نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر .. نبياً.. قداسة الشعر في التراث الوثني
نشر في الجمهورية يوم 22 - 06 - 2013

يمكن التأكيد بثقة عالية على أن الثقافة العربية رأت في الشعر منذ البداية ظاهرة “عبقرية” تتجاوز قدرات البشر “الشعراء” الذين لا بد أنهم كانوا ينهلون الشعر من مصادر ميتافيزيقية خارقة، كما هي حال الشعريات الشفاهية عموماً، كالإغريقية مثلاً، والفرق أن الشعرية الإغريقية كانت وحياً وإلهاماً ومددا إلهياً، فيما الأسطورة العربية تجعلها من وحي الشياطين المقبلة من وادي “عبقر”(1)، وإذا أمكن تصوّر أن “وادي عبقر” هو المعادل العربي الميثيولوجي لمساكن آلهة الشعر في الثقافات الوثنية الأخرى، فهل المؤسسة الثقافية بعد الإسلام حولت كائناتها الدينية المقدسة إلى جن وشياطين، كصنيع الأديان الجديدة برموز الأديان القديمة!؟، وإذا كانت أسطورة شياطين الشعر منحدرة عن الجاهلية، فهل كان للشياطين معنى مناقضٌ للكائنات الإلهية في تلك الثقافة الوثنية؟!.
لقد خلفت البدايات الضائعة للشعرية العربية وراءها قرائن كثيرة تشير إلى أن النص الشعري كانت له أبعاد دينية مقدسة، وأن الآلهة كانت هي التي توحي بالشعر إلى الشعراء الذين كانوا – كما يقول “عمرو بن العلاء” عن شعراء الجاهلية – ( بمنزلة الأنبياء في الأمم )( 2)، مزاوجاً بين الشعر والنبوة، والأنبياء والشعراء، الأمر الذي يؤكده ابن سيناء بقوله:(كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي، فيعتقد قوله، ويصدق حكمه، ويؤمن بكهانته)(3 )، كرؤية فلسفية لما قبل الفلسفة، وعنه أخذها “حازم القرطاجني” معمما إياها على تاريخ كل آداب الأمم، حيث كان الشاعر(أشرف العالم وأفضلهم)( 4).
وعلى ذلك كان الشاعر نبيا، والشعر نبوّة، والشعراء أنبياء (كهنة ورجال دين)، ما يفسر كون نبوغ شاعر يمثل أحد المناسبات النادرة لاحتفاء القبيلة العربية(5 )، كما كان الشعراء هم “علماء” اللاهوت في الجاهلية الأولى، فقد ارتبط الشعر بالعلم، بل (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)حسب العبارة الشهيرة للخليفة عمر بن الخطاب( 6)، مع الانتباه الشديد إلى خصوصية معنى مصطلح “العلم” في الثقافة العربية القديمة (7)، فمن المعروف أن مصطلح “العلم” ظل مخصصا بعد الإسلام لفترة بالمعرفة المرتبطة بالأمور والتصورات المتعلقة بالدين، دون غيرها من المعارف، وهكذا قصد الخليفة عمر بن عبد العزيز(ت: 101ه)بتدوين العلم، أي(المرويات الشفاهية في الفقه والحديث) (8)، وبهذا المعنى كان الشعراء هم علماء اللاهوت في الجاهلية، كما أطلق مصطلح “العلماء” على رجال الدين في الإسلام.
إذاً, كان الشعر ظاهرة تنتمي إلى عمق الحياة الروحية والفكرية الجاهلية الشفاهية، بما يمده بأهمية استثنائية ستعكس نفسها في واقعه الطقوسي التعبدّي، كبروز الشاعر للإنشاد بزي خاص يشبه الزي المميز للكاهن، وإلقائه الشعر واقفا بهيئة كهنوتية خاصة من مكان بارز.. وكاقتضاء طهارة الوضوء لإنشاد الشعر، بالشكل الذي ألزم به الملك “عمرو بن هند” الشاعر “الحارث بن حلّزة “(9) ، كما كان الجاهليون يقرؤون الشعر على موتاهم(10) إعمالاً لقداسته كظاهرة لاهوتية لها مصادرها وفاعليتها في العالم الميتافيزيقي حتى بعد الموت، وعلى ما يبدو فإن هذه الممارسات كانت نادرة وخافتة في الجاهلية المتأخرة المقاربة للإسلام، فهي نماذج متأخرة لطقوس أدائية سادت ثم بادت في المراحل اللاحقة التي قطع فيها الشعر حبل سُرّته الدينية، واستقل عن منشئه الديني، دون أن يتخلص من بعض رواسب تقاليده الأدائية الإنشادية المتحدرة عن المنشأ الديني للشعرية العربية الشفاهية، والمفسَّرة من خلاله.
