وفاة طفلين ووالدتهما بتهدم منزل شعبي في إحدى قرى محافظة ذمار    رئيس الاتحاد العام للكونغ فو يؤكد ... واجب الشركات والمؤسسات الوطنية ضروري لدعم الشباب والرياضة    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    أمطار رعدية على عدد من المحافظات اليمنية.. وتحذيرات من الصواعق    إعلان حوثي رسمي عن عملية عسكرية في مارب.. عقب إسقاط طائرة أمريكية    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن بقوة السلاح.. ومواطنون يتصدون لحملة سطو مماثلة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوطن في شعر المقالح
نشر في الجمهورية يوم 11 - 03 - 2007

أولاً : أشير بداية إلى أن الشاعر عبد العزيز المقالح أحد أهم رموز الشعر العربي المعاصر باعتباره استطاع بثقة وتميز أن يأتي إليه ويرتاده ويوطد حضوره على الساحة الإبداعية العربية ، ويؤكد قدرة هذا الشعر وعلى وجه الخصوص "التفعيلي" أن يكون في مستوى إيقاعات الزمن المعاصر الذي يحتاج إليه الإبداع العربي انتصاراً للفكر وللذائقة العربية دلالياً وجمالياً .. نحن إذاً بمنظور زمني نضعه إنصافاً في طليعة الشعراء العرب الذين استجابوا بتمكن للمتغير الأفضل وقدموا تجربة ثرية لا يمكن بأي حال من الأحوال إلاّ أن تجد نفسها في الصدارة لكونها عبّرت عن حاجة الخارطة الإبداعية العربية إلى التفتح والإدراك وعمق وغزارة المعنى ، وإلى الفضاء النقي لفتح آفاق خصبة على ما ينبغي أن يكون من أجل جعل المستقبل حاضراً بقوة لدى الأجيال التي عليها أن تتبصر جيداً تاريخها والبناء عليه عبر الوعي بالقصيدة في سياقها الزمني الذي لا يمكن أن يجسد أمال وهموم وتطلعات الإنسان العربي إلا من خلال لغة ثرية لها تشكلها الممتد روعة وحاجة إلى علاقة الذات العربية المبدعة بعالمها في محيطها الإنساني والكوني .
الشاعر عبد العزيز المقالح بهذا المعنى من جيل الريادة الذي استطاع أن يخلص بنقاء إلى الجديد ويؤصله معنى في الحياة الأدبية وليس الاشتراط هنا أن يكون أول من قدم هذا اللون ، فنحن ندرك جيداً اسبقية السياب ، نازك الملائكة ، وغيرهما إلى هذا الإبداع الشعري ، ولكن بالمقابل فإن شاعرنا المقالح من وجهة نظر فاحصة لا يقل شأناً في حضوره وفاعليته وتأثيره على مستوى جغرافيا الإبداع الشعري العربي عن الأوائل لكونه قدم التجربة برؤية خلاقة ولغة تغاير المألوف وتجيد حد الدهشة الارتباط بما هو أصيل.
ولأنه أيضاً أخلص لهذا العطاء من منطلق تكوينه الثقافي التأملي الواعي الذي أتى إليه مستلهماً معاني الريادة في قوة الحضور والانتشار بحيث يمكن القول أن أي دارس للشعر العربي المعاصر يريد أن يؤرخ لمفاصل القصيدة العربية العميقة المعنى والحضور لا يمكنه مطلقاً القفز على ما قدمه الشاعر باعتبار ذلك يخل حقيقة بالمنهجية والأمانة العلمية أولاً وبالمصداقية ثانياً ذلك أن الشاعر المقالح في تجلياته الإبداعية أنجز سفراً يعد إثراءً إنسانياً في المقام الأول .
