الموضوع بإختصار: اللي يفهم بايفهم... واللي ما يفهم عساه لا فهم    لماذا صراخ دكان آل عفاش من التقارب الجنوبي العربي التهامي    الجوانب الانسانية المتفاقمة تتطلّب قرارات استثنائية    البنك المركزي يذكّر بالموعد النهائي لاستكمال نقل البنوك ويناقش الإجراءات بحق المخالفين    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    عبد الله البردوني.. الضرير الذي أبصر بعيونه اليمن    مكاتب الإصلاح بالمحافظات تعزي رئيس الكتلة البرلمانية في وفاة والده    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    الثالث خلال أشهر.. وفاة مختطف لدى مليشيا الحوثي الإرهابية    هجوم حوثي مباغت ومقتل عدد من ''قوات درع الوطن'' عقب وصول تعزيزات ضخمة جنوبي اليمن    تغير مفاجئ في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    أقرب صورة للرئيس الإيراني ''إبراهيم رئيسي'' بعد مقتله .. وثقتها الكاميرات أثناء انتشال جثمانه    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    بعثة اليمن تصل السعودية استعدادا لمواجهة البحرين    انفراد.. "يمنات" ينشر النتائج التي توصلت إليها لجنة برلمانية في تحقيقها بشأن المبيدات    ماذا يحدث في إيران بعد وفاة الرئيس ''إبراهيم رئيسي''؟    عودة خدمة الإنترنت والاتصالات في مناطق بوادي حضرموت بعد انقطاع دام ساعات    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    قادم من سلطنة عمان.. تطور خطير وصيد نوعي في قبضة الشرعية وإعلان رسمي بشأنه    أول فيديو من موقع سقوط طائرة الرئيس الإيراني ووصول فريق الإنقاذ "شاهد"    هادي هيج: الرئاسة أبلغت المبعوث الأممي أن زيارة قحطان قبل أي تفاوض    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    تناقض حوثي مفضوح حول مصير قحطان    الليغا .. سقوط البطل المتوج ريال مدريد في فخ التعادل وفوز برشلونة بثلاثية    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    قبيل مواجهة البحرين.. المنتخب الوطني يقيم معسكر خارجي في الدمام السعودية    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب العربي.. بين أمسه وغده
نشر في الجمهورية يوم 02 - 06 - 2007

1-2لست أدري أكان الناس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ،فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر ، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم ولكل سؤال جواب ، كما يقول جميل لصاحبته بثينه ، ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبؤون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف ، ومن رقي أو انحطاط ، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
وقد كذبت الحوادث كثيراً من هذه التنبؤات وصدقت منها كثيراً ، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجبيب عن سؤال من هذه الأسئلة القي عليه في اثناء الحرب العالمية الثانية بأنه لايعلم أن للحرب اثراً في الأدب أو أن للأدب اثراً في الحرب ، وليس هذا الجواب إلا نوعاً من أنواع الشك وفناً من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق فليس من سبيل إلى أن تنكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام اثرها البعيد في حياة الناس ، ومتى تأثرت حياة الناس فقد تأثرت آدابهم ، لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيراً عن هذه الحياة وتصويراً لها ، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة ، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه.
ولو أن اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم مانلتمس لجاز أن يسأل بعضهم بعضاً عما كان يمكن أن تحدثه الحرب الميدية من الأثر في آدابهم ، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنها ستحدث اثاراً بعيدة جداً لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها الناس على اختلاف العصور وتباين الظروف ، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعاً عنيفاً وسينتج للإنسانية كلها آيات ايسكولوس وسوفوكل واوريبيد وبأنها ستدفع احاديث القصاص دفعاً عنيفاً إلى التطور ، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت ، وتنشئ للإنسانية فناً من أجل الفنون الأدبية خطراً وهو فن التاريخ وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع ، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي انتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين ، ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى لجاز أن يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلويونيز من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد ، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند أوريبيد ، وستمكن ارستوفان من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة ، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه الفلسفة العميقة التي كان ارستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب ، ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات ، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم ، وكان يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح من الطير ، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب ، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفراً قاصداً أو غير قاصد ، فطلبوها عند «أبللون» في «دلف» أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الاصفياء من الرجال والنساء ، فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولايفكرون فيها.
وحسبهم أن يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر ، وبما ينتج أصحاب الفن من روائع التصاوير والتماثيل والبناء.
والشيء الذي لاشك فيه أن الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان ، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شرراً أذكى نارهم العقلية المقدسة ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علماً ونوراً ، وأن حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولاً وباقطار أوروبية أخرى ثانياً ، فكشف لهم عن ذوات أنفسهم واظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية ، فاحسوا وشعروا وفكروا كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون ، ثم صوروا وعبروا كما لم يكونوا يصورون ويعبرون ، وتستطيع أن تقول مثل هذا القيام إلى حروب الاسكندر ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب ، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في ايطاليا وفي غير ايطاليا من اقطار الشرق والغرب ، كل هذه الحروب اثرت في الآداب القديمة تأثيراً عميقاً ، وانتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة مانزال نستمتع بها إلى الآن ، وستستمتع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وأي رمز لذلك ابلغ من أن الإلياذة والاوديسا إنما هما نتيجتان لحرب لايكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئاً وهي حرب طروادة.
ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم ، فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والتعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية ومن فتوح خارج هذه البلاد من التأثير في حياة الأدب العربي ، ولكان من الممكن أن يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأن هذا كله سيذهب بالشعر العربي مذاهب لم تخطر لهم على بال ، وسينشئ لهم فنوناً من النثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب .. و لكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولايقفون عنده ولايخلون بما يتصل به من النبوءات ، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير ، ويشقون بما تقدم إليهم من شر ، فإذا أبعدوا في التماس الغيب عند السوانح والبوارح من الطير ، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين ، وعند الأنبياء وما يلقى إليهم من وحي وما يهيأ لهم من معجزات ثم هم كانوا كاليونان والرومان لايلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب ، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة ، ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد انشأ لها أدباً واحداً ، ووجه هذا الأدب توجيهاً جديداً ، وليس من شك في أن اصطدم العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم ، فامتلأت الأرض معرفة ونوراً ، بفضل هذا الاصطدام وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم ، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينهم وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون عليه من شؤون الحياة.
ومن يدري لعل القدماء كانوا أدنى ما إلى الحق وأقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثاراً للقصد والاعتدال ، فهم كانوا لايكلفون أنفسهم ما لا تطيق ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر ، فقدماء العرب قد عرفوا ما كانوا من تطور الأدب العربي بعد وقوعه ، كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه ، وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلاً مقارباً يسيراً لا تكلف فيه ولا ابعاد وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حيناً وتكذبها احياناً ، وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي اتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول أنه لايعمل أن للحرب اثراً في الأدب أو أن للأدب اثراً في الحرب ، والأمر كله يرجع فيما يظهر إلى أن الرقي الذي اتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى الوان من الغرور وخيل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء .
ومادمنا قد استطعنا أن ننهب الأرض بالقطار والسيارة ، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه ، وننهب الجو بالطائرات وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق والراديو ، مادمنا قد استطعنا أن نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف استارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان ، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو أن ينتهي إلى غاية ، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون مادمنا قد استطعنا أن نعرف ماكان ، وقد قيل أن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي ، ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه وقليل جداً من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل ، أكبر الظن أن هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون ، ولكننا لانحب صوابهم هذا ولا نكلف به ، بل لا نطمئن إليه ، لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الاغراق في الغرور ، وماقيمة الإنسان إذا لم يعبث له الغرور فيخيل إليه أنه قادر على كل شيء ، وأن من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء !!
من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن اشياء كثيرة ، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي سيدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب وقاربت بين الأجيال المتباعدة ، والغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب ، وغيرت كثيراً من صور الأشياء ، ثم غيرت كثيراً من قيم الأشياء ثم غيرت كثيراً من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن ، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون فأما المقتصدون من الأدباء الاوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفاً ،أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حساباً لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة.
وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة ،ولكن ليس من شك في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلاً،وفي أن مانجهله أكثر جداً مما نعمله ،وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئاً كثيراً في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جداً بالقياس إلى ما ينتظر أن نحققه.
وهذا الذي ينتظر أن نحققه قد يفاجئنا بعضها مفاجأة وعلى غير انتظار،وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد،فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة ،ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعاً، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون عن مستقبل الحياة الأدبية ،ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط.
وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لم أتنبأ بشيء ،لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ،وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في هذه الأيام المستقبلة.
فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد،وبين غده القريب
دون البعيد.وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولاً ،وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق، لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما
يكن هذا الفصل طويلاً.
وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب،فقد عمر الأدب اليوناني القديم قروناً طوالاً ثم ألقى بينه وبين الناس ستاراً،فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدباً مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءاً منه ولا استمراراً له.فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه ،أريد أنه لايستمد حياته من أمة حية ،تنمية وتقوية وتضيف إليه،وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار أو أفلاطون لانفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة
الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر،وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها،ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال.
وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالاً بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها،فلست أعرف مثلاً أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعراً كراسين أو كاتباً كجيرودو أو شاعراً كاتباً كبول فاليري. وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها،ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد . ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني ،فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية،إن صح هذا التعبير ،وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرناً إلى الآن،واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألواناً من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور،ولكنه مازال حياً قوياً يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة،ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لاتزال حية محتفظة بفضل من قوة،والتي لاتزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيداً فهي تمنحه وتأخذ منه ،وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به،شأنها معه كشأنها مع مايقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار.
فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع،ويظهر أنها لن تنقطع ،والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد هذه الصلة مازالت قائمة متينة خصبة،كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء، ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية بينة شديدة الوضوح،تمكننا من أن نلاحظها ملاحظة مباشرة، ونستقصي أطوارها استقصاء حسناً،فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي ،وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعاً مرة مستأنياً مرة أخرى متثاقلاً مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلاً بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف.
ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه،وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا،سالكين معه نفس هذه الطرق ،متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف اجزاؤه وتتباين عناصره،حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية ،ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم،أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث.
فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره،هي أنه قديم جداً وحديث جداً قد اتصل قديمه بحديثه اتصالاً مستقيماً لا انقطاع فيه ولا التواء ،ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة،وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه،وما يغنينا عن كثي من الفروض.
أدبنا العربي كائن حي،أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض،والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواء السماء،والتي مضت عليها القرون والقرون ومازال ماء الحياة فيها غزيراً يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء.
فلنتتبع هذا الأدب تتبعاً يسيراً مقارباً، لنرى كيف تطور في أول عهده،ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام.
وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره أنه يتألف من عنصرين خطيرين لايحتاج استكشافهما إلى جد أو عناء.أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي انتجته،والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها،ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور،ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد ،والتجديد.
فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ،ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم مابذل الأدباء وماسيبذلون من الجهود الهائلة المضنية. مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرنا في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف،ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائماً عند طائفة من الأصول التقليدية لاسبيل إلى التحول عنها، لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية،إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني ،وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها.
فأنا لاأبحث الآن عن العلل والأسباب،وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلاً.لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول،وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول،ولتكن المحافظة التي يمتاز به الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول،ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول،كل ذلك ممكن ،ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لايستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها.
فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من الناس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث من هذه اللغة المعربة الفصحى،فأنتجوا آثاراً فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدباً ،ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح.
وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبناالعربي لايهمل الأسماع إهمالاً قليلاً أو كثيراً ،وإنما يعنى بها أشد العناية،فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدباً مكتوباً مقروءاً وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به،ويلذ الأذن حين تسمع له،ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه.
وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، دقيق الأسلوب ورصانته،وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه ويزين في الأدب وقعه أساساً لكل هذه الخصال.
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر،هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا على أشد الحرص،وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يقل في مسلم ودعبل وأبي تمام وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع،فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء،ولكنهم احتفظوا دائماً ،بفصاحة اللغة وجزالتها،وبرونق الأسلوب ورصانتها كما احتفظوا بالأوزان القديمة،فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزاناً يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء..ثم لم يستطيعوا على كثرة ماعابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية علي شعرائها البادين وقد كان أبونواس من أشد الناس عيباً للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم،ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولاً،كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء،وحن حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الاعرابي القديم يحن إلى ديار هند وأسماء فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ.وقد أنكر أبونواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل،ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين جميعاً،وقد هم الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا،ولكن تكلفهم برد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء ،كما أن مبالغتهم ترد إلى قصد القدماء واعتدالهم،أو تصبح مصدراً للسخر والاستهزاء.
وقد حاول الموضحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة،فيزاوجوا بين أوزان وأوزان ،ويخالفوا بين قواف وقواف.
ولكن فنهم لم يستطعه أن يعمر طويلاً،ففني في الزجل ،وأصبح لوناً من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين.
فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم استقصها،وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها،وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئاً من التجديد،فلا ينجحون إنجاحاً صحيحاً إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار. والنثر مع أنه استحدث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام،قد اتخذ لنفسه أصولاً تقليدية تقارب أصول الشعر ،فحرص على اللغة المعربة،وعلى الفصاحة والجزالة،وعلى الرونق والرصانة،واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالاً ساذجاً لايخلو من روعة وجلال.
ومع أن كثيراً من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية ،فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصاً شديداً،واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إماماً أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك،وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء ،واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم،ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء ،وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية، فكما أنك لاتسمع قصيدة ولاتقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب،فأنت لاتقرأ كتاباً ولا فصلاً إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكتاب أو ذاك من كتاب العصر القديم.
مازال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر:تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل،للمعنى الصحيح المصيب ،والملائمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل مايكون هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى،مع الحرص كل الحرص على الإعراب،والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظاً غالياً في المحافظة، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحاً معتداً ، كوقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد ،وقد يبلغ بهذا اللغو أقصاه،فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف،أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول. ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لايخرج بالعربية عن أصولها ،وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرف ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة ،مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن،وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال ،وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى ،ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفاً عناصر التجديد ،وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود،ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات ،وعصمته من الجدب والعقم والإعدام،ومنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لساناً ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.