إن قداسة النص الشعري، وشعرية النص المقدس، فرضية انبثاقية لها ما يعززها في آدابٍ شفاهية كثيرة، كما في “إلياذة هوميروس، وابتهالات أخناتون، ونبوآت عرّافات “دلفي”، والكتب المقدسة للهنود، وأقرب من ذلك ما نجده في التراث المقدس لأقربائنا الساميين من اليهود، فأجزاء كثيرة من كتابهم المقدس “العهد القديم” هي أعمال شعرية (لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد..)(11)، بل الأقرب من ذلك كله ما تبقى من التراث الديني الجاهلي، على الأقل تلك التراتيل والترانيم والتهليلات الدينية في طقوس الطواف حول الكعبة أو حول الكعبات والمحجات الأخرى، أثناء شعائر الحج، كالتلبيات المختلفة للقبائل”(12)، فبنيتها الشعرية أمر لا تخطئه الأذن..
تتعلق بذلك روايات كثيرة أخرى تربط بين قيمة الشعر وإنشاده في المناسك والأماكن المقدسة(13)، وخصوصاً تلك التعليلات الشائعة لإطلاق اسم “المعلقات” العنوان الأشهر على المختارة الشهيرة من الشعر الجاهلي، ومنها أنها كتبت بماء الذهب في الحرير أو القباطي المدرجة، وعلقت على أستار الكعبة، وأن العرب كانت تسجد لها كما يسجدون لأصنامهم، بل ظلت تسجد لها “150” سنة حتى ظهر الإسلام(14)، وسواء عُلقت تلك القصائد أو غيرها على جدران الكعبة، أو لم تُعلق، فإن مثل هذه الروايات الإشكالية لا يمكن التعامل معها إلا باعتبارها أصداء خافتة جدا لممارسات أسطورية عربية غابرة في تقديس الشعر.
تتأكد هذه القداسة القديمة المفترضة للشعر العربي، من خلال خصوصيته الإلقائية (الإنشاد، التغني)، التي تكشف عن منشأه الديني كتراتيل وترانيم دينية غنائية موجهة للآلهة، وكشعوب شفاهية أخرى كان العرب ينشدون الشعر أمام أصنامهم وفي معابدهم الوثنية، في طقوس تعبدية صوتية وحركية نمطية مخصصة، كامتياز صوتي يكرّس امتيازاً نوعياً واعتبارياً..
هذه الخصوصية الإلقائية لم تتوفر في التاريخ العربي سوى للشعر ثم للقرآن الكريم،(15)، فالخصوصية الاعتبارية للجنس النصّي، تقتضي خصوصية أدائية تعبر عنها، فإذا كان التغني بالقرآن الكريم هو مضمار إسلامي يعبر عن الأهمية الاستثنائية لهذا الكتاب المقدس في الحياة العربية بعد الإسلام، فالتغني بالشعر هو المضمار العربي السابق للتعبير عن الأهمية الاستثنائية التي كانت للشعر في قداسته الجاهلية، بل يرى كثير من العلماء والمؤرخين أن هذا الإنشاد والتغني هو أقدم ملامح الشعر، وأسبق عناصره الغنائية، وقيمه الموسيقية ظهوراً، وإلى ذلك يؤكدون على أن الإنشاد هو الملمح المميز الأول والأقدم للشعرية في تاريخ آداب الشعوب، التي تضمنت مدوناتها الشعرية الموجهة إلى الآلهة، والتي كانت تنشد في المعابد، خلوها أو تحررها من الاعتبارات الموسيقية الشعرية، كالوزن والقافية، هذه القيم التي (هي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر) (16) .
