بن عديو: الوحدة تعرضت لسوء الإدارة ولا يعني ذلك القبول بالذهاب نحو المجهول    خطاب ناري للسفير احمد علي عبدالله صالح بمناسبة الوحدة اليمنية    إيقاد الشعلة في تعز احتفالا بالعيد الوطني 22 مايو المجيد والألعاب النارية تزين سماء المدينة    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    النص الكامل لكلمة الرئيس العليمي التاريخية بمناسبة العيد الوطني المجيد 22 مايو عيد الوحدة اليمنية    المجلس الانتقالي الجنوبي يصدر بيان "فك الارتباط عن الجمهورية العربية اليمنية"    محمد قحطان.. والانحياز لليمن الكبير    أبين.. منتخب الشباب يتعادل مع نادي "الحضن" في معسكره الإعدادي بمدينة لودر    بايرن ميونيخ ينتظر مكافأة مالية من برشلونة بسبب ليفاندوفسكي    في ذكرى إعلان فك الارتباط.. الانتقالي يؤكد التزامه باستعادة دولة الجنوب (بيان)    العليمي: الوحدة اليمنية لحظة تاريخية جديرة بالتأمل والتعلم    التعادل يسيطر على مباريات افتتاح بطولة أندية الدرجة الثالثة بمحافظة إب    القبض على متهم بابتزاز زوجته بصور وفيديوهات فاضحه في عدن    الوزير الزعوري يناقش مع وحدة الإستجابة برئاسة مجلس الوزراء الملف الإنساني    وزير الشؤون الاجتماعية يشيد بعلاقة الشراكة مع اليونيسف في برامج الحماية الإجتماعية    العلمي في خطاب الوحدة يُبدئ انفتاحه على كل الخيارات بما فيها تقرير "المركز السياسي" للدولة    تسريب معلومات صادمة عن طائرة الرئيس الإيراني وسبب سقوطها والجهة التي تقف وراء مقتله    الامين العام للجامعة العربية يُدين العدوان الإسرائيلي على جنين    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف من رفع الفائدة الامريكية على الطلب    لاعب ريال مدريد كروس يعلن الاعتزال بعد يورو 2024    المبعوث الامريكي يبدأ جولة خليجية لدفع مسار العملية السياسية في اليمن مميز    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    الوزير البكري يلتقي رئيس أكاديمية عدن للغوص الحر "عمرو القاسمي"    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    تناقضات الإخواني "عبدالله النفيسي" تثير سخرية المغردين في الكويت    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن حملة علاجية مجانية لمرضى القلب بمأرب    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    إصابة امرأه وطفلين بانفجار لغم زرعته المليشيات غرب تعز    "وثيقة".. كيف برر مجلس النواب تجميد مناقشة تقرير اللجنة الخاصة بالمبيدات..؟    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    تعميم هام من وزارة الخدمة المدنية والتأمينات لكافة موظفي القطاع الحكومي    انهيار مرعب للريال اليمني.. ووصول أسعار صرف الدولار والريال السعودي إلى أعلى مستوى    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    المشاط يدافع عن المبيدات الإسرائيلية وينفي علاقتها بالسرطان ويشيد بموردها لليمن    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الأصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 17 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
الاصبحي يتذكر
الحلّ الوسط وشجون أخرى
في عام 1964م بعد مؤتمر أركويت الذي عقد في السودان أقيم في صنعاء بميدان التحرير حفل خطابي خطير جداً، يندد بذلك المؤتمر، وكان يرأس ذلك الحفل ويقود تجمعه من وراء الستار إبراهيم بن علي الوزير.. وهو إنسان ذكي جرجر معه إلى هذا التجمع كثيرين، منهم: الشيخ أحمد عبدربه العواضي رحمه الله والأستاذ الكبير محمد عبده نعمان والأستاذ القدير محمد عبدالرحمن الرباعي والمرحوم الدكتور محمد علي الشهاري.
في ذلك التجمّع ألقيت خطابات كثيرة، وصدر عنه منشور ينعي على الجمهورية: كيف قبلت الملكيين وكيف وكيف؟ كان المنشور خطيراً ضدّ الثورة وضدّ الجمهورية من حيث لا يعرف الآخرون، وقد تمّ توزيعه في صنعاء.
