فرحة عارمة تجتاح جميع أفراد ألوية العمالقة    الحوثيون يتلقون صفعة قوية من موني جرام: اعتراف دولي جديد بشرعية عدن!    رسائل الرئيس الزبيدي وقرارات البنك المركزي    أبرز النقاط في المؤتمر الصحفي لمحافظ البنك المركزي عدن    خبير اقتصادي: ردة فعل مركزي صنعاء تجاه بنوك عدن استعراض زائف    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    مع اقتراب عيد الأضحى..حيوانات مفترسة تهاجم قطيع أغنام في محافظة إب وتفترس العشرات    هل تُسقِط السعودية قرار مركزي عدن أم هي الحرب قادمة؟    "الحوثيون يبيعون صحة الشعب اليمني... من يوقف هذه الجريمة؟!"    "من يملك السويفت كود يملك السيطرة": صحفي يمني يُفسر مفتاح الصراع المالي في اليمن    تحت انظار بن سلمان..الهلال يُتوج بطل كأس خادم الحرمين بعد انتصار دراماتيكي على النصر في ركلات الترجيح!    الهلال بطلا لكأس خادم الحرمين الشريفين    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    تعز تشهد مراسم العزاء للشهيد السناوي وشهادات تروي بطولته ورفاقه    مصادر دولية تفجر مفاجأة مدوية: مقتل عشرات الخبراء الإيرانيين في ضربة مباغتة باليمن    المبادرة الوطنية الفلسطينية ترحب باعتراف سلوفينيا بفلسطين مميز    شاب عشريني يغرق في ساحل الخوخة جنوبي الحديدة    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    عاجل: البنك المركزي الحوثي بصنعاء يعلن حظر التعامل مع هذه البنوك ردا على قرارات مركزي عدن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و284 منذ 7 أكتوبر    الحوثي يتسلح بصواريخ لها اعين تبحث عن هدفها لمسافة 2000 كيلومتر تصل البحر المتوسط    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    لكمات وشجار عنيف داخل طيران اليمنية.. وإنزال عدد من الركاب قبيل انطلاق الرحلة    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    حكم بالحبس على لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    النائب العليمي يؤكد على دعم إجراءات البنك المركزي لمواجهة الصلف الحوثي وإنقاذ الاقتصاد    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الإخوان في اليمن يسابقون جهود السلام لاستكمال تأسيس دُويلتهم في مأرب    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    جماهير اولمبياكوس تشعل الأجواء في أثينا بعد الفوز بلقب دوري المؤتمر    مليشيا الحوثي تنهب منزل مواطن في صعدة وتُطلق النار عشوائيًا    قيادي في تنظيم داعش يبشر بقيام مكون جنوبي جديد ضد المجلس الانتقالي    بسبب قرارات بنك عدن ويضعان السيناريو القادم    تقرير حقوقي يرصد نحو 6500 انتهاك حوثي في محافظة إب خلال العام 2023    لجنة من وزارة الشباب والرياضة تزور نادي الصمود ب "الحبيلين"    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    الامتحانات.. وبوابة العبور    رسميا.. فليك مدربا جديدا لبرشلونة خلفا للمقال تشافي    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    حكاية 3 فتيات يختطفهن الموت من أحضان سد في بني مطر    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    وزارة الأوقاف تدشن النظام الرقمي لبيانات الحجاج (يلملم)    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    اعرف تاريخك ايها اليمني!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 31 - 12 - 2007

الحلقة7لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
تحرير الجواري
أتذكّر أن مشاكل اليمنيين كلّها كانت تحطّ رحالها في المكتب الذي أعمل فيه في الرياض، وها أنذا أسوق هنا واحدة من هذه المشاكل التي هي بمثابة لوحة من اللوحات الاجتماعية.. ولعل الصحف العدنية، بل «فتاة الجزيرة» قد نشرت في عام 1959م حول هذه المشكلة، وهي ماحدث للمخدوعات، أو بالأحرى للنساء المخدوعات من يمنيات وفلسطينيات وسوريات ولبنانيات، وسأروي هنا ماحدث لليمنيات حصراً، لأنهن هنّ اللاتي وجدت نفسي مضطراً لحل مشكلتهن، فكيف جرت الأمور؟
في ذات يوم جاء إليّ شخص من الحدا وكان يعمل مطوعاً في المملكة العربية السعودية، وقال لي: هناك امرأتان يمنيتان قد خدعتا وبيعتا كجاريتين، وواحدة منهما بيعت لأربعة أشخاص وهي متزوجة في اليمن وزوجها جندي في حريب كما قالت في التحقيق، وهذا أمر مضحك وفظيع، وقد صاحت المرأة واستنجدت بالناس: «يامسلمين أنا يمنية وباعوني.. أنقذوني.. أخبروا القنصل اليمني».
