"الاحتفال باليوم الوطني: علي محسن الأحمر يدعو للحفاظ على وحدة اليمن"    تسريب معلومات صادمة عن طائرة الرئيس الإيراني وسبب سقوطها والجهة التي تقف وراء مقتله    الامين العام للجامعة العربية يُدين العدوان الإسرائيلي على جنين    لاعب ريال مدريد كروس يعلن الاعتزال بعد يورو 2024    تراجع أسعار النفط وسط مخاوف من رفع الفائدة الامريكية على الطلب    المبعوث الامريكي يبدأ جولة خليجية لدفع مسار العملية السياسية في اليمن مميز    إحصائية حكومية: 12 حالة وفاة ونحو 1000 إصابة بالكوليرا في تعز خلال أشهر    رئيس تنفيذي الإصلاح بالبيضاء: قحطان أيقونة نضال واستمرار إخفاءه تأكيد على سقوط المليشيا    الآنسي يعزي في وفاة الشيخ عبدالمحسن الغزي ويشيد بأدواره العلمية والدعوية والوطنية    الوزير البكري يلتقي رئيس أكاديمية عدن للغوص الحر "عمرو القاسمي"    الخدمة المدنية تعلن غداً الأربعاء إجازة رسمية بمناسبة العيد الوطني 22 مايو    العولقي: الانتقالي يتعرض لضغوط داخلية وخارجية    إصابة امرأه وطفلين بانفجار لغم زرعته المليشيات غرب تعز    تناقضات الإخواني "عبدالله النفيسي" تثير سخرية المغردين في الكويت    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن حملة علاجية مجانية لمرضى القلب بمأرب    الحوثي للاخوان: "اي حرب ضدهم هي حرب ضد ابناء غزة"!!!!    "وثيقة".. كيف برر مجلس النواب تجميد مناقشة تقرير اللجنة الخاصة بالمبيدات..؟    موقف جريء ل ''بن عديو'': تجربة الوحدة اليمنية تعرضت لسوء الإدارة.. وهذا هو الحل الذي سيحفظ لليمني كرامته!!    المنتخب الوطني للشباب يواجه نظيره السعودي وديا منتصف يونيو استعدادا لبطولة غرب آسيا    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    أكاديمي اقتصادي: فكرة البنك المركزي للحد من تدهور الريال اليمني لن تنجح!    انهيار مرعب للريال اليمني.. ووصول أسعار صرف الدولار والريال السعودي إلى أعلى مستوى    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    المشاط يدافع عن المبيدات الإسرائيلية وينفي علاقتها بالسرطان ويشيد بموردها لليمن    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    ذكرى إعلان فك الارتباط.. جدار جنوبي راسخ لفظ الوحدة المشؤومة    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    صراعات داخل مليشيا الحوثي: قنبلة موقوتة على وشك الانفجار    لليوم الثالث...الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً على مديرية الخَلَق في الجوف    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي، ..يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 18 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
كيف تسلل البيضاني إلى القضية اليمنية؟
لو أردت أن أجيب على هذا السؤال، فإنني أقول:تسلل من طريقين:
الأول: حسن نية الأستاذ أحمد نعمان
والثاني:طريق مشبوه له علاقة بما كان يحوكه للأحرار في مصر لمصر ولليمن ولسواهما..
أما الطريق الأول فيبدأ حين عزل الإمام أحمد عبدالرحمن البيضاني من القنصلية في ألمانيا، فتحول البيضاني فجأة إلى معارض، وكتب محاضرة، ألقاها كما يدّعي باللغة الألمانية «وهو لايجيدها» وكان عنوان المحاضرة«ألا عيب متوكلية».. وظلّ يحاول ويحاول إلى أن كتب له الأستاذ نعمان مقدمة لهذه المحاضرة، مدفوعاً بعاملين: حسن نيته،ورغبته الشديدة في تصيّد أي صوت معارض مهما كان..
أما الطريق الثاني الذي تسلل منه البيضاني إلى القضية اليمنية فشائك شائك.. ولاتتبدّى لنا سراديبه ودهاليزه إلا إذا طرحنا السؤالين التاليين:
أ)من كان يعرف البيضاني من أحرار اليمن في مختلف مراحل النضال؟
ب)ومن كان من الأحرار يعرف البيضانيَّ؟
إنه لايعرف أحداً، ولايعرفه أحد.