هذا المنشور جاء معارضاً لنتائج مؤتمر أركويت بالسودان الذي ترأسه الأستاذ الزبيري وكنت معه.. لم يرق للملكين لأنه أقرّ التمثيل بين الفريقين 75 للجمهوريين و25 للملكيين.. أما في عام 1965م فقد قبل الملكيون حضور مؤتمر حرض على أساس: 50 للجمهوريين و45 للملكيين يرأسهم أحمد محمد اشامي و5 للمنشقين على رأسهم إبراهيم الوزير قادماً من السعودية.
في عام 1964م عقد اجتماع في مجلس الشورى، الذي لم يكن مشكلاً آنذاك بل كان مجرد مبنى. في ذلك الاجتماع ارتفع صوت الأستاذ النعمان، وكان بجانبه القاضي الإرياني.. ارتفع صوته قائلاً: أيها الناس إني أقرأ عليكم هذا المنشور.. منشور لو أن الملكيين دفعوا مئات الملايين ليوزعوه في العاصمة صنعاء لما استطاعوا أن يوزعوه علناً.. أين الأمن؟ وأين المخابرات؟ وأين وأين؟
فأجابة عبدالله بركات- الدكتور الآن- وكان مديراً للأمن آنذاك، وقد ذّكرته مرة بهذا وأنا سفير في جيبوتي، أجاب مخاطباً الأستاذ النعمان: اسمع يا أستاذ. المنشور قبضنا عليه، وعرفنا من هم وراءه.. ولكن ماذا نصنع؟ سامح الله العقيد هادي عيسى- وكان قد رُحَّل إلى مصر آنذاك- رغم احترامي لثوريته.. عندما ألقينا القبض على الذين لغموا بيت الأستاذ الزبيري وجاره إذ بالفاعلين يطلقون.. ماذا تريد مني يا أستاذ؟ هل تريد مني أن أذهب إلى القلعة «السجن»؟ أنا لست مستعداً.
فإذا بالعبقري محمد أحمد نعمان، ولم أره متهدَّج الصوت مرتعشاً كما في ذلك اليوم، يصرخ: أيها السادة.. أيها الحاضرون.. إن ما صرح به العقيد عبدالله بركات مدير الأمن العام ينسف الثورة والجمهورية من جذورها، وإلا فليقل لنا وبصراحة من هم وراء إطلاق المجرمين من الذين لغموا بيت الزبيري وغيره؟ وإذا بالعقيد عبدالله بركات يقول: كأن الأستاذ محمد نعمان يريد مني أن أذهب إلى السجن. مستعداً. وكل ما أريد أن أقوله هو ما صرحت به.. نعم. هذه أشياء خطيرة جداً، لم أذكرها في كتابي الأول.. وأذكرها الآن ليقرأها القرّاء، والدكتور عبدالله بركات يعرف ذلك.
هذا ما دفع بعض أفراد هذا التجمع إلى الفرار ما عدا الذين كان مغرّراً بهم أمثال الأستاذ محمد عبده نعمان وأحمد عبدربه العواضي.. إذ سجن محمد عبده نعمان بينما العواضي لم يمسه أحد.
وكذلك بقي الدكتور محمد علي الشهاري الله يرحمه، وصار فيما بعد مديراً لوزير الخارجية عبد القوي حاميم.. هكذا كانت الأمور تمشي.. وهكذا من تلك الأيام بدأت القوة الثالثة تتشكل في المملكة العربية السعودية ومؤسسها إبراهيم بن علي الوزير الذي رأس وفد المنشقين إلى مؤتمر حرض عام 1965م.
هذا جانب وجوانب أخرى لا أريد أن أتذكّرها.. فمثلاً..
في عام 1965م أتذكر ذهب المشير عبدالحكيم عامر إلى الشيخ علي ناجي الغادر ليلتقيه في خولان، فسلّمه فلوساً، وتصوروا صوراً، وما كاد عامر يعود حتى عاد الغادر إلى سيرته. أنه كما قال عنه سعيد علي الجريك عاش غادراً ومات مغدوراً لا قتال ولا معارك ولا مايحزنون.. خدع المشير عامر وتصوّر معه في تلك الصور التي نشرت في الصحف المصرية في «آخر ساعة» وغيرها.