المهم أن الخبر قد بلغني، فذهبت إلى الأخ سعيد علي، وعرفت المنطقة، وعرفت الدلال الذي كان يبيع هؤلاء الجواري، طبعاً لا أروي هذه الحادثة هنا للتشنيع على السعودية فهذا أمر معروف، وقد كتب عنه الكتاب من أوروبا وأمريكا، وقد استمرّ إلى أن تولّى الملك فيصل رحمه الله فألغى هذه الخزعبلات.. كانت القصور تعجّ بالجواري ومنهن اللبنانيات والسوريات والفلسطينيات والسوداوات وعددهن قليل وأقلّ منهن اليمنيات.. وماكان يحصل لليمنيات أنهن كن يتعرفن على أحد السواقين القادمين من نجران، ويسألنه عن أخ لهن أو قريب، فيخدعهن هذا السائق، ويعدهن بأن يوصلهن إلى المكان الذي يرين فيه أقرباءهن، وهناك في الحدود كان يبيعهن للسواقين السعوديين، وهنا يتحوّل السائق السعودي إلى سمسار يبيعهن للدلالين ومنهم عبداللطيف بن دائل في شارع الثميري في الرياض، وقد زرته حيث كان يسكن، ومحلّه ثلاثة طوابق، وكان يرافقني في هذه الزيارة سلطان علي راوح الشيباني الموجود في وزارة الخارجية في صنعاء.
ولما عرفنا المكان، أبرقنا إلى حسين مرفق، وكان قد تعيّن وزيراً مفوضاً، فأجابنا: شارعوا، كيف نشارع؟!
وهنا أخبرت رئيس الجالية فكتب لي مذكرة إلى الأمير سلمان بن عبدالعزيز بهذا الخصوص، والأمير سلمان لايزال أميراً على الرياض حتى الآن، وابنه سلطان ذلك الطيار الذي شارك في الرحلة الفضائية الأمريكية - السعودية.. ولقد كان الأمير سلمان متواضعاً وذا أخلاق عالية ورفيعة، فقال لي: إن هذا الأمر له صفة قانونية وشرعية لدينا، وعلى أية حال، هذه رسالة إلى رئيس المحكمة الشرعية الكبرى في الرياض.
ولكن الأمر على مايبدو كان لابدّ فيه من المشارعة، وهنا قمنا بإيهام الدلال عبداللطيف بن دائل بأننا نرغب في شراء جاريتين فعرض عليّ وعلى الأخ سلطان الشيباني شيئاً تتقزز منه النفس، وراوغناه حتى وجدنا اليمنيتين، وكان لابد من الإحالة إلى مدير الشرطة وهو محمد بن عساف وكان يتكلّم الفرنسية، فتصادقنا، ولن أنسى أيضاً محمد بن ضاوي مدير الجوازات والجنسية وربما المخابرات وكان رائعاً رحمه الله، فقال لي بلهجته النجدية: اسمع ويش بلاكم أنتم ماعند كمش رقيق.. رح أطلب البنات.
ولدى المشارعة طلب الدلال عبداللطيف 44 ألف ريال بالأولى التي يبعت لأربعة على التسلسل وكان آخرهم هو، وقد أطلعنا على صكوك البيع والشراء، أما الاثنتان اللتان وجدناهما وقد وصلتا طازجتين فقد اعترف بأنه لم يدفع سوى 6000ريال عن كل واحدة للشخص الذي جاء بهما.
وبعد أسبوعين تمّ الإفراج عن لطفية وهي التي قالت إنها من باب شعوب، وزوجها في حريب، وأنا يومها لا أعرف باب شعوب ولا أعرف صنعاء، ثم تمّ الإفراج عن الاثنتين الأخريين وكلتاهما من صنعاء أيضاً واسم إحداهما حورية، وبذلك يكون الشيخ سعيد علي الأصبحي قد دفع ما مجموع 68000ريال، أي «44000ريال» لإطلاق لطفية و«12000» ريال لكل واحدة من الاثنتين الأخريين وذلك مضاعفة لما دفعه الدلال عبداللطيف ثمناً لكلٍ منهما.
وبعد إطلاق سراحهن فتشنا لهن عمن يكون محرماً لكل منهن، فذهبت إلى «الخرج» ووجدت أشخاصاً أحدهم مسافر، فقلت له:
أنت كن ابن عم لطفية التي اشتريناهما ب44ألف ريال، ووجدت واحداً آخر قريباً للاثنتين اللتين اشترينا ب24 ألف ريال، المهم أننا دفعنا مايقرب من ثمانين ألفاً دفعها سعيد علي الأصبحي وبعد سفري بقليل علمت أنه أطلق اثنتين أيضاً جزاه الله خيراً.