ثانيا : على المستوى الوطني
نستطيع القول بثقة أن الشاعر عبد العزيز المقالح يعد البوابة الرئيسية التي عبرت منها الحداثة الشعرية إلى الوطن لتتموضع بقوة على صعيد الواقع فكأنها النهر الذي جرى وما يزال يجرى منه التغيير في مسار التطور الإبداعي على مستوى الشكل والمضمون ، وهو بهذا العطاء الإبداعي قدم الأنموذج الحيوي لمعنى الريادية بلا منازع واستطاع بحسه الإبداعي وعمق وعيه بأهمية الخروج من أسر الماضي المحبط والاغراق في النمطية التقليدية أن يرسي دعائم قوية الإبداع يصب في مجرى التطور النهوضي الذي لابد أن يواكب الزمن ويؤكد استحقاق الوطن وحاجته لإبداع وقدرته في الانحياز إلى ما هو أكثر امتداداً للذات المبدعة ، بهذا المعنى .. الشاعر المقالح منطلق تكوين للرائع، نعتقد أن لولا حضوره في هذا الحقل الشعري المتميز والرصين في زمن "الوطني" وفيه في أشد حاجة إلى المغايرة والخروج من الرتابة لكانت القصيدة المعاصرة بكل تجلياتها التي نراها الآن - لا تزال في أحسن الأحوال جنينية وعلى استحياء تقدم نفسها - لولا هذه التجربة المبكرة على المستوى الوطني التي اشتغل عليها بجدارة وحب وتوق على الأفضل الشاعر المقالح فاستحق أن يكون مركز الإشعاع الشعري الأنيق الذي يظل مشرقاً على الدوام
ثالثاً : الوطن في شعر المقالح :
يحتار المرء كثيراً وهو يتجول في روائع الشاعر من أين يأتي إلى هذا الذي يتملكه حد التماهي (يصير هو هو؟) وهل بمقدوره أن يقف على كل ما جادت به قريحته ؟ أم أنه أمام تنويعات تمثل تخوماً صعبة لأي قارئ منصف يريد أن يقف عليها ؟ ؟
الواقع أننا أمام جغرافيا شعرية ثرية ، متنوعة ، وبالمقابل هي في مستوى إبداعي سنتمتري تتناغم فيه مكونات القصيدة لغة ومعنى رؤيا فنية وموضوعية ، إتساق تام بين الدال والمدلول بحيث نجد سخاء المعنى يقابله بذخ في الصور الجمالية المتآزرة ضمن بنية شعرية مكثفة لها علاقاتها المتداخلة ولها إشراقاتها ككيان نصي إبداعي يقدر عليه الشاعر حين الاشتغال عليه ، لكونه يمتلك بقوة استحضار القصيدة والتعايش معها ومن ثم رسمها بتفنن وشفافية وشعور راق باللفظ من حيث هو تركيبة إبداعية لا مجال فيها للزائد الذابل ولا للمعنى الباهت الآسن .. القصيدة لديه وفق هذا المنظور .. في مستوى جمالي متناغم يأخذ المتلقي ضمن اشتراطات الإبداع إلى حيث المعايشة تبقى رقياً ذوقياً في فضاء المعنى وسخاء الكلمات :
"واسع وعميق هو الجرح
أوسع من وطن في الظلام
يفتش عن ظله
وكبير هو الطفل
أكبر من كل هذي الحشود
وأطول من ناطحات ال … "
بهذه الروح المتدفقة يقرأ الشاعر وطنه ليجد أنه مساحة ألم بفعل هذا الاغتراب الحقيقي عن كنه الأشياء ومكونات الحياة التي لم تعد ممكنة القراءة ويحتلها الغموض والعبثية التي تقود إلى وجع لا ينتهي وجراح أكبر من هذا الذي لا يرى فيه معنى للضوء غير اللاإرادية والتخبط :
"أوسع من وطن في الظلام ..
يفتش عن ظله "
من أجل ذلك ثمة آخر يحضر أنه "الطفل" الذي يقرأ فيه ما كان يريده ويطمح إليه، براءة المستقبل الواضح وعناوين الفرح التي كان يمكن أن تستمر دونما البقاء في المجهول الظلام" .