بعد هذه الحادثة تشكّل وفد من الأحرار برئاسة القاضي الإرياني ومعه الأستاذ أحمد محمد نعمان والمرحوم القاضي عبدالكريم العنسي.. ذهبوا والتقوا بالغادر، ليثبتوا أننا نحن اليمانيين بإمكاننا أن نتفق مع إخواننا.. وهناك ألقى محمد يحيى الرويشان قصيدته المشهورة والتي ذكرتها في كتابي الأول.
عاد الوفد إلى صنعاء وكان معهم أيضاً أحمد عبده سعيد الذي تخلّفت عنه بدقائق، وإلا كنت سأكون بينهم.. عادوا ثم ذهبوا مع الزبيري إلى برط حيث أصدر صحيفة بالستنسل أسماها «صوت اليمن»، واسس حزباً أسماه «حزب الله»، وهو حزب لا كما يدعّي المغفلون والمشعوذون أو الذين يدّعون الإسلام كذباً وزوراً.. لقد كان هدف الزبيري رحمه الله من هذا الحزب أن يقول للقبائل الذين اجتمع بهم إننا مسلمون وإننا حزب حق. حزب الله حزب الحق، وليدرأ به الملكيين وآخرين. ولا بأس هنا من إيراد بعض الفقرات من المنشور الثاني الذي أصدره الأستاذ الزبيري تحت عنوان «التعريف بحزب الله» مؤرخاً في 28 شهر رمضان سنة 1384ه في جبل برط. جاء في هذا المنشور:
«حزب الله يريد حكم الله لا حكم المدفع والصاروخ ولا حكم الدبابة والمصفحة ولا حكم القوة والتسلط ولا حكم الوراثة والتملك».
«حزب الله يؤمن بالله وشرف الشعب ولا يؤمن بالقنابل والألغام ولا بالقتل والرصاص».
«حزب الله يؤمن بالمحبة والأخوة والمساواة بين جميع أبناء الشعب فئاته ومناطقه، ولا يقبل أن تتحكم طائفة على طائفة ولا منطقة على منطقة ولا قبيلة على قبيلة».
«حزب الله يدعو الشعب ويوجهه إلى أن يملأ اليمن بالمدارس بدلاً عن القنابل وبالمستشفيات بدلاً عن المتفجرات والمهلكات، وبالحراثات والبمبات بدلاً عن الدبابات والمصفحات وبالأخوة بدلاً عن الأحقاد والخصومة....».
«حزب الله يريد أن يقود الشعب لزراعة الأرض اليمنية الطاهرة بالحبوب والفواكه والزهور والورود والأخوة والمحبة...».
تمّ رصد الأستاذ الزبيري.. رصدوه ولا أتّهم الجمهوريين كما يقول بعضهم. رصده الملكيون في منطقة اسمها «أرجوزة» ما بين ذو محمد وذو حسين من برط.. هم قبائل عاتية وهم رأس بكيل، فقتل هناك. ألقي القبض على القتلة لأن الطريق أقفلت وكانت ستكون حرباً بين الحيين ذو محمد وذو حسين.
جاؤوا بالقتلة وكنا في مؤتمر خمر، وكان يرأسه آنذاك القاضي الإرياني، وكان رئيس الوزراء آنذاك الأستاذ النعمان، وكنت عضواً في المؤتمر.. وما أزال أذكر في ذلك المؤتمر النصائح التي أولانا إياها العميد محمد الرعيني، ومنها: إياكم أن تمسّوا المصريين بما يسيء إليهم.
في هذا الموقف قال الإنسان العبقري محمد أحمد نعمان ابن الأستاذ الذي لا يدانى ولا يجارى والذي لا يمكن أن يجود الزمن بمثله إلا بعد خمسين عاماً.. قال: «إياكم أن تجمعوا بين القاتلين، فرقوا بينهما».
لم يسمعوا كلامه، فجاءت نقود، وذهب الاثنان معاً مع الحرس بفلوس، وانتهوا. في ما بعد قتل أحدهما أما الثاني فأصيب بالجذام وانتهى كل شيء.