الرحيل عن السعودية:
بدأت الشكوك تدبّ حولي، فقد كنت أرافق أحد الجزائريين وكان نائب مندوب جبهة التحرير الجزائرية، وصل من جدة إلى الرياض لجمع التبرعات ولكنه لم يوفّق، فجمع التبرعات في السعودية آنذاك أمر صعب جداً، وذات يوم أبلغ المسؤولون السعوديون الشيخ سعيد علي بأن ابن عمك هذا مع أحد الجزائريين يعمل ضد العهد في المملكة وربما ضد الإمام وربما..
فقال لهم: أما الجزائري فإنه شأنكم وهو قد دخل بطريقة رسمية، أما هذا ابن عمي وأهيلي فأنا مستعد لأن أضمنه بمليون ريال، إنه لم يتآمر ولن يتآمر.. جاء ليعمل معي، والآن ربما يسافر.
وعندما أخبرني بذلك، شددت الرحال وسافرت، إلى أين سافرت؟ إلى جدة تمويهاً، ثم توجهت إلى مصر العروبة.. مصر عبدالناصر.
شهران في القاهرة:
توجهت إلى القاهرة بتاريخ 26 نوفمبر 1958م، وكان الفرح يغمرني بعد قيام الثورة العراقية، وكان الأمل يحدوني بخلاص الشعب اليمني وبتحقّق الجمهورية اليمنية بقيادة القيل الكبير حميد بن الأحمر.
هل كان ذلك مراهقة سياسية؟ نعم ولكنها كانت مراهقة نبيلة.. هل ضاعت الجهود التي بذلت في تلك المراهقة سدى؟ كلا، فقد أثمرت وعياً وأكسبت تجربة، وكان لابد منها ليقترب الشعب اليمني من هدفه أكثر فأكثر.
وصلت القاهرة وأنا أحمل 400 جنيه منها مئتان من الشيخ سعيد علي كالعادة، مائة للأستاذ نعمان ومائة للأستاذ الزبيري، ومنها مئتان جمعتها من الأخوة نصفها بواسطة الشيخ أحمد حسين النجار شيخ منطقة حده وعلي محسن الزرقة وحسن جار الله وأعتقد أنه مازال يعيش في بني حشيش، وهي تبرع للأستاذين أيضاً، وكان معي مبلغ لابأس به كمصروف شخصي.
قدم إلى مصر سعيد حسن فارع «سعيد إبليس»، وكان لديه مشروع ضخم، وهو الشركة القومية لتوزيع الصحافة العربية في الوطن العربي.
فقد كان هناك أربعة وكلاء للصحافة المصرية بعدن سحبت الوكالة منهم فأرادوا تسليمها لشخص واحد يكون مسؤولاً عن هذه الشركة على أن يدفع لهم مايساوي 1001 جنيه، وهنا جاء إليّ سعيد حسن فارع، وقال: هل معك نقود: قلت: نعم، لماذا؟ فأخبرني بالفكرة، والأستاذ أحمد محمد نعمان بارك ذلك، والأستاذ محمد محمود الزبيري بارك أيضاً، وقال لي: هذا مجالك يامحمد عبدالواسع.
وكان معي 1500 جنيه استرليني كل ماجمعته آنذاك من الرياض.. فسلمت 1001 جنيه وهذا نقل الرصيد مازال معي وضاع هذا المبلغ.. وله قصة ليس هنا مكانها، ولم أسترد منه سوى 5000 شلن من محمد قائد سيف، فلم أتحسر على البقية بعد اختفاء سعيد حسن إبليس.
أمضيت شهراً أجوب القاهرة ومناطقها المختلفة مع الأستاذ الكبير والشاعر الثائر أحمد عبدالرحمن المعلمي، وكنت أتردّد على فرع الاتحاد اليمني في ميدان التحرير، وكان مدير مكتب الأستاذ أحمد محمد نعمان العميد محمد علي الأكوع والذي نجا بأعجوبة أيضاً عام 1955م وكان مطلوباً للإعدام.. ومما أذكره في تلك الأيام تلك الحفلة التي أقمناها بمناسبة تخرج الأستاذ محسن العيني في يناير 1959م، وفي هذه الحفلة التي أقمتها له تعارفنا أكثر، وكان قد سبق لي أن تعرفت إليه حين كان طالباً في باريس مع زميليه محمد الرعدي ويحيى حمود جغمان، وفي 4 يناير 1959م غادرت القاهرة عن طريق السودان بمعية الأستاذ محمد أحمد نعمان.