إن استثنائية المكانة الاعتبارية العالية للشعر وللشاعر العربي في الجاهلية الأولى أمر تؤكده الروايات المتواترة عن تراجع مكانته في الجاهلية المتأخرة لصالح الخطابة والخطيب(17)، وهي انقلابية مشكوك فيها، إذ ظلت قيمة الشعر ومكانته متميزة حتى بعد الإسلام، لكن ما يمكن أن نفهمه منها هو أن الشعر في الجاهلية المتأخرة استقل عن الكهانة والسحر كفن خالص، وتخلى الشاعر عن وظيفته البدائية كشامان وكاهن، وبذلك ترك الشاعر مكانته اللاهوتية للكهنة والسحرة.
وكما تخلقت الطقوس المتوحشة الاحتفالية لإله الخمر “باخوس” في الثقافة اليونانية القديمة عن فن المسرح والكتابة والتمثيل المسرحي، كنصوص وفنون احترافية (لها أصولها وقواعدها الفنية المعتبرة لدى كتاب المسرح ورواده من الشعب اليوناني) هكذا تخلق الشعر العربي تدريجيا عن الكهانة والممارسات السحرية في عهد سابق للعصر الجاهلي المعروف، وحقق كامل نضجه في العصر الجاهلي، لتتبلور الماهية الفنية الخاصة للشعر، والاحترافية المحددة للشاعر..
أما قبل فقد كان الشاعر هو الزعيم الروحي للجماعة، يتنزل عليه الوحي بإيقاع خاص عبر كائن خارق هو الشيطان أو الرئي، وهذا التفريق بين الشيطان والرئي هو تفريق متأخر، تم بعد تحدد الخصائص المحددة للفن الشعري، واستقلال حرفة الشعر عن الكهانة(18)، وحتى بعد ذلك ظل الشاعر والكاهن يزعمان “أن كلام أي منهما هو وحي يوحى ويتنزل من الغيب، إما عبر “رئي”، أو شيطان، الرئي يقول سجعًا على لسان الكاهن، والشيطان ينظم شعرًا”(19) على لسان الشاعر.
وكفنان مثقف يفترض بالشاعر الجاهلي أن يكون ملما ومتأثرا بأساطير وتصورات ومعتقدات بيئته الوثنية، وأن يعبر عنها شعراً، بشكل ما، كموضوعات أو تقاليد بنائية، إذ يمكن تصوّر أن الشعر ما قبل الجاهلي كان يتضمن غرضا دينيا، وتيمات بنائية دينية خلفها للشعر الجاهلي، أسوة بالخطابة التي خلفت على الأقل الاستهلال الديني وكان يبدأ بالحمدلة والثناء على الآلهة، أو على الله، ويفترض ذلك بالشعر في مطالعه موازنة أيضا بمطالع الملاحم اليونانية كالإلياذة والأوديسا، حيث يتوجه الشاعر الافتراضي في مطالعها إلى الآلهة وربات الفنون، لاستلهامها وطلب عونها وإلهامها، فنجد في مطلع الإلياذة:
غني يا ربّة الشعر غضبة آخيل ..
وفي مطلع “الأوديسا” يبدأ الشاعر بمناشدة عرائس الفن “الميوزات” :
.. تعالَيْ يا “عرائس الفنون” فافتقدي “أوديسوس” في ذلك البحر .. (20)
لكننا لا نجد في مطلع القصيدة الجاهلية سوى الوقوف على الأطلال(21)، تيمة مطلعية ثابتة، تبدو علاقتها بنمط الحياة العربية القائمة على الترحال أقرب من علاقتها المفترضة بعقائد دينية، ومع أنه يمكن أن نجد قصائد جاهلية تبدأ بالتيمة الدينية، كما لدى النابغة الجعدي (ت: نحو 50 ه)، في مطلع إحدى قصائده، إن صحت أنها له، أو قالها في الجاهلية:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلماً
أو لأمية بن أبي الصلت(ت: 2ه)، الذي روى له الرسول (صلي الله عليه وسلم) (22) قوله:
الحمد لله مُمسانا ومُصبحَنا ... بالخير صبّحنا ربي ومسّانا
غير إن المدخل الديني لم يشكل ظاهرة في الشعرية العربية، التي خلت في كل مراحلها من المطلع الديني، كما خلت القصيدة الجاهلية تقريبا من الغرض والمضامين الدينية، فيما عدا بعض الأبيات أو المقاطع القصيرة والقليلة في الكتب المعنية مثل كتاب “الأصنام” لابن الكلبي ، ونتف باهتة من الأساطير والخرافات والأوابد التي وجدها أو تأولها بعض النقاد المعاصرين(23) في الشعر الجاهلي.