كل مافي تاريخه مع الأحرار يتلخّص في أنه كان يعرف محمد قائد سيف وهو ضابط فرّ في أيام ثورة الثلايا 1955م، وأن الأستاذ النعمان كتب له تلك المقدمة ل «ألاعيب متوكلية»، والتي يبدو إذا أخذناها في سياق الأحداث أنها «ألعوبة بيضانية».. حسناً.. وماذا غير ذلك؟
أما نقاط الإسناد والإمداد الحقيقية للبيضاني فكانت في خارج اليمن في مطابخ السياسة المشبوهة، نجد خيوطاً منها في علاقته مع محمد عبدالواحد الذي كان المسؤول الأول في صنعاء والقائم بأعمال مصر في اليمن آنذاك..
وسكرتير أنور السادات..
مما أتذكر أن جمال عبدالناصر عندما اجتمع بالأستاذ محسن العيني،وأراد أن يتحدّث معه، دخل بينهما أنور السادات.. فذهب الثلاثة إلى مكتب عبدالحكيم عامر، وهناك قال عبدالناصر كلمة حساسة وذات مغزى عميق، قال:
«بعد اليوم لن نجتمع بكم أيها اليمنيون إلا نحن الثلاثة معاً، أنا وأنور السادات وعبدالحكيم عامر».
لقد اكتشف عبدالناصر ماكان يجري من وراء ظهره، ولكن بعد فوات الوقت، أي بعد نكسة 1967م.
أيها الأخوة.. أيها الأحبة.. ماذا أقول:
إن المتتبع لسير الأحداث، ولمواقف البيضاني، سيجد مواجع كثيرة لا يمكن تفسيرها إلا بكون هذا البيضاني صاحب أدوار مشبوهة لا على مستوى اليمن ومصر بل على مستوى عالمي أيضاً.
إن الطريقة التي أُقحمت بها القوات المصرية،وعدم اعتراف بريطانيا وفرنسا بالجمهورية، واعتراف أمريكا الملغوم بالتآمر علينا من داخل اليمن من صنعاء ومن تعز بمساعدة بعض الضباط المصريين المنحرفين المتآمرين على الثورة اليمنية والثورة المصرية وعلى أشرف زعيم عربي جمال عبدالناصر.. أقول:إن من يتأمل هذه الخريطة من الوقائع ويرصد تحرّك البيضاني بين أطرافها لابدّ من أن يكتشف أن البيضاني كان يلعب دوراً تآمرياً عالمياً..
إن إلقاء القبض على حكومة العمري، وزجّها في السجن الحربي بالقاهرة، وفرض الإقامة الجبرية على القاضي عبدالرحمن الإرياني في القاهرة، أحداث ماكان يمكن أن تقع لولا أن الثورة اليمنية كانت، آنذاك، فريسة أيد قذرة.
لقد بقي الأستاذ أحمد محمد نعمان في السجن الحربي بزنزانة منفردة، إلى أن زار مصر الزعيم السوداني الكبير ورئيس السودان آنذاك محمد محجوب، وطلب من الرئيس عبدالناصر مقابلة النعمان.. وحين التقاه،قال له النعمان الكلمة المأثورة:يا أستاذ محمد كنا في أيام الإمام نطالب بحرية القول، والآن نحن نطالب بحرية البول، نحن نبول صباحاً ثم مساءً، كما يريد الحرس.
هكذا عومل الأستاذ النعمان.. وهذا ماعبّر عنه في قصيدته التي يقول فيها:
ماكنت أشكو منه أصبح غاية
نسعى لها سعياً وفيها نطمع
يرمى السجين لوحده في غرفة
هي من عقاب الجو حقاً أمنع
الباب يغلق دونه ومراقب
من خلف هذا الباب لايتزعزع
يلهو ويعبث والسجين كأنه
قرد يقهقه أو صغير يرضع
يتصامم النذل اللعين نداءنا
وإذا قرعنا الباب هاج يقرع
لايفتحن الباب إلا عندما
يرمي الطعام لقرده ويودع
أو حين يدعوه المحقق فجأة
يرويه من ماء الوعيد ويشبع
أو حين يخرجه ويمسك أذنه
ويجره بيدٍ وأخرى تصفع
يجري به جرياً إلى مرحاضه
لاينطقن ولايرى أو يسمع
يلقيه في المرحاض يفرغ مابه
ويظل ينصت للسعال ويقرع
نفسُ السجين كصوته وأنينه
الكل يحظره الرئيس ويمنع
حظروا عليه أنينه وبكاءه
لايشتكي شيئاً ولايتوجع
حظروا عليه قراءة وكتابة
ليظل في ظلماته يتلوع
أما الصلاة مع الدعاء فإننا
ندعو الإله على الدوام ونركع
وقراءة القرآن من أذهاننا
نجترها ونلمها ونرقع
وشوارد نظماً ونثراً في الحجى
ماتت وأشتات نيام هجع
ثارت من الأعماق دون إثارة
ولساننا يشدو بها ويرجع
فالنفس حيث صفت تألق نورها
فكأنها الشمس المنيرة تسطع
وإذا الخفايا في عميق بحارها
متصاعدات سابحات شرع
جادت بما خزنت وفاض معينها
فبحارها أغنى البحار وأوسع
هذا هو الأستاذ النعمان الذي قال عنه أحد الأمراء السعوديين: إنه ليس داعية للحرية في اليمن فحسب،ولا في الجزيرة العربية بل في العالم العربي..