في غياب الإمام أحمد كانت آلام الأحرار وآمالهم تعتلج في داخل اليمن وخارجها، وحين عاد من روما متماثلاً للشفاء أحس بما يدور حوله وأدرك أن الحركة السياسية آخذة بالتطور، فبدأ يتهدد ويتوعد، ويفكر بضربة قاصمة للأحرار، وهنا لابد من الإشارة إلى حركة أعتبرها سخيفة قامت بها القناصة بقيادة الضابط شرف المروني، وحدث فيها من الفوضى ماحدث، والبدر لايستطيع أن يحرك ساكناً لأنه خائف ووجل، ولقد كانت هذه الحركة كجسّ نبض للبدر، وفيها قتل في تعز القاضي أحمد الجبري خطأً من القناصة.
قبل أن أتابع حديثي، أريد أن أقول لقارئي إنني لا أتعمد الأسلوب البياني، ولا أعمد إلى اللغة الفصيحة أو البليغة، وكنت أستطيع ذلك لو أردت، ولكنني تركت الحديث ينساب بلغته السهلة البسيطة التي لاتتورع عن استخدام اللهجة العامية في بعض الأوقات تاركاً الاستطراد يلم بالأحداث من هنا وهناك حتى تتكامل الرؤية للقارىء في إطار حديث ممتع، إن قارئى ليشعر في كثير من صفحات هذا الكتاب وكأنه في مقيل بتجاذب الحديث فيه أكثر من متحدث واحد.. فكتابي هذا أريد له أن يُقرأ من فئات الناس المختلفة في درجات ثقافتها، ولا أريد له أن يبقى حكراً على المثقفين.
أعود إلى حركة المروني فأقول: لعلها كانت بسبب التهديد المباشر الذي تعرض له أحمد حسين المروني من الإمام أحمد، فلماذا كان هذا التهديد؟
لقد استغلّ المروني غياب الإمام وتفاعل مع الأحرار تفاعلاً كبيراً فكانت تعليقاته النارية التي يذيعها من إذاعة صنعاء تلهب عواطف الجماهير، وبحسب الذي يستمع إليها أنه يستمع إلى إذاعة صوت العرب، وقد نقل كل هذا إلى الإمام مما أوغر صدره على المروني فأدرك الأحرار أن المروني في خطر مباشر، ووصل التحذير من الأستاذ أحمد محمد نعمان من القاهرة بأن على المروني أن يهرب من صنعاء بأية طريقة، وفعلاً وصل سعيد حسن إبليس - كما قال لي المروني بالحرف الواحد - وأطلعه على جذاذة صغيرة من رسالة من النعمان، يحذره فيها، ويوجهه بالذهاب إلى تعز «وقد تحدث عن هذا المروني في مقابلة تلفزيونية معه» وأبلغ سعيد إبليس المروني بأنه سيجد في تعز عند باب موسى رجلاً طويلاً اسمه علي عبدالواحد، وهو لايزال يعيش، يحمل النصف الثاني للوريقة التي أطلعه عليها، وفي المكان المحدد وجد المروني علي عبدالواحد ورافقه عن طريق وادي الضباب إلى الحجرية ومنها إلى شرجب ومنها إلى طور الباحة، فوصلوا متأخرين يوماً واحداً، وعند وصول سعيد حسن فارع، بشرني أن المروني سيصل، فحمدت الله، ووصل المروني في اليوم الثالث.
تلك كانت قضية المروني باختصار، ولكن كيف عاد الإمام من روما؟ وكيف تطورت الأحداث في صنعاء؟
الإمام يخطف الطائرة:
أقول: بعد أن ركب الإمام أحمد الطائرة مع الوفد المرافق له، بدأت الأوهام تلعب بأفكاره، فقد سمع أن هناك ثورة في إثيوبيا حصلت في غياب الإمبراطور هيلا سي لاسي، وأن الثوار قد نصَّبوا ولده وصياً على العرش «كان قائد هذه الحركة المخفقة الجنرال مانغيستو الذي أعدم، واستمر هيلا سي لاسي إلى أن جاء مانغيستو آخر بعد عشر سنين وأزاح الإمبراطورية» فتبادر إلى ذهنه أن ولده البدر يمكن أن يصنع كما صنع ولي عهد الإمبراطور، وتوهم أيضاً أن ذلك يمكن أن يتم بمساعدة عبدالناصر، فدخل إلى قائد الطائرة وأمره بالعودة فوراً إلى روما، وحين تلكأ الطيار أشهر الإمام أحمد بندقيته عليه وبذلك يمكن أن يكون أول ملك اختطف طائرة، وربما يكون أول من اختطف طائرة على الإطلاق.. عادت الطائرة إلى روما، ومن هناك استقل الإمام باخرة إلى اليمن عن طريق بور سعيد، وفي تواضع كبير وإيمان بالعروبة نزل عبدالناصر من القاهرة إلى بور سعيد، وطلع إلى الباخرة ليزور الإمام أحمد، وصور اللقاء محفوظة وموثقة، وعندما سلّم عبدالناصر على الإمام بقامته المديدة وشخصيته الباهرة ظل الإمام قاعداً ولم يقف، فظن عبدالناصر أن المرض قد أقعده، ولكن عندما جاء شيخ الأزهر هب الإمام وافقاً، وقال كلمته المشهورة: «الآن وجب القيام، نقوم إجلالاً للعلم..» هكذا!