يعني هذا أن البحث في الشعر الجاهلي، عن الدين الجاهلي، كطقوس، أو نصوص ذات أبعاد تتعلق بالرؤية الوثنية وتصوراتها للكون والحياة والإنسان.. هي عملية منهكة قليلة الجدوى، بل ربما كانت مضللة، وفي حين قد نجد شعراً يعبر عن المعتقدات اليهودية والنصرانية وما يسمي بالحنيفية، صادر عن الشعراء المنتمين إلى هذه العقائد، لكن الشعر الجاهلي يخلو تقريبا من العناصر التي تعبر عن التصورات الوثنية التي كان يعتقدها معظم شعراء الجاهلية، بل ربما بدا أن شعراء الجاهلية الوثنيين كانوا مسلمين بالفطرة..!
لفتت هذه المفارقة أنظار كثير من دارسي الشعر الجاهلي من العرب والمستشرقين، كطه حسين ومرجليوث بشكل خاص(24)، ولا يكفي لتعليلها أن الشعر الجاهلي كان قد خرج من تحت عباءة الدين واستقل عنه، إذ لا يعني استقلال الفن خلوه من العنصر الديني، فقد ظل الدين أحد أهم مواضيع الشعر والفنون عامة، وظل الشعر العربي منذ الإسلام وحتى الآن يحتفي بالعنصر الديني كغرض رئيسي أو عفوي من مواضيعه، وقد يساعد في حل إشكالات هذه القضية حقيقة أن معظم الشعر الجاهلي لم يصل إلينا(25)، ومعظم القليل الذي وصل منه تدور حوله شكوك الانتحال، ولعل من أهم العوامل في هذا السياق أن الثقافة الإسلامية قامت بعملية غربلة واسعة للأدب الجاهلي، فيما يتعلق بالقيم الوثنية الجاهلية، بالانصراف عن روايتها، أو بتعديلها بما يتوافق مع روح الإسلام الحنيف....
1 - عبقر: قرية باليمن، وقيل في البادية، تسكنها الجن، قال أبو عبيدة: ما وجدنا أحدا يدري أين هذه البلاد، ولا متى كانت، ويبدو أنها كانت بلدة تصنع الثياب والأنسجة والمفروشات.. وتصبغها وتوشيها وتنقشها بطريقة عالية الجودة، وبالغة الجمال، وفي الحديث:” أنه (ص) كانَ يسجُد على عَبْقَرِيٍّ”، أي بساط منقوش مصبوغ، كما وردت في الآية في وصف آرائك الفردوس: “وعَبْقَرِيّ حِسَان” قال المفسِّرون: العبقري غاية كلّ شيء، وكان العرب كلما بالغوا في نعت شيء متناه وصفوه بالعبقرية ونسبوه إلى عبقر ، فصارت صفة لكل شيء رفيع، عجيب مدهش، فكأنه من أفعال الجن التي لا يمكن للبشر مجاراتها في الأعمال الخارقة، والمهم هنا أن العرب وصفوا الشعر بالعبقرية، باعتباره كلاماً معجزاً لا يمكن للبشر الإتيان بمثله، فافترضوا أن لكل شاعر جنياً خاصاً من عبقر يقول الشعر على لسانه، وانساق الشعراء أنفسهم في الجاهلية والإسلام وراء هذه الأسطورة.
2 - سامي مكي ,الإسلام والشعر, سلسلة عالم المعرفة, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت، عدد 66 , أغسطس 1996م . ص12.
3 - جابر عصفور، استعادة الماضي، دراسة في شعر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م. ص34..
4 - متحسرا بأسف على انقلاب حال الشعر و الشاعر من هذه المكانة العالية إلى حال لا يحسد عليها في زمن من وصفهم ب(الزعانفة) انظر: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،حازم القرطاجني، ص97..!
5 - قال ابن رشيق: “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان ... وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج “ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، ص17.
6 - قال ابن سلام: كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون ، ثم نقل رواية ابن سيرين لمقولة عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه... انظر: طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، ،تحقيق : محمود محمد شاكر، دار المدني - جدة، (1 / 24).
