ التمس له عذراً فإن لم يجد بحث عن سبعين عذراً، والبحث عن الأعذار للآخرين صناعة الذين تمتلئ قلوبهم بمعاني الخير فتفيض هذه المعاني على نظرتهم للآخرين، لأن نظرة الإنسان إلى الآخرين إنما هي انعكاس لما في نفسه من برمجة إيجابيةً كانت أم سلبية، فمن يكذب لا يثق بالناس لأنه يظن أنهم جميعاً يكذبون مثله، ومن يملأ قلبه بالتصورات الجنسية المريضة ستكون نظرته إلى المجتمع بأنه غارق في الرذيلة، وسيفسر كل حركة وسكنة تفسيراً فاسداًً يتطابق مع ما في نفسه.. إن الأفكار والخواطر التي نملأ بها قلوبنا هي التي تحدد سلوكنا في الحياة، لذلك فقد حرص النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» أن يظل قلبه ممتلئاً بمعاني الخير، وكان دائم الرعاية له حتى لا يتسلل إليه أي دخل فكان يقول لأصحابه: «لا يبلِّغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم القلب».. وهذه دعوة رائعة إلى الإيجابية، فأن يتعمد الإنسان تغافل سقطات الناس فهذا ليس سذاجةً ولكنه منتهى الفطنة والذكاء لأنه يكسب صفاء قلبه وراحة نفسه، ويستطيع أحدنا أن يستفيد من هذا الحديث عملياً فلا يتحدث إلا في الإيجابيات ويتعمد تجاهل السلبيات، فلا يقول إنني أحب هذا وأبغض ذاك، ولكن يقول إنني أحب هذا ويتوقف، وسيشعر بعد فترة من الزمن مدى الأثر النفسي لذلك في نظرته إلى الحياة، وقد كان من أخلاق النبي كما يصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهيه، فإن رأى حسناً أكثر من ذكره ليرسخه في نفسه وفي نفوس الناس، وإن رأى قبيحاً قلل من ذكره حتى لا تنطبع صورته في القلوب. إن القلب هو مستودع الإنسان فمن ملأه خيراً ورضاً كان له الخير والرضا وحقق الراحة والسعادة وصار موضع ثقة الناس ومحبتهم وبذلك يدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة مثل الصحابي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه من أهل الجنة رغم أنه لم يكن كثير صيام أو صلاة، كان فقط لا يبيت وفي قلبه غش لأحد.. ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا واغفر لنا وارحمنا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.