الإمام يتحدّى
وصل الإمام الحديدة، وخرج كعادته راكباً فرسه، شاهراً سيفه وبندقيته، وألقي تلك الخطبة المشهورة، حتى أن أحد ظرفاء اليمن قال: إن الإمام أحمد بطغيانه أفشل ثورة 1948م و«بلهبة نار» أفشل الحركة التي أعدت في غيابه، إذ أن القبائل أشعلت النيران بأمره وهم لايدرون لماذا انتصر الإمام، فقالوا نصر الله الإمام.. نصر الله الإمام.
ومما جاء في خطبة الإمام تلك: «فهذا الفرس وهذا الميدان ومن كذّب جرّب» وتمثل بقول المتنبي:
سآخذ حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مردُ
وطعن كأن الطعن لا طعن غيره
وضرب كأن النار من حره بردُ
صمود حميد بن الأحمر:
بهذه الخطبة: وبالخوف وبالطغيان تراجع الأقيال والمشايخ وفر رؤساء العشائر، ولم يبق في الميدان إلا حميد بن حسين الأحمر ووالده، وظل يقاوم إلى أن وجد نفسه وحيداً ففر إلى الجوف وكان يرافقه فلان الشايف لا أتذكر الاسم لكن الجميع يعرفونه في اليمن، وجرح الشهيد حميد، وحاول المقاومة بكل مايستطيع،ولكن أشراف الجوف وغيرهم ألقوا القبض عليه.
وكان والده الشهيد حسين بن ناصر الأحمر قد اعتصم في جبال حاشد ومن ضمنها حجة، واستمات لكي ينجو ولده الأكبر حميد من الموت، فلما عرف أنه قد ذهب إلى الجوف أعتقد أنه قد فر إلى الجنب اليمني المحتل آنذاك من قبل بريطانيا، فاستسلم وإذا بهم يلقون القبض أيضاً على حميد بن الأحمر ويرسلونه مخفوراً إلى الحديدة ثم إلى السخنة، والشيء نفسه فعلوه بوالده حسين.
الدكتور فضل الله الزاقوت:
كان الدكتور فضل الله الزاقوت وهو من أصل سوري قد كلفه الإمام آنذاك بأن يذهب من الحديدة إلى حجة ليعالج المسجونين الذين هم حطام.
هذا الإنسان ضحى كثيراً من أجل الأحرار وسجن فيما بعد وموقفه الذي أسجله هنا هو من تاريخ ماأهمله التاريخ.
عندما حدثت قضية الشيخ حميد بن الأحمر كان الدكتور الزاقوت مقيماً في حجة، فقد تزوج من هناك، وبقي همزة وصل بين الأحرار في حجة وخارج حجة، اتفق الدكتور الزاقوت مع رجل اسمه سلام عبدالقادر الرعدي، وهذا رجل قد لايعرفه كثير من الناس، وهو يقيم الآن في صنعاء، لا أعرف أين بالضبط، ولكنه كان يعمل في كندا دراي، وكان في الماضي في مصنع أسمنت، وتقلب في أعمال كثيرة، هذا أيضاً من الذين ضحوا كثيراً.
أقول: اتفق الدكتور الزاقوت مع سلام عبدالقادر الرعدي على إنقاذ الشهيد حميد بن حسين الأحمر، وكان بين الشهيد حميد بن حسين الأحمر وبين الدكتور الزاقوت شفرة، يعرف كل منهما شفرة الآخر، وكان الاتفاق أن يحضر الدكتور الزاقوت عشر برتقالات ويحقن تسعاً منها بالمخدر ويبقي العاشرة غير مخدرة على أن يوصل الرعدي هذه البرتقالات مع رسالة صغيرة مشفرة إلى حميد بن الأحمر لكي لايأكل من تسع البرتقالات المخدرات، بل يتركها للقائمين بالحراسة عليه من الشرطة والجنود وكانت سيارة سلام الرعدي جاهزة، وانطلق فعلاً بالبرتقالات ولكنه وياللأسف وصل بعد فوات الأوان متأخراً بنصف ساعة، فقد كان الحرس قد أنزل حميداً ووالده إلى حجة للإعدام وفر سلام الرعدي إلى عدن ووصل إليّ في اليوم الثاني بعد الساعة الثانية صباحاً.