هنا. اسمحوا لي أن أستطرد إلى رسالة وصلتنا عندما كنا في مؤتمر حرض.. الرسالة من الشيخ عبدالله علي القصيمي فيلسوف العرب والمفكر الكبير صاحب الأسلوب الفريد موجّهة إلى الأستاذ النعمان وكان يحبه ويحب نجله محمداً أكثر.. يقول في الرسالة:
«خبرونا يا أصحاب الانتصارات المتوحشة هل للنصر سحر ومذاق؟ نتمنى لكم الهزيمة لكي نراكم صباحاً ومساءً في القاهرة. بلغنا أن الأستاذ محمد أحمد نعمان قد وصل إلى اليمن بثقله وأبعاده وأفكاره وذكائه.. كان الله في عون الأستاذ محمد من اليمن، وكان الله في عون اليمن من محمد نعمان».
هذه خلاصة تلك الرسالة الطويلة التي لا زلت أحتفظ بها، وأترك هذا الاستطراد بلا تعليق!
شأن خاص في شجن عام
عدنا إلى صنعاء، وكدت أنسى. أقول للتاريخ بأن الأستاذ أحمد محمد نعمان كاد ينساني لولا علي محمد سعيد. فقد قال لي ذات يوم هو ومحمد سيف ثابت رحمه الله: يامحمد عبدالواسع أنت تجري منذ عام 1945و 1946.. وقامت الثورة وها أنت ترجع أخيراً إلى الوراء. لماذا لا تعين؟
قلت: أرجوكما ألا تكلما الأستاذ، وكنت أهمّ بالرحيل من جديد. فقد أرسلت رسالة إلى الأستاذ حسين الحبيشي، ملخصها: إنني أريد أن أعود إليكم لأدرّس في كلية بلقيس بعد أن يئست من كل شيء. فأجابني الأستاذ حسين الحبيشي، وهذا سعيد الشيباني حاضر، أجابني: يا محمد أنت من بناة كلية بلقيس ومؤسسيها. تعال هنا وخذ شقة وألفاً وخمسمائة شلناً شهرياً.. آنذاك من يجد ألفاً وخمسمائة شلناً؟!
أجل. كلية بلقيس. هذه الكلية التي أنشئت بجهود طيبة في عام 1961م واضطلع بعمادتها الأستاذ حسين الحبيشي وبإدارتها الأستاذ محمد أنعم غالب.. ولعلكم تسمحون لي بأن أستطرد إلى القصيدة التي قالها الشاعر أحمد حسين المروني بمناسبة إنشاء هذه الكلية، فأذكر منها قوله:
شيدوا العلم وارفعوا أعلامه
إنما العلم قوة وزعامة
ها هنا تصهر المذاهب ديناً
واحداً لايزول حتى القيامة
مبدأ الحق لايخاف انتقاداً
كل نقدٍ للحق يرفع هامة
سدّد الله بالنجاح خطانا
ثم زدنا هداية واستقامة
كما أذكر من النداء الأبوي الذي وجهه الأستاذ أحمد محمد نعمان لكل أبناء الشعب اليمني ليسارعوا في تشييد هذا الصرح الوحدوي قوله:
«إن كلية بقليس تجمع مدارس رياض الأطفال والابتدائية والإعدادية والثانوية، هذه الكلية ليست سوى النواة الروحية والبذرة الأولى لبناء الوطن كله بناء سليماً وليست مجرد بنيان يقام من الحجر أو الإسمنت والحديد ليقي من يدخله وهج الشمس ولفح الرياح ولذلك فلابد من أن تعد مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيداً أحوال شعبها وتدرك المهالك التي طوح فيها بالمواطنين، ودفنوا فيها تاريخ أمجادهم منذ تنكبوا عن الأخذ بأسباب العلوم علوم بناء الحياة.
يا أبناء اليمن إن ذوي المال منكم مطالبون بأن ينفقوا مما رزقهم الله سراً وعلانية وإن خدمة الأوطان اليوم لم تعد كلاماً ولاثرثرة ولاتشنجاً ولا ضجيجاً ولا أحلاماً ولا أماني وإنما تخدم الأوطان بالعلم والعمل والخبرة والفهم والتضحية والبذل والجد والتعب، ابنوا المدارس يا أبناء اليمن والمعاهد الفنية.. وأخرجوا رجالاً متعلمين لبناء الوطن إن كلية بلقيس يوم تنشر أسماء الذين ساهموا وتبرعوا سيعرف الوطن كله من هم أبناؤه الحقيقيون ومن هم الغيورون على مصلحة هذا الوطن وسيعرف الذين تقاعسوا وتهاونوا بهذا الواجب أن الحساب عسير».