إنها إذاً ذات الشاعر الأخرى التي يحن إليها ويتوجع لغيابها وهو توجع يفضي إلى المقارنة بين الرغبة والتوق الذي يحن إليه ولا يجده وبين الواقع واعتمالاته المتمثلة في الحشود ليجد أن كل المتشكل يبدو صغيراً أمام البراءة والضوء :
"وكبير هو الطفل ..
أكبر من كل هذه الحشود
وأطول من ناطحات ال… "
بهذا الوعي الإنساني العميق والروح التواقة للإبداع ورغبة التجاوز اللقهرية إلى مناطق الحلم والضوء والفرح .. يبقى الشاعر المقالح هو الذات المسافرة على قلق في أرجاء الوطن يتهجاه أحرف ويستنطقه واقع ويرنو إليه أملاً حيناً ومستحيلاً حيناً آخر :
"في النهار الحزين
يقلب عينيه في الشمس ..
هل تدرك الشمس محنته ؟
وهو في الليل يقرأ وجه الظلام الكئيب
لعل النجوم تمد له كفها
وتعيد إليه مناقب وحدته ،
وتحرر أطرافه من زمان المزاد .. .
من أجل كل هذا الذي يأتي إليه متدفقاً ليغمره عشقاً لا فكاك منه نجد معنى التجاذب الذي يتداخل معه ومعنى ما يقع فيه من حالات قبض وأخرى بسط وفق الرؤية إلى الواقع وما يمده به من معاني لا يمكنه معها إلا أن يسير في الاتجاه الذي يكمل به حلمه ويستودع فيه ظنونه ، ويشعل في ذاكرته أسئلة تعبر عن حيرته وخوفه وقلقه وحالة أن يكون الوطن غير واضح المعالم ومحدد الاتجاه وهو ما يشكل معاني أخرى ارتيبابية للصبح والعصافير وندى الفجر والزهور واللاجواب ليبقى البحث هو التعب والأسئلة التي لا قرار لها :
"هل الصبح مكتئب
أم هي العين ، يا وطني ؟
هل تغني العصافير
أم تصطلي فوق نار الليالي
مناقيرها ؟
أندى الفجر هذا الذي يتساقط
فوق بقايا الزهور البريئة
أم دمعة الكائنات الكئيبة ؟
أسئلة لا قرار لها
لا مدى ..
كيف ،
من أين تأتي الإجابة ؟؟ "
هكذا تبدو علاقة الصورة في هذا النص بنقيضها وتأخذ طابع الضدية لأن ثمة اختلالاً في الوظائف الطبيعية حين تصير للعادات ما يغايرها وينتقل بها من الإيجابي إلى السلبي ضمن تساؤل دائري يفضي إلى الحيرة واللامعرفة حيث النص يبدأ بالسؤال الارتيابي إلى الوطن :
"هل الصبح مكتئب ..
أم هي العين ، يا وطني "
لينتهي بالتساؤل الذي يأخذ طابع الحيرة والتعجب :
"أسئلة لا قرار لها
لا مدى ..
كيف ،
من أين تأتي الإجابة ؟ "
والشاعر إذ يطلق سؤاله الأول للوطن باحثاً عن شيء ما يستعيد به توازنه في رؤيته للعالم كذات قلقة فإنه في نهاية النص يرتد إلى ذاته ويسأل نفسه التي ينعدم لديها الجواب لفرط هذا الاختلال لحياتي فالخيار الذي يشعله الشاعر سؤالاً يلقي به لوطنه :
"هل الصبح مكتئب ..
أم هي العين ، يا وطني ؟"
هذا السؤال يفضي إلى نتيجة واحدة وهي أن الكآبة محصلة هذا العالم ، أكانت تصدر عن الصبح أم هي الرؤية "العين" أو الذات المهمومة بالوطن التي تبحث عن حوار ما مع الآخر عبر السؤال عن مصدر الكآبة ، وفي كل الأحوال يبقى هذا الخيار مفتوحاً مع الكائنات العصافير ..
