لا شيء أبقى وأقوى من الفكر ومهما حاول مناوئوه كتم أنفاسه بقتل أصحاب هذا الفكر أو التضييق عليهم في عيشهم ،يظل الفكر ظاهراً ،بل تكون هذه المحاربة له وسيلة لإظهاره وانتشاره كأنه عودٌ زاده الإحراق طيباً.. التفاته إلى التاريخ الإنساني الطويل تأتيك بالأخبار منْ لم تزودِ ، ففي الحضارة الإغريقية القديمة يصادفنا أشهر السفسطائيين بروتاجوراس (490 – 420 ق م) صاحب المقولة الشهيرة “الإنسان مقياس للأشياء” فقد تم اتهامه بسب الآلهة، وأحرق كتابه في ميدان عام بمدينة أثينا. بعض السطور القليلة التي أنقذت من الحريق كانت تشكك في وجود الآلهة وتقول: “أنا لا أعرف شيئاً عن الآلهة”. وبعده يأتي الفيلسوف المشهور سقراط (399 – 469 ق م) الذي كان بحثه عن الحقيقة إحراجا لشخصيات كبيرة وهامة من مواطنيه ،فتآمر أعداؤه عليه، واتهموه كذبا بإفساد عقول شباب أثينا بأفكاره التي ينادي بها وقاموا بمحاكمته وحكموا عليه بتجرع سم الشوكران، وبعده تأتي الفيلسوفة هيباتيا السكندرية (380 - 415م) التي تعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات والتي عرفت بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، ومعارضتها للإيمان المجرد، فكان التفاف جمهور المثقفين حولها يسبب حرجاً بالغاً للكنيسة المسيحية التي حرّض أسقفها الغوغائيين على قتل هيباتيا، فقاموا بجرها من شعرها، ونزع ملابسها وجرها عارية تماماً بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا فيها النيران. وفي تاريخنا الإسلامي لم ينجُ المفكرون من الاضطهاد بسبب أفكارهم فها هو الإمام أحمد بن حنبل (164 - 241 ه ) يُحبس ويُضرب بالسياط بسبب عدم إجابة خلفاء بني العباس إلى ما أرادوه في فتنة خلق القرآن ، و الحلاج (244 - 309 ه) المتصوف المشهور يلاقي ربه مقتولاً لعبارات رددها فاتهم بالزندقة فقُتل ، و السهروردي المقتول في قلعة حلب سنة 586 ه، بأمر صلاح الدين لما اتهمه الفقهاء في أفكار روّج لها .. ومن أغرب الظواهر في تاريخنا الإسلامي هي ظاهرة إحراق الكتب الفكرية ،فقد شهدت بلاد الأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة هذه الظاهرة بأمر من السلطة؛ ففي عهد أمراء الطوائف أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري (384 - 456 ه ) ،وفي عهد أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين أحرقت كتب الإمام الغزالي (450 - 505ه)، وفي عهد أمير دولة الموحدين المنصور أحرقت كتب القاضي ابن رشد (520 - 595 ه) ، وقد تعرض هذا الأخير إلى تهمة التكفير من قبل فقهاء عصره على الرغم أنه كان قاضي القضاة فلُعن وطُرد من مسجد قرطبة، وحبس تحت الإقامة الجبرية في قرية الليسانة اليهودية. وعودة للتاريخ الأوروبي في عصر النهضة نجد أن الكنيسة ومن ورائها السلطة حاربت كل فكر جديد بحجة أنه يخالف الكتاب المقدس ، فقد أحرق جوردانو برونو (1548 1600م) لقوله أن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نظم تغطي الكون في صورة نجوم وألوهية ولانهائية الكون. كما افترضت نظريته إن كل من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى، ولاحقت محاكم التفتيش العالم الفلكي الشهير جاليليو (1564 -1642م) لإجباره على ترك مقولة أن الأرض تدور مهددة إياه بتهمة الهرطقة التي لها عقاب واحد وهو الحرق ، فكان أن رضخ لكنه لمّا خرج من قاعة المحاكمة ضرب الأرض برجله قائلاً عبارته المشهورة « لكنها تدور ».. ولا ننسى واحداً من فلاسفة التنوير العقلاني في القرن السابع عشر إنه باروخ سبينوزا (1632 - 1677م) الذي نُبذ من أهله ومن الجالية اليهودية في منفاه بسبب إدّعائه أن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية هي عبارة عن استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة اللهّ ، بل حاول أحد المتعصبين للدين طعنه، لكنه نجا … ونختم من عصرنا الحديث بنموذج من عالمنا العربي و هو الشيخ علي عبدالرازق (1888 - 1966م) القاضي الأزهري الذي ثارت الدنيا ضده لمّا أصدر كتابه “الإسلام وأصول الحكم”- نادى فيه إلى عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام- فسحب منه الأزهر شهادته العلمية ، ومنع كتابه من التداول بين العامة.