وهذا هو النعمان الذي نجا بأعجوبة هو وزميله الزبيري، حين فرّا إلى عدن قبل ثورة 1948م، وهما يمثلان الوحدة الوطنية:لازيدية ولاشافعية لاقحطانية ولاهاشمية.
أجل،هذا هو النعمان الذي سمعنا ونحن في فرنسا إذاعة «صوت العرب» من القاهرة،تقول:وغداً أو بعد غدٍ سيلقي الزعيم اليمني الكبير أحمد محمد نعمان كلمة خالدة في صوت العرب.. فاستمعوا أيها الأحرار أيها اليمنيون أيها العرب..
واستمعنا، فإذا بصوت الأستاذ يجلجل مفتتحاً كلمته بقوله:«من أرض الثوار.. من أرض الأحرار.. من أرض الأبطال.. من الأرض التي أخرجت جمال عبدالناصر.. إذا كان للحاج إلى بيت الله الحرام أن يزور قبر نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلى زائر مصر أن يزور «صوت العرب».
وها أنذا أيها الأحباب أيها اليمانون أيها العرب ألقي هذه الكلمة بعد أن فررت بجلدي وروحي بعد أن وجدت الإمام أحمد يهدّدني فقلت له إن هناك رجالاً يمكن الاستعانة بهم، فأجابني بهذا البيت:
إني لأغمض عيني، ثم أفتحها
على كثير،ولكن لا أرى أحدا
كان ذلك صوت صانع النور، الذي يوقط فينا وعي الحرية، ويصنع منّا رجالاً مناضلين.. هكذا كان.
شؤون كثيرة.. وشجون أكثر.. تتالى أحداثها وتتداخل في ذاكرتي وكلها تؤكد أن اليمن لم تصل إلى شاطئ الجمهورية إلا بعد أهوال وأهوال..
وماتنعم به اليمن اليوم من تقدّم وتطور في العمران والصناعة والزراعة والجامعات.. وماتنعم به الأجيال الجديدة من مظاهر الحرية والديمقراطية ما كان له أن يكون لولا تلك التضحيات الجسام،ولولا الصمود في وجه العواصف العاتية التي أرادت أن تقتلع الحرية والأحرار.
الفصل الرابع
مناضلون خارج دائرة الضوء
أيها الأصحاب..أيها الآخلاّء ..أيها الرفاق
قامت ثورة 1948م والجماهير هي الجماهير والعامة هي العامة. قتلوا الإمام..قتلوا الإمام..والقصة طويلة ومعروفة..
قيَّد من قيَّد من الأحرار من تعز ومن إب، وسيقوا مكبلين بالأغلال ،ومنظومين بالسرات ومسلسلين بالسلاسل..ثم من ذمار وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد نعمان في سلسلة مع تسعة أحرار وهو العاشر..سيقوا إلى صنعاء ثم إلى حجّة حيث قيّد كلّ واحد منهم بقيدين على الأقل ومرود إذا مشى به السجين لا أقول فتراً،بل إذا مشى قيد أنملة يضرب هذا المرود بساقيه فتجرحان.وهكذا: فرّ من فرّ ،ونجا من نجا،وسجن من سجن، وتدحرجت رؤوس غالية وكريمة..