"هل تغني العصافير ..
أم تصطلي فوق نار الليالي
مناقيرها ؟ "
إن انعدام المعرفة بكنه الصادر منها واختلاله كمعنى في ذات الشاعر يكشف عن عمق هذه المعاناة التي تسيطر عليه بفعل انعدام التجانس بين الأشياء وهي على حقيقتها ومكونات الحب التي غدت في هذا النص تأخذ طابعاً مغايراً للإيقاع الذي يمد الوطن بالروعة والجمال ليتحول الندى على الزهور البريئة إلى دمعة الكائنات الكئيبة" .
إن هذه الشمولية التي تعم الزمان والمكان وكل ما له علاقة بالحياة صار بفعل سؤال القلق والحيرة معادلاً موضوعياً لذات الشاعر التي تتوجس خيفة من أن تكون التركيبة الأخرى للوطن هي الكآبة فتغدو العين ، الصبح ، العصافير ، ندى الفجر ، الزهور البرئية قابلة لتحولات أخرى تعكس القتامة والفوضى والقلق الذي ينجم بفعل رؤية الوطن غير مستقر أو مهيأ لما ينبغي أن يكون عليه من حياة يكون للصبح معناه الجميل وللعصافير الغناء وللزهر الندى .
بهذه الروح التي تفيض حباً وغيرة على الوطن وتريده سمواً وجلالاً وروعة نجد الشاعر يتخذ من المفردات الأنيقة في اللغة منطلقاً لصياغة رؤيته الشعرية التي تكشف عن طبيعة العلاقة بين الذات والوطن التي تصل إلى حد التأمل الدقيق لتفاصيل الحياة ومتابعة إلى أين يؤدي المتغير فيها من دلالات يصير معها الشيء إلى نقيضه :
"كانت الأرض خضراء
من غير سوء ،
وكان الندى لؤلؤً
والعناقيد ماء ،
كان لون الحياة كما ينبغي
والزمان كما ينبغي ..
ا إلهي لماذا تغيرت الأرض
والناس ،
صار الندى حجراً
والأغاريد صارت بكاء ؟ "
إن استخدام الشاعر للفعل الماضي الناقص "كانت الأرض ، كان الندى ، كان لون الحياة" له دلالته في استنطاق الذاكرة لطبيعة الحلم الذي أرادته أن يتخلق في الوطن كما كانت ترغب فيه ذات الشاعر التي ظلت على اتصال تتابع بدقة تفاصيل الحياة وقد غدت بفعل اللامنضبط واللامتجانس مع الحلم وذاكرة الشاعر كما هي "أرض خضراء ، الندى لؤلؤاً، العناقيد ماء … إلخ" . نوعاً من هذا اليابس الجامد والبكاء :
"صار الندى حجراً
والأغاريد صارت بكاء "
هكذا التحول من الجمال المرتب المتناغم إلى الضد هو الذي يجعل الشاعر يطلق سؤال الحيرة والرجاء في آن ويخاطب الذات الألهية وهو في حالة ألم من هذا الذي اعترى الأرض ومن عليها :
"يا إلهي لماذا تغيرت الأرض ..
والناس ، "
التغير هنا ليس إلى الأفضل لذلك يأتي اسم الاستفهام "لماذا" بحثاً عن سبب أو عله لهذا المتغير الذي لا يجد له ما يسوغه سوى أنه قد أحدث تأثيره الواسع في تحول الندى إلى حجر والاغاريد إلى بكاء والشاعر إذ يطلق تساؤله إلى الذات الإلهية بنوع من الألم الداخلي العميق الذي يظهر في حرف النداء "يا إلهي" فإن هذا الألم يتمظهر في المغايرة لما كان
"وكان الندى لؤلؤاً ..