7 - للشعر في جذره اللغوي معاني كثيرة يمكن تلمس أبعادها الميثيولوجية في السياق الجاهلي، فالشعر هو العلم، والفطنة والعقل والحكمة، منه قولُهُم: ( لَيتَ شِعْرِي) أَي ليْت عِلْمِي، (وهو شاعِرٌ)، قال الأَزْهَرِيّ: لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته، وشَعَرَ به: (عَقَلَه) والشِّعْرُ منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية وإِن كان كل عِلْمٍ شِعْراً .. كما تحوم حول معاني النبات والإنبات والشجر بأبعادها الدينية شديدة الارتباط بالخصوبة فهو(الشجر الكثيف، الأرض ذات الشجر، الكثيفة الشجر،) (يقال: أرض كثيرة الشعار. وروضة شعراء: كثيرة العشب..)، كما تتعلق من جهة ثالثة بالأماكن والمناسك والقرابين المقدسة (شعائر، مشاعر،)(والمَشْعَرُ كالشِّعارِ، شعائر الحج مناسكه واحدتها شعيرة، والشعيرة: البدنة تهدى..،) ،ولمادة الشعر علاقتها بعبادات سماوية جاهلية، كنجم الشعرى، والشعرى: الكوكب الذى يطلع بعد الجوزاء، وهما الشعريان: الشعرى العبور التي في الجوزاء، والشعرى الغميصاء التي في الذراع، تزعم العرب أنهما أختا سهيل. وقد عبد الشِّعْرَى العَبُور طائفةٌ من العرب في الجاهلية ، فأَنزل الله تعالى وأَنه هو رب الشعرى أَي رب الشعرى التي تعبدونها) انظر: الصحاح، ولسان العرب، والمحكم والمحيط الأعظم، وتاج العروس من جواهر القاموس، كلها مادة: شعر..
8 - في خبر أمره بتدوين العلم: أنه كتب إلى عماله وولاته بتدوين الأحاديث والسنن “فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله “ واستجابة لذلك كلف عامله على المدينة محمد بن عمرو بن حزم” (ت117 ه)ابن شهاب الزهري( ت 124 ه)بتدوين العلم، وعن ( ابن شهاب )(ت: 124ه) قال : لم يدون هذا العلم أحد، قبل تدويني ، وشهدت هذه الفترة روّاد من دونوا العلم، أمثال ابن شهاب الزهري، ومحمد بن إسحاق(ت: 151ه) وابن جريج(ت: 155ه) وسعيد بن أبي عروبة (ت: 156ه) وربيع بن صبيح (ت:160ه). وسفيان الثوري(ت: 161ه) وحماد بن سلمة (ت: 168ه)، ومالك بن أنس،(ت: 179ه) ويعقوب . ابن أبي زائدة (ت: 183ه).. وكل مدوناتهم هي في العلوم الدينية المتعلقة بالحديث والفقه .. انظر أيضا: تاريخ الإسلام للإمام الذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي. بيروت.ط1، 1987م، ج9، ص13.
9 - ورد في خبر إنشاد الحارث بن حلزة لمعلقته الشهيرة أمام الملك عمر بن هند، وكان الشاعر أبرصا، والملك يستقذر من البرص، فأنشده (.. من وراء سبعة ستور، وهند تسمع. فلمّا سمعت قالت: تالله ما رأيت كاليوم قط رجلاً يقول مثل هذا القول، يكلم من وراء سبعة ستور! فقال الملك: ارفعوا ستراً، ودنا، فما زالت تقول، ويرفع ستر فستر، حتى صار مع الملك على مجلسه. ثم أطعمه من جفنته، وأمر ألا ينضح أثره بالماء.. وأمره ألا ينشد قصيدته إلا متوضئًا) شرح المعلقات السبع، للزوزني، دار أحياء التراث العربي، ط1، 2002 م..
10 - انظر: سامي مكي، الإسلام والشعر , ص22
11 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، جواد علي، دار الساقي، الطبعة الرابعة، 2001م، ج17، ص 125.
12 - ذكر أهل الأخبار أنه كان لكل صنم تلبية خاصة به، ومن هذه التلبيات:- لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.-لبيك أنت الرحمن، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان”-نحج للرحمان بيتًا عجباً ... مستتراً مغبباً محجباً.. انظر : علي البطل ,الصورة في الشعر العربي , من بداياته حتى نهاية القرن الثاني الهجري , دار الأندلس , بيروت , ط3 ,ص50. انظر: البداية والنهاية - (2 / 237)والأصنام لابن الكلبي. والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - (11 / 40).
