يعاني المجال السياسي العربي من الناحيتين: النظرية والعملية أزمة شاملة جوهرها متمثل في أزمة المرجعية, أو أزمة الإطار المرجعي الذي يحدّد نطاقاً معيّناً لحركة الموقف السياسي واتجاهاته نحو القضايا والأحداث. ابتدأت مظاهر أزمة الإطار المرجعي في التجلّي الواقعي مطلع التسعينيات من القرن الماضي, حين انتهت حقبة الحرب الباردة بسقوط المعسكر الشرقي ومعه المرجعية الاشتراكية, وهو ما أشير إليه حينها بسقوط الأيديولوجيا, أو المرجعية العقائدية في المجال السياسي عند فريق من الفلاسفة والمفكّرين, أو نهاية التاريخ وسيادة المرجعية الغربية بوجهيها الديمقراطي سياسياً والسوق اقتصادياً عند فريق آخر, وإن بقي بين الرؤيتين هامش لما يُعرف ب«الطريق الثالث». فرضت فلسفة صراع الحضارات إطاراً مرجعياً للسياسة الدولية تجاذبته ثنائية الإسلام والحداثة الغربية, وتقاسمته أميّة بوش الابن “بتحديد الخيار السياسي بين إما مع الولاياتالمتحدة أو ضدها” في مقابل فسطاطي بن لادن, لكن هذا الإطار المرجعي وظّف سياسياً لتبرير حروب القطب الواحد للهيمنة على العالم, فتكسرت مرجعيته تحت جبروت القوة وبطشها بكل الأطر المرجعية الحاكمة بقيم الحق والعدل للسياسات الدولية. حتى الإسلام الذي يشكّل بقيمه الدينية إطاراً مرجعياً لحركة الفعل السياسي, اختطفته يد «القاعدة» ليبقى في مواقع الدفاع عن نفسه من تهمة الإرهاب التي تمكنت من اختزاله في الخطاب المنتج داخل كهوف «القاعدة» والخطاب الخارج من دهاليز المخابرات وحروبها الشاملة والمفتوحة بلا حدود أو قيود ضد مسمّى «الإرهاب» وبذلك ظلت أزمة الإطار المرجعي مستحكمة في المجال السياسي المحكوم دولياً بالهيمنة العسكرية وقانون قوة القطب الواحد. تتفاقم أزمة الإطار المرجعي في الوقت الراهن ضمن سياق تاريخي محكوم بالتحوّل في النظام العالمي من أحادية القطب إلى تعددية الأقطاب, لكن تجليات هذا التحوُّل في الواقع العربي, على الأقل, منذ انطلاقة أحداث ما يسمّى «الربيع العربي» تشير إلى حدة تأزم المجال العربي فيما يخصّه سياسياً من الإطار المرجعي, خاصة في جوانب العلاقة مع حلف الأطلسي والسيادة الوطنية والتنمية المستقلّة وتحرير فلسطين والوحدة العربية. والمسألة هنا هي أن التفريط بالسيادة الوطنية شرعنته فتاوى الاستعانة بالقوة العسكرية الأجنبية التي أتيح لها العدوان على الأقطار العربية بدعوى تحريرها من الطغيان, ومع هذا التفريط جاء القبول باقتصاد السوق والتفتت الطائفي ليكشفا عن سياسة تتحرّك بين الناس منفلتة من أي ضوابط مرجعية تقيّد حركة الموقف السياسي واتجاهاته الداخلية والخارجية, وخصوصاً من أحزاب التيار الديني التي انقلبت عن التزاماتها المرجعية إلى نقيض ما كان عليه خطابها قبل «الربيع العربي» فيما يخص موقفها من الكيان الصهيوني وصندوق النقد الدولي, وتأييد وتبرير التدخل العسكري الأطلسي في الأقطار العربية. أدّت أزمة الإطار المرجعي لحركة الفعل السياسي إلى تشظّي الهوية الوطنية وتفتت الكيان المجتمعي إلى اتجاهات انعزالية تفرّقت بالدين طائفياً ومذهبياً ومزّقت وحدتها الوطنية في نعرات جهوية وفئوية, أسهمت مجتمعة ومتفرّقة في إخضاع الأقطار العربية للهيمنة الأجنبية والوصاية الغربية المباشرة وغير المباشرة, حتى إن هذه الوصاية صارت هي الإطار المرجعي لمواقف القوى السياسية بمختلف تياراتها. ومع هذا التأزُّم المتزايد في الإطار المرجعي للفعل السياسي العربي, تحكمت الأهواء والأحقاد في الصراع السياسي وهيمنت المطامع والشهوات في مواقف القوى السياسية تجاه بعضها فساد العنف وتوسعت دائرة الاقتتال الأهلي والتدمير الذاتي وتفرّقت القضية الوطنية بين الدوائر الانعزالية وعصبياتها المدمّرة, حتى إن المشكلات الجزئية الخاصة بجزء من المجتمع أو جهة من الوطن تصدّرت المشهد مغيّبة إطارها الوطني العام, كما هو الحال في ملف القضية الجنوبية وقضية صعدة في اليمن. وإجمالاً فإن أزمة الإطار المرجعي تتجلّى في انهيار حدود الموقف السياسي وتحرُّره من الضوابط التي تحدّد حركته وتقيد اتجاهاتها نحو القضايا المحورية والأحداث المتصلة بها, بحيث شهدنا مواقف سياسية متحرّرة من قيد الموقف الأخلاقي ومتجاوزة حدودها الوطنية والقانونية تجاه الخصم السياسي في سلطة الحكم والمعارضة؛ إذ لم تغب لغة التسامح والتصالح بل ذهبت بنا الأحقاد إلى جرم الخيانة والعدوان, وجرائم الفتنة الطائفية والمذهبية والاستعانة والارتهان لقوى البغي والعدوان. وأخطر ما يتهدد مستقبلنا من تداعيات التأزم الشامل في الإطار المرجعي هو تنامي النزعة العدوانية بين مكوّنات المجتمع الواحد, والغياب التام لدعوة الخير الجامع لكل أبناء الوطن الواحد, ما يهدّد وجودنا بالاقتتال والأطماع إلى اجتثاث بعضنا بعضاً، فقد هيمنت على خطابنا ومواقفنا لغة الحقد ومنطق البغضاء بعيداً عن مرجعية الخير الجامع لنا بقيم العفو والتسامح وأمر العدل والإحسان. [email protected]