والعناقيد ماء
صار الندى حجراً
والأغاريد صارت بكاء "
أن الشاعر المقالح بهذه الروح المترعة بالتقوى وبالعلاقة الوطيدة مع الوطن وسر ما تشي به الحياة من إيقاع وتنوع يدرك أهمية انسجامه وتراتبيته دونما أية اختلالات تحدث فوضى واضطراباً وقلقاً للوجود الذي يبدأ من ذات الشاعر وهي على توحد يصل حد التصوف مع الوطن ، كما أنه يكشف لنا عن عمق الخوف من أن تتبدل الحالات الجميلة وتأخذ طابع الخوف والموت والخيبة لذلك فإنه يعوذ بالله من متغير يخل بالنظام الحياتي وطبيعة الانسجام :
"أعوذ بك الله من أرق في عيون النجوم
ومن قلق في صدور الجبال
ومن خيبة في نفوس الرجال
ومن وطن شاهر موته
يتأبط خيبته
يتكون خوفاً من الذاكرة" (ابتهالات ، المجلد الثاني ص 197.
بهذا المعنى شعر عبد العزيز المقالح يستوطن القلب ويفتح نوافذ الرؤية إلى البعيد لنرى الكثير من المشتهى قابلاً للتشكل كما هو قابل أيضاً للغياب جراء التناقض والمغايرة لما هو انسجام وتجانس ومصدر فرح وأمل . .
"بين نوم ونوم على مرفأ الروح ،
أفتح نافذة القلب
أهرب عبر شبابيكه ،
لزمان مضى
لحدائق كانت
لورد ترنح في لونه ..
في الأريج
لحلم صعدت به صوب لا أرض
لا خوف
حيث انتقت لي أصابع روحي
قصائد من ذهب الكلمات ..
وحين أعود إلى كتبي وفراغي
هاجمني عبر نافذة الصمت والخلوات
عواء الذئاب
أشم احتراق الحدائق
رائحة لدم الكلمات
بكاءً عميقاً لأوردة الياسمين"
وفي هذا السياق الشعري المعبر عن مخاوف الشاعر التي تناوشه بين الحين والآخر وحنينه الدائم إلى الخلاص بين شر ما يحيق بوطنه أو يدبر له .. تظل القصيدة تجسيداً خلاقاً لمعان إنسانية نبيلة ومشاعر مهذبة إزاء ذاته الأخرى الوطن بكل ما فيه من بشر وأشجار وأحجار ، وضمن هذا الولع الدائم لا يستطيع إلا أن يصرح ويقاوم ويعلن الانحياز القوي لدم الشهداء ونبل الهدف وسمو الغاية ، ويقبل بالكثير من التعب والتحدي لأن ثمة ضوء وبارق أمل وحياة حب لابد أن تسكن الوطن وتعم أرجاءه والطيبين من أبنائه .
هكذا الشاعر المقالح أسير الذات الخلاقة التي تنطلق في تحديد بوصلة الشعر من قراءة العميق في الإنسان بكل ما يعتريه من ظنون وهواجس ومن رغبات وتوق إلى الأفضل وبكل ما ينتابه من تطلعات تصل إلى حد النزق والأرق مرات وأخرى إلى حد الثقة بالضوء والنجوم والفرح والاكتمال ، هكذا تضاريس القصيدة لدى الشاعر في تناولها للوطن ، فضاء مفتوح على جميع الاحتمالات يقبل بالشيء ونقيضه ، ذلك لأن معركة الإنسان من أجل تموضع أحلامه لم تنته بعد .. وأن الكثير من الشائك المعقد مستمر في حضوره وأن الوطن وهو يواجه كل هذا المكثف من الأمل والألم ، الحب والكره ، الحزن والفرح، يحتاج إلى الإبداع والقصيدة تعبر عن هذا أيضاً إنها بنقاوة المعنى وطهر الحرف والشفافية في فهم كنه الأشياء حتى وهي تختل وظائفها وعاداتها ، تشي برغبة الانتصار لقيم الحب والخير والجمال ، والأستاذ الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح أتقن الدخول إلى هذا المشتهى منح الوطن الكثير من الإيقاع الرائع أعطاه القصيدة التي تفيض سخاء جمالياً لا يمكن معه إلا أن نبقى أسرى هذا الرائع وهو يمتد من الوطن إلينا .