13 - يقول البغدادي: (ومعنى المعلقة أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة، في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرا لقائله، وعلق على ركن من أركان الكعبة، حتى ينظر إليه .. وأول من علق شعره في الكعبة أمرؤ القيس وبعده علقت الشعراء) خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق : محمد نبيل طريفي/ أميل بديع اليعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م، ج1، ص137.
14 - كثير من هذه الروايات حول المعلقات، وسبب تعليقها، مصدرها ابن الكلبي(ت: 204ه) ، وتزيد فيها المتأخرون: انظر: تاريخ الأدب العربي للرافعي، و المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، ج17، ص254”.
15 - رغم إجازة بعضهم قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء، حسب ما نقله عاصم بن جريج عن عطاء انظر: أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف – القاهرة، الطبعة الأولى، 1965. ص57.
16 - عبد العزيز إبراهيم , شعرية الحداثة, اتحاد الكتاب العرب, دمشق, 2005م. ص156،157 “
17 - نقل الجاحظ عن أبي عمرو بن العلاء قوله:( كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، بفرط حاجتهم إلى الشعر ... فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر ... قال: ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة).
18 - يبدو من مصادر التراث العربي أن سدانة الأصنام والآلهة الوثنية كانت في العصر الجاهلي قد تحددت كحرفة لاهوتية محتكرة وراثيا لأسر معينة، كما أن سدنة المعابد الجاهلية التي احتفظت المصادر التاريخية ببعض أسمائهم، لم يكونوا من الشعراء، وإن ذكر ابن الكلبي لبعضهم شعراً واضح الانتحال.. انظر كتاب الأصنام لابن الكلبي.
19 - البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق : المحامي فوزي عطوي، دار صعب - بيروت، الطبعة الأولى ، 1968م. ص134..
20 - الأوذيسة، هوميروس، ترجمة/ دريني خشبة، مكتبة دار الكتب الأهلية، القاهرة، ص5
21 - يعتقد بعضهم أن نداء امرئ القيس في مطلع معلقته الشهيرة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
كان موجها لشياطين الشعر الذين يعينوه على قول الشعر، أو يوحون به إليه، شيطان واحد ، أو شيطانين، أو شياطين، “لأن العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع” ، كما يرى على البطل أن أسماء الحبيبات في القصائد الجاهلية، ك”هريرة”، تتعلق برموز ميثيولوجية، ويحتاج الأمر إلى مزيد من التمعن حول هذه الاحتمالية التأويلية للمطالع الجاهلية.. انظر مثلاً: الصورة في الشعر العربي، حتى آخر القرن الثاني الهجري، دراسة في أصولها وتطورها، علي البطل
22 - عبد الحميد إبراهيم شيحة، مدخل إلى دراسة الأدب الجاهلي، دار الهاني للطباعة والنشر، القاهرة، 1988م.ص85.
23 - انظر مثلا: الصورة في الشعر العربي، حتى آخر القرن الثاني الهجري، دراسة في أصولها وتطورها، علي البطل دار الأندلس، بيروت، 1983 . والأسطورة في الأدب العربي، للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، كتاب الهلال, دار الهلال، القاهرة، 1983، ومذاهب الحسن، قراءة معجمية تاريخية للفنون في العربية، شربل داغر، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع بيروت ، الطبعة الأولى، 1998م، وغيرها..
24 - الكتابان متداخلان منهجيا وموضوعيا، وزمنيا، وهما: “أصول الشعر العربي”، ل”ديفيد صمويل مرجليوث”، نشر عام 1925م، وترجم إلى العربية عدة مرات، أما كتاب “طه حسين” فهو : “في الشعر الجاهلي” ، نشر أيضا عام 1925م، وأحدث ضجة كبيرة، وقام المؤلف تحت ضغوط معينة على تعديله ونشره بعنوان “في الأدب الجاهلي”، وفي كليهما كان غياب العنصر الديني في الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا سببا رئيسيا في الشك به كليا أو جزئيا، والقول بأنه كله أو جله وضع بعد الإسلام..! .
25 - قال “أبو عمرو بن العلاء”: “ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير”. انظر/ مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسد، دار المعارف بمصر، الطبعة : السابعة 1988م، ص87.
رابط المقال على الفيس بوك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.