منذ عشر سنوات غادر صاحب الغرفة العلوية غرفته بعد أن أغلقها كعادته ثم لم يعد.. أخذت مفتاحها وأدرت أكرة الباب ببطء وكأنما أخشى أن تستيقظ الأشياء التي في انتظاري، دخلت بمفردي وأغلقت الباب خلفي، شممت رائحة غريبة ليست عطرية ولانتنة ولكنها مريحة مخلوطة برائحة غبار عتيق.. لأول مرة في حياتي أحس بثقل أنفاسي وكم كانت مثيرة للإزعاج! كانت هناك أشياء كثيرة مهملة يغطيها الرمل تماماً المنضدة.. المكتبة.. سرير النوم.. دولاب الثياب، المعاطف المعلقة، مطفئة سجائر مازالت بها أعقاب بالية، قناني عطور رخيصة، أمشاط منوعة، مظروف مفتوح بداخله رسالة، زجاج منثور تتكسر عليه إضاءة لمبة الغرفة الصفراء الوحيدة بألوان تثير حساسية الاعصاب، وتوهمك كلما اقتربت بتواجد مخلوقات متناهية القدم لدرجة الانقباض من كونهم أسلافنا الأوائل.. نظرت في ساعتي مُخمّناً كم من الوقت سأحتاج لكي أجد ما جئت للبحث عنه، فإذا بي أسمع صوت تكات الساعة، وعندما تأملت المكان جيداً وجدت ساعة حائط فوق الباب تماما لاترى إلا بصعوبة، كان الغبار يغطي وجهها فلم يكن ممكنا على أية حال رؤية عقاربها ما إذا كانت تشير للزمن الصحيح أم لا؟ انتشلت نفسي بصعوبة من خصوصية المكان الأخاذ، ورحت بهمة أقلب بين كتب ودفاتر المكتبة بحثا عما يمكن أن يكون دفتر مذكرات خاص بصاحب الغرفة. ذلك الرجل الغريب الأطوار الذي اختفى قبل عشر سنوات في ظروف غامضة.. وبعد ساعتين من البحث وراء السراب أيقنت بفشل مهمتي، وقبل أن أغادر الغرفة أخذت أتجول فيها بعيني فلمحت المظروف المفتوح فانبثقت في رأسي فكرة جيدة.. وهي أن تلك الرسالة ربما كانت آخر شيء أنجزه الرجل الغامض قبيل اختفائه،وفكرت أنها قد تحتوي على مفتاح للغز اختفائه المحير. أخذت المظروف وفردت الرسالة ورحت اقرأ:- «لا أحد يحفل بأمري.. لا أحد يحبني أو حتى يكرهني! اللامبالاة كانت دائماً من نصيبي، ولذلك كان بقائي في هذا العالم أشبه بقمامة تم التخلص منها بشكل غير ضار بالبيئة، أنا أيضاً لست راغبا في البقاء الإلزامي في حياة لا أحد يحسدني عليها، إنني الآن أعيش أيامي الأخيرة مضطرا ولولا تلك القرصات الخبيثة المنبعثة من معدتي لما تناولت طعاما على الإطلاق.. ثم مامعنى أن تغذي جسدا لا تريده وأنت تنوء بحمله في كل مكان ولاتعرف طريقة للتخلص منه.. ثم لماذا كان هذا الجسد ولماذا كان علي أن أخدمه طوال عمري بدلا من أن يخدمني هو؟ لقد سخرنا الحيوانات والتكنولوجيا وحتى عقولنا لخدمة أجسادنا، ولم نفكر يوما في تسخير أجسادنا لخدمة ذواتنا.. تلك الذوات التي يحاول الجسد طمس معالمها بداخلنا وتأكيد أنه ليس يوجد إلا الجسد ولا شيء غيره!! إن هذا الجسد يرهقني ويقلقني أمره وتخيفني رغباته ولست أدري كيف أهادنه؟ إن هذا الجسد الذي يمثلني ويتصرف باسمي ويستمد سلطاته من كينونتي ليس إلا شيئاً كغيره من الاشياء التي يمكن كيميائيا أو فيزيائيا أن يتحول إلى شيء آخر، وأما أنا فلست شيئاً أو لا شيء ولكنني لربما أكون الفاصل بين الاثنين! إن لحظات السعادة القليلة التي تجود بها الحياة طوال عمر مهما امتد لاتقارن بمثيلاتها البائسة التي هي في مواجهتها كل ذلك العمر. غواية الحياة البشرية على هذا النمط لم تعد تستهويني، ولذلك يجب عليّ أن أنسحب من هذا العالم وألا أترك خلفي أي شيء يدلل على أنني عشت على ظهر كرتنا الأرضية المألوفة ولو حتى دقيقة واحدة.. ولذلك أيضاً أمضيت عدة أيام وأنا أتعقب كل شيء يخصني بالإتلاف.. صوري الفوتوغرافية لدى الاصدقاء، ملفاتي وأوراقي لدى شركة العمل الموظف بها، استمارات العضوية في الجمعيات الكثيرة المنتسب إليها، ولم يبق سوى اسمي لم استطع أن أجعلهم ينسونه بسهولة.. كنت مصمما بشدة على استعادة اسمي منهم وإتلافه قبل مغادرتي لهذا العالم، ولذا أبقيت على غرفتي سليمة ولم أحرقها وسأترك هذه الرسالة في مظروف مفتوح في انتظار أن يتسلمها في يوم ما قد يأتي بعيداً شخص ما ليس إلا .. بقايا اسمي..» توقفت ساعة الحائط عن التكتكة وعم الظلام الغرفة مجددا وسُمع صوت أكرة الباب وهي تغلق على نفسها بالمفتاح وإلى الأبد..