أعود إلى شأني الخاص فأقول
في الوقت الذي كنت أهمّ به بالرحيل صدر تعييني نائباً لوزير المواصلات الدكتور حسن مكي.. بيد أن المصريين لم يرق لهم تشكيل تلك الحكومة الوطنية.. أنا آسف لا أقول عبدالناصر ولكن أقول إن وراء تلك الأحداث كلها واللخبطات إذا جاز أن أقول هو أنور السادات.
يجب أن تعرفوا يا أحبائي من ناشئة اليمن وشبابها أن من أساء إلى الثورة اليمنية هو ليس عبدالناصر وأن الذي أساء للثورة اليمنية ولمصر ولعبدالناصر إنما هو أنور السادات وخدينه عبدالرحمن الملقب بالبيضاني، وهو ليس بيضانياً بل هو أفغاني الأصل.
حدثت أحداث بعد مؤتمر خمر.. وتفرّقت تلك الوزارة: سجن من سجن وفرّ من فرّ، ولم يبق إلا قلة من ضمنهم أنا، نائباً لوزير المواصلات وكنت أرتجف خوفاً وفرقاً..
في هذه الأثناء كان الشيخ عبدالعزيز الحبيشي رعاه الله يبرق لهذا ويكتب لهذا يريد أن يكون نائباً لوزير المواصلات، وهو لايعرف أني كنت أفهم كل شيء، فذهبت إليه في إب، وأطلعته إلى الكرسي، وقلت: خذ هذي.
أنت نائب أما أنا فلا، وتوجّهت إلى وزارة الصحة كوكيل للوزارة ببرقية من العمري الذي كان في ألمانيا موجّهة إلى عبدالسلام صبرة الذي كان وزيراً للمواصلات.
لعبة الأوراق المكشوفة
في مؤتمر حرض الثاني، ولم أكن فيه عضواً بل كنت فيه مرافقاً للأستاذ النعمان.. بقينا أكثر من شهر ونصف في دوامة لعبة مكشوفة.
في تلك اللعبة أسفر المصريون عن رغبتهم في أن يقبل الطرف الجمهوري الحلّ الوسط بين الجمهورية والملكية، ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنهم كانوا يدفعوننا إلى القبول بالدولة الإسلامية التي يريدها الملك فيصل رحمه الله..
وقد كاد بعضهم أن يميل إلى هذا الطرح ضعفاً أو جهلاً ومن هؤلاء عبدالغني مطهر، الله يسامحه، وجزيلان وآخرون ولكنهم أخيراً تراجعوا ووقفوا معنا.. ورحم الله الرجل الحرّ مطيع دمّاج والد الأديب الأستاذ زيد مطيع دماج الذي ردّ هؤلاء إلى صوابهم وأقنعهم بالتراجع عن موافقتهم على الحلّ الوسط..
وبرفض الحلّ الوسط عادت الأفاعي تنهش في صدورنا، وللحديث شجون وشجون.
الفصل الثالث
البيضاني وشجون أخرى
أيها الأصحاب.. أيها الأخلاء.. أيها الرفاق
كان للسياسة المصرية في اليمن شؤون وشجون، ومن أكثر هذه الشجون إيلاماً وإزعاجاً كان الدكتور عبدالرحمن البيضاني.
هذا الرجل كان مضطرب المواقف مجهول النوايا وهبط على القضية اليمنية بسلّة..
ما أتصوّره أن ساحة القضية اليمنية إبّان ثورة سبتمبر كانت معتركاً بين خطّين متناقضين.
أولهما يضمّ مصر واليمن ممثلتين بالزعيم الخالد جمال عبدالناصر وبأحرار اليمن الأفذاذ، أو قل: الأحرار في مصر واليمن.
وثانيهما: يضمّ السادات والبيضاني وبعض الضباط المصريين الذين كانوا يسيئون لمصر ولعبدالناصر في اليمن، أو قل: اللا أحرار في مصر واليمن.
