أمد يدي لألتقط واحدة من نجوم شجرة الياسمين الوارفة.. يمين المدخل.. استنشق بعمق.. علّ أريجها يصل إلى أبعد مدى داخلي.. أعبر الحديقة التي كانت أسوارها ذات يوم حدود كوني.. أمشي فوق الدرب الذي أحفظ أحجاره عن ظهر قلب.. أقف عند عتبة باب بيت والدي.. هنا اعتدت أن أرمي حقيبتي الصغيرة حال عودتي من المدرسة قبل أن أدخل لأرتمي على صدر أمي.. أغيب في حضنها الحاني.. بينما تتسلل يدها برفق إلى خصلات شعري لتحررها من رباطها. والآن أفعل.. أرمي همومي ومشاغلي على عتبة هذا الباب.. وألج منه إلى السكينة والنقاء.. وهاهي أمي.. كما كانت دوماً تفتح ذراعيها لتحتضنني. كل شيء كما كان.. كأن عقداً من الزمان لم يمر.. فيض المحبة والتسامح على الوجوه الطيبة التي شاركتني لحظات طفولتي وصباي.. رائحة الطعام التي أحب، والأثاث المرتب النظيف.. هدوء الشرفة الصباحي، وورودها .. وزقزقة عصافير الأشجار الكبيرة عند طرف الحديقة، تلك الأشجار التي طالما سمعت أمي تقول عنها بكثير من الحنان «عمرها من عمرك». أسترخي على سريري القديم.. يتسلل دفء لذيذ إلى عظامي.. غرفتي مازالت على حالها.. أجيل البصر في أنحاء المكان.. صوري في مختلف مراحل عمري.. صور الأصدقاء والأحباب.. هل من ركن إلا وفيه كنز من الذكريات؟. خزائن الذاكرة تنفتح، ويضيع الزمن.. فيخيل إليّ لوهلة أن الحاضر كله حلم، وأعيش الماضي ثانية.. بكافة تفاصيله، وتجتاحني موجة عارمة من الحنان.. إذ يهيأ لي أنني أسمع أبي رحمه الله.. يناديني بالاسم الذي طالما أحبه لي.. في فضاء هذا المكان أسترد جناحي.. أعود طفلة.. نبتة سقيت بعد طول عطش.. أسترد حماسي وإيماني بالآتي.. أستعيد نضارة خدي وألوان التفاصيل.. وأسمع من جديد رنة الحياة في صوتي.. وأرى في عيني لمعة خلتها خبت.. وتتسلل أشعة الشمس التي تملأ البيت إلى كل خلية من جسدي وتلمس كل حنية من حنايا روحي. كم أنا سعيدة لأنني أتيت، حين فكرت أين أقضي إجازة العيد.. لم أجد خياراً أفضل من مدينتي الأم وبيت الأهل.. لألتقي العيد الحقيقي الذي أعرفه. هنا يعيش العيد أبداً.. بكل طقوسه.. وكل بهجته.. بأهازيجه.. بالحلوى التي تعدها أمي .. بفرح الأطفال وثيابهم الجديدة وانتظارهم «العيدية» لتفيض بهم الحدائق والملاهي ودكاكين الألعاب، بينما تغص المقابر بالزائرين والرياحين، لمعايدة من رحلوا. العيد هنا.. جلسات دافئة تجمع شمل الأهل من كل مكان.. فنضحك من القلب.. إذ تتغرغر بالذكريات.. وننجح في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، فيبعث الماضي الجميل حياً، لنعيد اعتصار لحظاته الحلوة. لقد بقي العيد دائماً هنا.. في بيت طفولتي، بينما كبرت أنا وغادرت.. وصار لي بيت آخر في مدينة كبيرة.. وحياة سريعة الإيقاع، وربما توسعت مداركي ومعارفي.. وخضت تجارب نجاح وإخفاق.. وخطوت باتجاه بعض أحلامي.. وفتحت نوافذ على عوالم جديدة لم أكن أتخيل حتى وجودها، لكن .. أشياء كثيرة هربت مني في ذلك الركض الهستيري.. بعضها لن يرجع.. وبعضها.. أحاول تلمسه بين فترة وأخرى في عودتي لأجد ذاتي هنا في «مكاني الأول». كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل.. محزن حقاً ألا ندرك القيم الحقيقية للأشياء في المراحل الأولى من عمرنا، حين يندفع بنا قطار الحماس بجنون نحو الأحلام التي ترسمنا ونعتقد بسذاجة أننا نرسمها.. ويمضي زمن طويل قبل أن نعي أن الأهم من الوصول إلى الهدف هو الاستمتاع بالرحلة نحوه، وأنها رحلة باتجاه واحد.. محطاتها لا تعود.. ولا تعطيك جديدها إلا مقابل ما تأخذه من قديمك. بسرعة خرافية، بل بسرعة محزنة.. وقبل أن أرتوي.. مرت الأيام الثلاثة.. وعلى سفينتي أن تبحر مجدداً من مرفئها الأول والأخير. أتنهد بينما ترن في أذني كلمات أبي التي اعتاد أن يرددها بحزن كلما توادعنا «إنها سنة الحياة». من خلال دموع الفراق.. أمد يدي.. لألتقط نجمة من ياسمينة المدخل.. أعب عطرها بعمق .. أجل هناك عبق لا يتغير مهما مر الزمن.