سعيد حسن إبليس:
هذه قصة أخرى لابد أن أرويها هنا أيضاً وهي عن سعيد حسن إبليس.
أقول: عندما كنا في عدن، وبعد عودة الإمام قال لي سعيد إبليس:«لقد كذبنا كثيراً على الناس.. أو بالأحرى كنا صادقين ولكن الناس الآن يتهموننا بالكذب.. والآن استودعك الله»..كنا في تلك الليلة في بستان الكمسري بجانب الشيخ عثمان، وقال لي سعيد إبليس أيضاً:« إما الحياة وإما الردى» وكان وجهه مربداً، وعيناه غائرتين، وكان يبدو أنه يهم بأن يفعل شيئاً..ولكني لم أكن أتصور بأن يقدم على تلك المغامرة الجريئة، فقد ظل غائباً عنا ولانعرف عنه شيئاً أفي تعز هو أم في صنعاء، أم في الحديدة؟.. لقد غامر ودخل الحديدة بعد اعتقال الشهيد حميد بن الأحمر ووالده الشهيد حسين بن ناصر الأحمر، وكان سعيد إبليس يتصيد الرجال، فمن ضمن من التقاهم وكان بينهما توعية واتفاق محمد يحيى منصر، وهنا لابد من ذكر أن الإمام أحمد كان قد بدأ الشك يدب إليه من حاشد فاتخذ من قبيلة الزرانيق التي حاربها مدة عامين وقتل ماقتل منها وسجن أكثر من ثمانين منها مات أكثرهم في السجن..اتخذهم حرساً له، وكانوا مخلصين، وخاصة بقيادة الفاشق ويحيى منصر، هذين الشيخين الكبيرين المتنافسين في قبيلة الزرانيق.
اصطاد سعيد إبليس محمد يحيى منصر واتفق معه على أنه عندما يأتي دور والده في الحراسة وكانت الحراسة نوعين من أسبوع أو 24 ساعة، واحدة للفاشق وأخرى ليحيى منصر أن يفسح له الطريق ليصل بحجة أن معه مذكرة شكوى للإمام، بينما يكون هو متحزماً بالقنابل والمتفجرات لكي يفجر نفسه ويقتل الإمام وهذه أول عملية فدائية.
ذهب الشيخ محمد بن يحيى منصر إلى والده وأخبره، وكان يحيى منصر في تنافس مع الفاشق حول من يكون أكثر قرباً من الإمام، فتجمل للإمام لكي يرتفع مقامه عنده، وطبيعة البدوي، وأخبر الإمام وأخبر مريديه فذهبوا إلى محمد بن يحيى منصر، فأراهم أين سعيد حسن إبليس.. وهنا ألقي القبض عليه وكانت معه شنطة فيها أسماء كثيرين من الأحرار ومن المشايخ الكبار الذين لم يفروا من اليمن، أي من الشمال إلى الجنوب، وتسلمها علي مارش الذي لايزال موجوداً ويعرفه يحيى راصع وكيل محاففظة تعز سابقاً، وسلم علي مارش الشنطة بمافيها إلى أحمد أمين نعمان في تعز بعدما فر بها من السخنة وكان من ضمن الموجود في الشنطة استلام بخط علي محمد سعيد أنعم لسعيد حسن فارع.. وهذه لها قصة، ربما أشرحها فيما بعد فعلي محمد سعيد أنعم كان مغامراً، وكان يضحي، وقد ضحى في أوائل عام 1948 بتبرعات وهذه المرة أيضاً..وكان يعرف أنها ستكون ثورة..وفيما بعد استدعى أحمد أمين نعمان علي محمد سعيد أنعم وأخرج ورقة الاستلام ومزقها مزقاً بطريقة معروفة لنا كلنا، ويعرفها أحمد أمين نعمان.
أما سعيد حسن إبليس فقد جلد وضرب وعذب لكي يعترف بأسماء الذين أرسلوه، وكان يقول أرسلني الشعب.. وأخذ إلى حجة، بعد إعدام الشهيدين البطلين حسين بن ناصر مبخوت الأحمر وولده حميد اللذين أعدما بحركة فيها خبث ودهاء من الإمام، إذ جاءت قبائل حاشد ومشائخها يتشفعون لهما ويطلبون الإفراج عنهما، فبادر الإمام بخبث ودهاء مبدياً فوات الأوان وقال: البقية في حياتكم..وأرسل بالأمر لإعدامهما.