هؤلاء الأحرار كانوا جميعاً من المناضلين الذين ضحوا وعُذّبوا وشُرّدوا. بذلوا أموالهم وأرواحهم من أجل الشعب. أقول: كانوا جميعاً من المناضلين ولو تفاوت دور كل واحد منهم في النضال،فالمسيرة لاتكون صفاً واحداً،بل تكون صفوفاً متتالية متراصة..والبناء لايقوم بالحجارة البارزة المرئية منه فحسب ،بل يقوم بالحجارة التي تأخذ مكانها في داخل البناء فلا تظهر ولا ترى..وهكذا فإن الأحرار الذين شاركوا في ثورة 1948م لم يكونوا فرداً ولا نفراً قليلاً بل كانوا ألوفاً مؤلفة من أبناء الشعب الطيب،ومن الطبيعية ألا يكونوا جميعاً في الواجهة وتحت الأضواء،ولذلك نرى أن الدراسات والكتب والتاريخ والقصائد تنصبُّ على من هم في القيادة والمقدمة،بينما تنظفئ الأسماء الأخرى،وتدخل في عالم النسيان..ولقد حاولت في كتابي الأول«محمد عبدالواسع حميد الأصبحي يتذكر» أن أنوّه ببعض هذه الأسماء من الأبطال المجهولين، فذكرت بعضاً منهم وفاتني الكثير الكثير لأسباب منها أنه قد سقط من مخطوط كتابي صفحات كثيرة بين صنعاء ودمشق وعمان،ومنها أن الذاكرة قد لاتسعف في بعض الأحيان..وها أنذا أحاول أن استدرك بعض مافاتني ،فأذكر أول من أذكر:
القاضي عبدالكريم العنسي:
هذا الإنسان البطل الذي سجن وكُبَّل وقيَّد قبل ثورة 1948م ،ثم فرّ إلى عدن وظل هناك.
أذكر أنه حين صار قاضياً في «أبين» قد فتح بيته في «أبين» ثم في «الشيخ عثمان »،فكان بيته محجّة ومأوى وملجأ للهاربين من بطش الإمام والفارين من الحكم الغاشم. وممن كان يلوذ ببيته آنذاك أذكر: عبدالعزيز منصور بن نصر الذي صار وزيراً للعدل بعد الثورة،وأحمد عبدالرحمن المعلّمي ،وعبدالحميد مقبل ويحيى الجنيد وكثيرين آخرين.. لقد كانوا يأوون إلى بيته وإلى بيت الشيخ عبدالله الحكيمي أيضاً.
هذا الإنسان القاضي عبدالكريم العنسي النظيف الشريف والبطل اختلف والده مع الأستاذ النعمان واختلف مع كثيرين..هذا صحيح .ولكنه بقي صامداً ضدّ الإمامة ،فلم يمنعه اختلافه من أن يقوم بدوره النبيل في سبيل وطنه.
وحين قامت الثورة تقلّد عبدالكريم العنسي مناصب عدّة،منها الاضطلاع بمنصب محافظ لواء الحديدة ومحافظ لواء إب ومحافظ لواء تعز ووزارة الإدارة المحلية ووزارة الإعلام إلى أن توفي رحمه الله.. وكان نظيفاً شريفاً ومن الأبطال المعدودين.
سلام فارع الحكيمي:
هذا الرجل الذي يؤسفني جداً أنني لم أتكلم عنه في كتابي الأول.
أذكر أن الفيلسوف العربي الكبير الشيخ عبدالله علي القصيمي،وكان من أصدقائه ،أنه ما سمع ذكر سلام فارع إلا ودمعت عيناه..كيف لا وقد مكث في سجن حجّة سبع سنوات،حتى ظهرت في وجناته النتوءات،ثم قضى بقية حياته مريضاً عليلاً إلى أن وافته منيّته قبل قيام ثورة سبتمبر بستة أشهر.رحمه الله ..رحمه الله.
محمد عبده نعمان الحكيمي:
إن أنس ،فلن أنسى أبداً الأستاذ الكبير محمد عبده نعمان الحكيمي ،إنه عمّ الدكتور عبدالحافظ نعمان.
هذا الإنسان كان أول يمني يسفّر من عدن في أيام الاستعمار البريطاني،علماً أن البريطانيين كان نَفسُهم طويلاً،ولايسفرون أحداً إلا في الحالات القصوى. والذي أعرفه أن الذين سُفِّروا هم ثلاثة أولهم محمد عبده نعمان الحكيمي ثم الأستاذ أحمد محمد النعمان في عام 1959 أو 1960م ،سُفَِّر إلى القاهرة .ثم محسن العيني . وكنت سأكون الرابع لولا السلطان فضل بن علي اللحجي.