ولا أجد هنا شهادة واضحة ودقيقة وكاشفة لشخصية البيضاني ودوره المضطرب المشبوه كشهادة حكيم الثورة اليمنية القاضي عبدالرحمن الإرياني التي أدلى بها، رحمه الله، في ندوة التوثيق للحركة الوطنية التي انعقدت في الشهر الخامس من عام 1984 بإشراف مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء يقول القاضي الإرياني:
«ومما ينبغي أن أشير إليه أن البيضاني، بعد دخول القوات المصرية لمساندة الثورة، قد قدم له كل ما أراده من نائب لرئيس الجمهورية إلى رئيس وزراء ووزير خارجية واقتصاد وعضو في مجلس قيادة الثورة ونائب للقائد الأعلى.
وبعد أشهر أخرج من اليمن وجرد من كل هذه المناصب حينما تجاوزت طموحاته الحدود، وأساء إلى الثورة بسوء تصرفه، فحملت الرئيس السلال على إبعاده، وحينما جاء إلى عدن ليتعاون مع الإنجليز لإلحاق بعض الألوية بدولة الاتحاد سحبت جنسيته اليمنية وسجنه عبدالناصر لذلك ولأسباب أخرى عرفها عنه، والبيضاني طاقة من النشاط والحركة ولكن تلوّنه وتهوّره وعدم ثباته على خطّ واحد جعلته يخفق في آماله، فهو كما قال الشاعر العربي في أمثاله:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن
وإن لقيت معدّياً فعدناني
فإذا رأيته اليوم في أقصى اليسار، إذا بك تراه غداً في أقصى اليمين، إن له مرصداً يرصد به رياح الكسب والغنيمة والشهرة، فيسبقها إلى الجهة التي تتجه إليها، ولايبالي أنه يناقض نفسه بنفسه، فقد كان من غلاة الاشتراكيين حينما جاء إلى اليمن في عهد عبدالناصر، فأعلن الاشتراكية في البلد الفقير المتخلف فسبّب ذلك هروب رأس المال الوطني على قلته، ولما مات عبدالناصر أصبح عدواً له، فحج إلى بيت الله وأصدر كتاباً يهاجم به الاشتراكية التي سماها الماركسية والتي أعلنها في اليمن، وقد قال عنه الأستاذ أمين حامد هويدي فيما نشرته صحيفة «الشعب» المصرية الصادرة في 24/5/1983م مايلي:«ليس للبيضاني جذور في اليمن،إنه عاطفي في قراراته السياسية،إنه لايلتزم الدقة في معلوماته ويلوّنها بالصورة التي تدفعها إليه عواطفه أو مصالحه،إن علاقته باليمنيين في المنفى وفي الداخل يسودها عدم الثقة للفارق الكبير في طريقة التفكير وفي السلوك»،إلى أن يقول:«والذي يعرف حقيقة الأوضاع في اليمن ذلك الوقت كان يلمس عدم شعبية البيضاني ونفور الأطراف منه، علاوة على أنه أخذ يدلي بتصريحات عنيفة ضد السعودية مهدداً السعودية بالويل والثبور، علاوة على تصريحاته عن تطبيق الاشتراكية في اليمن، وهي أمور كانت بعيدة كل البعد عن الحكمة، تثير السعودية من جانب وتثير القبائل من جانب آخر، وأظن أن هذه التعقيدات كانت السبب الرئيسي لإبعاده عن السلطة، وقال إن أنور السادات لم يقتنع بما لفت نظره إليه عن البيضاني،ولكنه بعد أن ذهب إلى عدن وهاجم عبدالناصر ورجال الثورة اليمنية اجتمع به حينما رافقا الرئيس عبدالناصر في القطار الذي سار بهم من القاهرة إلى الاسكندرية، وقد فوجئ بالسادات يأتي ليقعد بجانبه ويقول له: يا أمين أنت كان رأيك سليماً في البيضاني، وأخذ سيادته يعدد لي أخطاءه الكثيرة وكيف أن هذه الأخطاء أوقعت الثورة في مشاكل عديدة،وأن من المصلحة أن لا يبقى عبدالرحمن في عدن»،ثم يقول الأمين:«إنني لست طرفاً بقدر ما أنا شاهد» لم يقل كل شيء لأسباب يعرفها،فليس من عادتي الهدم والعدوان،وقد أخبرني أحد الذين لهم صلة بأمين الهويدي أن الشيء الذي لم يقله هو ارتباط البيضاني بالمخابرات الألمانية الغربية، وقد أيد ذلك ماجاء في رسالته إلى ولي العهد البدر والمحررة بخطه وفيها يتجسس على الأمير يحيى بن الحسين حميد الدين ابن عم البدر،وقد جاء فيها قوله:إنه سيستعين لمتابعة تحركات الأمير يحيى بالمخابرات الألمانية، لأن له فيها صداقات،ومعلوم أنه ليس في دستور المخابرات صداقات، وإنما فيه زمالات،والأستاذ الأمين هويدي كما هو معروف كان مشرفاً على المخابرات المصرية، فهو قد قال ماقاله عن علم «وماينبئك مثل خبير» وفي كلام السادات مايدل على أنه كان متورطاً مع البيضاني وخاف أن ينفضح أمره أمام عبدالناصر».