هكذا الشاعر عبد العزيز المقالح ذات تستكنه العالم تجوب بأرجائه تريده متعافياً وأنيقاً حد الدهشة لا تقبل بأي اختلال يحاول أن يجر الوطن بكل ما فيه من هموم وآمال وتطلعات وأحلام بيضاء إلى مستويات أخرى تنعدم معها الرؤية ويصير لكل شيء ما يخالفه ويتضاد معه وحينها يفقد الوطن معناه ويصير الإنسان غير فاعل أو معبر عنه في النظام الجمالي الذي تتوق إليه ذات الشاعر وتبحث بقوة في النجوم والزهر والصباح والأرض والإنسان في ذات الرمل وعناقيد العنب في الحلم واليقظة على حد سواء .
ضمن هذا الإدراك يتخلق هم الشاعر المقالح ويكتسب النص الشعري لديه إيقاعات أكثر من رائعة إنها تجسد في تناغمها انضباطية أرادها الشاعر أيضاً أن تكون بذات المستوى جمالياً في الوطن .
هو لذلك يحول الحلم إزاء الوطن إلى واقع عبر القصيدة التي يقدر على تملكها وصياغتها بمستوى الحنين إلى الأفضل على الدوام وطنياً .
وهو حنين يمده بطاقة جمالية قل أن نجدها لدى شاعر آخر لذلك الصورة لديه تنهال غزارة وتتلاحق في إيحاءاتها ومعانيها كل يفضي إلى الآخر ويتآزر جمالياً ليقدم أرقى ما تريده الذات لعالمها ، وقد يؤرقها ولكنها مع ذلك تخرج إلى فضاء القصيدة وهي على دراية بأن هذا الهم الوطني الذي يطل على الدوام من ثنايا أعماله الشعرية الكاملة الثلاثة هو خصوصية يمتاز بها الشاعر المقالح عن غيره باعتباره استوعب مجمل التحولات وعاشها عقلاً ووجداناً وعبر عنها إبداعاً وموقفاً وانتصر لها قضية على الدوام لا تقبل المهادنة أو المغايرة .. بهكذا مألوف إبداعي نعي نحن معنى الكثير مما تحمله نصوص الشاعر الكبير الأستاذ الدكتور/عبد العزيز المقالح من هواجس وظنون ومن ألفة ورقة وحب أيضاً ومن احتجاج وغضب وقلق وإدانة للسلبي ومن معان دلالية وجمالية تأخذنا حد النشوة بها والتغني حد الوله بتركيباتها وإيقاعات صورها المنتظمة والتي يبرز فيها الصفاء كالماء والرونق ، وآية ذلك أن تجربة شاعرنا الكبير أطال الله في عمره ثرية وخصبة ومتنوعة وحافلة بالكثير من التجارب الحياتية والثراء الفكري والثقافي الذي يمكنه من الاقتدار على شق غمار القصيدة وامتلاك خاصيتها وتفعليها بالمستوى الذي يجب أن تكون عليه حال العملية الإبداعية في سياقها الزمني والموضوعي والفني.
والمقالح الشاعر الكبير والذي أعطى بلا حدود وقدم من أجل الوطن تجليات مدهشة ورائعة لا يمكن للمتابع أو الدارس أن يأتي على نصوصه الشعرية لأنها تتطلب الكثير من التبصر والتأمل لهذا الغزير إبداعياً
هوامش
1- من قصيدتين إلى طفل الشمس ، الأعمال الكاملة ، المجلد الثالث ص (362) .
2-" أمطار وحدوية ، الأعمال الكاملة ، مجلد 3 ص 370 3- "وطني" الأعمال الكاملة المجلد الثالث ص 556.
4-(لؤلؤ الندى ، المجلد الثالث ص 559.) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.