جاء في كتاب الحسبة “يجب رفع سقف الفرن، وأن يجعل فيه مَنْفَس واسع للدخان ويجب كنس بيت النار قبل كل تعميرة، وغسل البرميل وتبديل مائه كل يوم وغسل المعاجن وتنظيفها، ويجب على من يعجن العجين أن يلبس ثوباً أبيض ضيق الكمين لئلا يسقط شيء من عرقه في العجين، وأن يكون ملثماً لأنه ربما عطس أو تكلم فقطر شيء من فمه في العجين، ويشد على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرف فيقطر من عرقه شيء في العجين، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط من شعره في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان في يده مذبة فيطرد الذباب عن العجين، ولا يجوز أن يستعمل الكركم والزعفران في توريد وجه الرغيف حتى يظن أنه ناضج، ولا أن يغش الدقيق بدقيق الحمص والفول، ولا أن يخبز العجين قبل أن يختمر، فإن الفطير يثقل في الميزان وفي المعدة”. من يقرأ هذه التعليمات يظن أنها صادرة من إحدى دوائر الصحة العالمية اليوم، ولكنها تعليمات جهات الاختصاص قبل حوالي ثمانمائة عام.. تماماً في القرون التي يحب البعض أن يسميها بالقرون الوسطى التي كانت فيها أوروبا غارقة في ظلامها وجهلها إلى أخمص قدميها، مايعني أن هذه الأمة العربية لها تاريخ عظيم وبلغت شأواً ليس بالقليل والنص واضح ولا يحتاج لتعليق. ومن يقرأه اليوم يزفر زفرة شديدة لما يراه اليوم من عدم اهتمام أصحاب الأفران والمخابز ببعض ماجاء في النص السابق ومن عدم المراقبة عليهم من قبل الجهات المعنية، وليس غريباً بعد ذلك أن تجد في هذا الرغيف ذبابة أو حشرة ماء وأن تجد في هذا المنتج أيضاً مثل ذلك أو قطعاً بلاستيكية أو حتى شفرات حلاقة. وجاء في “نفح الطيب” كما ينقل الطنطاوي أن الحاكم في الأندلس كان يُسعّر الأشياء الضرورية، لاسيما الخبز واللحم، ويأمر البياعين بأن يضعوا عليها أوراقاً بسعرها، ثم يبعث المحتسب الولد الصغير أو الخادم لاختبار البياع فإن ظهر منه غش بأن باعه بأكثر من السعر المحدد استدعاه الحاكم وعاقبه، فإن عاد أغلق محله. بالله هل مانظنه اليوم شيئاً جديداً، وأنه جاء بتراكم خبراتنا وعقولنا التجارية واحتكاكنا بالغرب نجده في تاريخنا حقيقة مشاهدة لاتقبل الجدال أو التشكيك.. بل وأكثر من ذلك فقد كان يجعل للمريض ملف متابعة فإذا مات المريض طلب كبير الأطباء الذي يعينه السلطان ذلك الملف فإن رأى أن العلاج كان وفق الحكمة والطلب من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب قال لأوليائه إن مريضكم قد انتهى أجله وإن رأى أن الطبيب المعالج قد أخطأ أو قصر قال لأوليائه خذوا دية صاحبكم من الطبيب فإنه قتله بسوء صناعته.. أجل إلى هذا الحد قرر المجتمع الإسلامي هذه المسئولية على أفراده، قبل أن نتعرف عليها من الآخر وننبهر بها!.