من الأدوار المشبوهة للبيضاني تلك الوزارة التي أقحمت على الثورة اليمنية عام 1962م والتي فيها تم استبعاد زعماء الأحرار، وحُصرت معظم السلطات بيد البيضاني، حيث أنيط به بموجبها مناصب نائب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير خارجية.
وكما ذكرت في كتابي الأول بمبادرة شخصية من محمد عبدالله الفُسيِّل نُزعت المناصب التي أسندت إلى البيضاني بموجب القائمة التي جاء بها من مصر، وأُبقي له فقط وزارة الاقتصاد.. وبمبادرة من الفسيِّل أيضاً تسلّم الزبيري وزارة المغتربين.. بينما استبعد الأستاذ النعمان لأن الفسيل كان حاقداً عليه، وهكذا طبع الأستاذ الفسيل، غفر الله له.
وبقينا نحن الأحرار الموجودين في عدن محتجين وغير راضين عن هذا الاستبعاد إلى أن جاءت رسالة بتوقيع المشير السلال إلى النعمان يطلب فيها منه العودة إلى صنعاء مع العميد محمد علي الأكوع والأستاذ أحمد عبدالرحمن المعلّمي.. فأبرق لنا الأستاذ النعمان، فرجعنا والتقينا بصنعاء.
لم ترق هذه المجريات للبيضاني، فجميع مجلس الوزراء وأوهم المشير السلال وغيره أنه لولاه لما جاء المصريون بقواتهم.. وهذه الفكرة قد سبق وكتبت عنها:لماذا جاء المصريون؟والبيضاني في هذا التدبير الموهم كان مدّعياً وكاذباً.. ثم عمد البيضاني إلى أسلوب آخر لإبعاد الأحرار عن ساحة الفعل الحقيقية في الثورة اليمنية، فاتبع أسلوب التسفير خارج اليمن، فسفّر أشرف الأحرار وأشرف الزعماء وأبطال الحرية من أقيال اليمن.. وبدأ بالأستاذ أحمد محمد نعمان فسفّره إلى الجامعة العربية،ولم يسند أي منصب للقاضي عبدالرحمن الإرياني بل أبعده إلى القاهرة، أما محمد علي عثمان الذي كان أول من اضطلع برئاسة مجلس السيادة إبان الثورة فعينه وزيراً مفوضاً في السودان، تصوروا! ولكنه لم يستجب وبقي في القاهرة.. وهكذا.. اللواء حمود الجائفي أيضاً عين سفيراً لليمن في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك،ومحسن العيني في الأمم المتحدة.. المهم.. فرقهم وبددهم ليخلو له الجو.
لم يرفض أوامر البيضاني في داخل اليمن سوى الشيخ الكبير والأستاذ القدير السيد علي الأحمدي،وحين التقيته في صنعاء قال لي إنه غبن،وقال لي:
لماذا نغادر بلادنا؟
وذهب إلى رداع وجند الآلاف المؤلفة من الجنود.. ولكنه اغتيل..
رحمه الله.
وهذا جبر بن جبر يعرف أن البيضاني قد منح وساماً لمن بشره بقتل علي الأحمدي.. هكذا والله والله.. وأقسم بشرفي أن هذا هو ماحدث.
الأستاذ النعمان احتاجوا إليه فعاد،ولكن إلى أين؟ إلى مبنى مجلس الشورى الذي كان يدعو إليه.. وهكذا الأيام.
ستبدي لك الأيامُ ماكنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
ويأتيك بالأخبار من لم تبح له
بتاتاً، ولم تضرب له وقت موعدِ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.