هكذا أخفقت عملية الدكتور الزاقوت وسلام الرعدي، وأخفقت أيضاً عملية سعيد حسن إبليس، وتتابعت الأحداث، وظل الناس في هرج ومرج، وبقينا نحن في عدن ننتظر ماسيكون للبقية، وتقاطر إلينا الفارون، وكان أول من وصل هارباً فاراً بجلده الشيخ سنان بن عبدالله أبو لحوم، ثم الشيخ علي بن علي الرويشان رحمه الله، ثم أحمد علي الزايدي، ثم محمد أحمد الحباري، ثم علي أبو لحوم، ثم أحمد الصوفي من خولان، إلخ.. وكثيرون نزلوا جميعاً في عدن..في هذا الوقت كنا أنا وعلي الأحمدي من ضمن من يجمع التبرعات من التجار ولم يقصروا، وكنا نعطيها للشيخ سنان أبو لحوم، وهو يتذكر ذلك، وكان نازلاً في الشيخ عثمان، وكان آخرون ينزلون في بيت من طابقين أعطاه لهم شريف بيحان.
كلية بلقيس
قدم إلينا من لندن الأستاذ المناضل أحمد محمد نعمان الذي سماه أحد الفلاسفة بصانع النور في اليمن، بعد أن عرف بإخفاق تلك الحركة وبقتل حسين الأحمر وولده البطل حميد..وفي اليوم التالي اجتمعنا به في الاتحاد اليمني مع كثيرين من الأحرار الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من لايزال حياً.
وقد ألقى الأستاذ نعمان في تلك الليلة كلمة مؤثرة، ولم أره في حياتي متغيراً مربداً باكياً حزيناً كما رأيته في تلك الليلة ومماجاء في كلمته التي ألقاها:« هكذا نحن اليمنيون نقتل ونسجن فلا يرثي لنا أحد..» وقد بكى وبكى وأبكى الحاضرين جميعاً، لقد كان وقع تلك الحادثة عميقاً في نفسه، فهو لم يبك مثل هذا البكاء إلا حين توفيت زوجته، ولم يلف في مثل هذه الحال إلا حين قتل ولده البطل العلم الشهيد محمد نعمان..ولعل هذا البكاء المرير على حميد بن الأحمر كان لسببين أولهما مايكنه له النعمان من محبة الأستاذ لتلميذه النجيب لما تعهده به من الإعداد والتعليم في سجن حجة كما سبق وذكرنا، وثانيهما الفجيعة الوطنية التي منيت بها اليمن نتيجة لإخفاق هذه الحركة.
في هذه اللحظة التاريخية أعتقد أن الأستاذ نعمان كان حزيناً يائساً من جهة وكان يفكر بأفق جديد للعمل الوطني من جهة أخرى، والأفق الجديد هو العلم وأذكر أنه قال: لا فائدة.. يجب أن يتثقف هذا الشعب..يجب أن يتثقف اليمنيون..عندنا طلبة يدرسون في الخارج ولكن هذا لايكفي..أما في هذه المستعمرة عدن فمحرم على طلاب اليمن من الشمال دخول كلياتها ومدارسها البريطانية، ماعدا المدارس الأهلية كمدرسة بازرعة ومدرسة النهضة ومدرسة المدراسي..لابد من العلم..لابد من العلم.. العلم..العلم..» من هنا كان المنطلق في الشروع ببناء كلية بلقيس.
وأذكر أن اجتماعاً ضمّنا في الاتحاد اليمني وكان بين الموجودين الأستاذ نعمان والحاج الثائر محمد علي الأسودي ومحمد شعلان والشيخ سنان أبو لحوم، وقد تكلموا طالبين من الأستاذ أن يقوم بحملة تبرعات، ولكنه ظل صامتاً، فانبريت للإجابة عنه دون أن يكلفني أحد بذلك، وقلت لهم: مامعنى أن نقوم بجمع التبرعات؟ هؤلاء التجار الذين قد ظلمناهم وآذيناهم منذ عام 1945 مازالوا يتبرعون ويتبرعون ويرسلون التبرعات من المهاجر إلى داخل اليمن وخارجها، ماذنبهم؟ هل تودون أن نبتزهم؟
لقد كان بعض الحضور يريدون جمع المال لما يدعى أنه ثورة في خولان حيث تمرد فرع من قبيلة خولان ولكنهم فروا كالجرذان إلى عدن، وهذا سنان أبو لحوم لايزال يتذكر ذلك وفي مقدمة الذين جاؤوا من خولان أحمد علي الزائدي الذي تحول بعد الثورة إلى ملكي، لا أدري كيف أن بعضهم كان مخدوعاً بهذا التمرد ويتصور أنه ثورة ستجتاح اليمن حتى الأستاذ محسن العيني كان مخدوعاً على هذا النحو.
لقد أعجب الأستاذ نعمان بأجوبتي وردودي على الذين يريدون جمع التبرعات وتوجيهها إلى ذلك التمرد.. بعد ذلك قال لي: يامحمد أنا قد غبت كثيراً، مارأيك أن تجمع بعض التجار، فأنا قد فكرت في بناء كلية يدرس فيها اليمنيون، ولاسبيل لنا إلا العلم.. عندما يتثقف هذا الشعب المتخلف سوف يكون هناك تغيير، أما الآن فلا تعليم ولا إدارات ولاطرقات ولا مدارس ولا مستشفيات فكيف سيحصل التغيير؟
لهذا الأمر اجتمعنا ذات يوم لدى الحاج هائل عبدالولي العريقي وكان مقاولاً، في منزله في الجولة مابين الشيخ عثمان والبريقة، ودعونا هناك الحاج شمسان عون ومحمد عثمان ثابت وأحمد حيدر ثابت وآخرين.. وفوجئوا بأنني دعوت الأستاذ نعمان إلى هذا الاجتماع، وتمت مناقشة أمر بناء الكلية.
بعد خمسة أيام اقتنع الحاج شمسان عون، وأعتقد أنني كنت وراء 60% من الدافع له للاقتناع، وأن سلام علي ثابت الذي كان مقتنعاً جداً جداً قد دفع خاله شمسان عون إلى الاقتناع.
تشكلت اللجنة التحضيرية، وكان الدينامو في هذا الاجتماع عبدالقادر أحمد علوان الذي كان فيما مضى الأمين العام للاتحاد اليمني، وخلفه الأستاذ الشهيد علي الأحمدي الذي قتل ظلماً بعد الثورة في رداع وكان من المثقفين الكبار، وكان خطيباً مصقعاً باللغتين العربية والإنكليزية.
اقترح الأخ عبدالقادر أحمد علوان وآخرون أن أكون السكرتير للجنة التحضيرية لهذه الكلية التي سميناها «كلية بلقيس» وبدأت التبرعات، وإذا بشمسان عون هذا الإنسان الكريم، وهو شبه أمي، يبدأ التبرعات بمائة ألف شلن، وهذا مبلغ كبير جداً، أي خمسة آلاف جنيه استرليني، وتلاه أحمد حيدر ثابت بخمسين ألف شلن، وسلام علي بثلاثين ألف، وهائل عبدالولي بثلاثين ألف، وهو أول من بدأ وساهم وجاء بأحجار للبناء من منطقة وراء الشيخ عثمان لبناء الكلية، وهو الآن إنسان مجهول يعمل حارساً في إحدى بنايات صنعاء.
كيف نفعل؟ من أين نأتي بأرض نبني عليها هذه المدرسة؟ وهنا أدخلنا الحاج محمد علي المقطري الذي حصلنا بوجاهته على الأرض مجاناً وقد أقنعه مجاهد حنيصيص المقطري وهو أحد زملائه، وكانت مساحة الأرض كبيرة، وانتخبنا الحاج محمد علي المقطري رئيساً فخرياً للكلية كما انتخبنا أيضاً شمسان عون رئيساً لها، وثمانية أعضاء منهم عبدالقادر أحمد علوان وأحمد حيدر ثابت وسلام علي ثابت ومجاهد حنيصيص محمد عبدالواسع..الخ.
النعمان يسفر من عدن:
تقلبت الظروف، وإذا بالأستاذ أحمد محمد نعمان يسفر من عدن، وعند وداعه في المطار ألقى خطاباً مؤثراً وهو يبكي ويُبكي كل من حضر في مطار عدن ويستشهد بقول الشاعر:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا
إلا بقية دمع في مآقينا
وتلاه بشاهد آخر:
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماءُ؟
وسفر إلى مصر، ومن هناك كتب لي عدة رسائل، ومن ضمنها يقول لي: يامحمد لقد خلفتك وأنت:« فوكل بها عمراً ثم نم» ولا أريد أن أتحدث عن نفسي.. فتحركنا للتبرعات من جديد وشكلنا لجنة لذلك وكنا ننتهز مناسبة شهر رمضان المبارك وأذكر من الأعضاء الفاعلين في حملات جمع التبرعات هذه الشهيد علي الأحمدي الذي كان الدينامو في المعلا وعبدالله حاتم، الخطيب في مسجد الهاشمي في الشيخ عثمان، وأنا في التواهي وعدن لأني كنت أعرف التجار الكبار منذ زمن طويل حتى أن علي حسين الوجيه الذي كان لايجرؤ أحد على الذهاب إليه قد تبرع بخمسين ألف، وعلي الجبلي الذي كان مائة في المائة مع الإمام خجل وقال سأدفع في كل شهر 5000 شلن، وأمين قاسم الشميري 000.30.
وبعض السلاطين تكلف بهم الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان، وهكذا ابتدأنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.