في ذات يوم ذكرت عبده علي عثمان أمام الاستاذ الكبير الأديب الشاعر الشجاع أشرف شاعر في اليمن،على ماأعتقد ،يحيى بن علي البشاري فأعطاني رقم تلفونه،وقال لي: عجيب أمر هؤلاء الأحكوم،.هل هم من الحكم أو هكذا؟
فقلت له: إنهم من قبيلة صغيرة،كان يتزعمهم آنذاك الشيخ عبدالله علي الحكيمي.ومن أنجاله عبدالرحمن الذي توفي قبل ثلاث سنوات.
وهذا عبده علي عثمان حكيمي ومحمد عبده نعمان حكيمي،وأحمد عبدالرحمن الصحفي في رئاسة الوزراء حكيمي.
هؤلاء «أحكوم» قبيلة صغيرة،ولكنهم عمالقة ،يأبون الضيم لليمن مهما كلفهم ،ويأبون المغريات.
عبدالله مقبول الصيقل:
هذا من الأبطال الذين نسيهم التاريخ، ونسيهم اليمنيون،على الرغم مما قاسوا في سبيل اليمن.
هذا الإنسان كنت أسمع به ولم أكن أعرفه،حتى سُجنت في أيام الإمام أحمد،عندما أطلق عليه الرصاص في الحديدة،إذا به يزورني ،ويواسيني:
أصبحي..ها..مرحبا.ماتشتي؟ أي خدمة؟ تشتي حاجة؟ وحين سألت عنه،قال لي أمين عبدالواسع نعمان: هذا صديق السجناء دائماً.إنه عبدالله مقبول الصيقل.فعرفته ،وبعد يومين منعوا أي زائر من زيارة السجناء السياسيين ،فلم أعد أره.
أتذكر له موقفاً لاأنساه.
عندما سجن،وأُخذ من الحديدة إلى صنعاء ،مكبلاً بالقيود في مصفّحة، وكان وزير الداخلية،آنذاك،الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر،حفظه الله،وأطال عمره،فذهب يراجع على عبدالله الصيقل عند المشير السلال رحمه الله، فقال هذا فعل كيت وكيت..وأتذكر أني ذهبت ذات يوم إلى منزل المشير السلال،وكنت بمعية الشيخ أمين عبدالواسع نعمان،فإذا بالمشير السلال يقول للشيخ أمين : أترى الشيخ عبدالله قدم استقالته من وزارة الداخلية احتجاجاً على سجن الصيقل؟ ما ترى صاحبك يفعل هكذا؟
فأجابه الشيخ أمين: ياسيدي عنده حق. هذا الصيقل صاحبي وصاحبك وصاحب كل مسجون في حجّة .كان يمشي حافياً على قدميه، أو يركب أتاناً أو حماراً لكي يزور المسجونين، ويتعرّض للدواهي والخطر. فكان أن أُفرج عن الصيقل وعاد إلى منصبه، بعد أن كان قد استقال في تلك الظروف .وعاد الشيخ عبدالله الأحمر إلى منصبه أيضاً،وهذا موقف لاينسى أيضاً للشيخ عبدالله الأحمر.
أذكر أيضاً أن عبدالله الصيقل كان لايحقد على أحد تقريباً،ولكنه،إذا لم يُنصف، كان يتألم،ولذلك شتمني ذات يوم،الله يسامحه ،وذهب بكتابي الأول إلى هاشم بن هاشم ،ليبلغه محمد أحمد خالد العميل الأول.. ومع ذلك فقد غفرت له لأنه كان مناضلاً وشريفاً..وكان تألمه بسبب أنني ذكرت من أصحاب الحديدة وتهامة رجالاً كان هو الأجدر أن يكون في مقدمتهم..سامحه الله ،وهو من الأبطال الذين ينبغي ألا ينساهم التاريخ وينبغي ألا ننساهم نحن ..يجب أن يخلدوا في أذهاننا وأذهان الشبيبة القادمة..هؤلاء من أمثال عبدالله الصيقل وأمين عبدالواسع نعمان ولاننسى ولاننسى ولاننسى أيضاً يحيى بن علي البشاري الحرّ الشريف المناضل العملاق صاحب القامة المديدة الذين لم ينحنِ ولن ينحني..وحتى الآن بيته مهدّم، ولم يتنازل لأحد.
سيف عبدالرحمن العريقي:
أتذكر أيضاً هذا الرجل .إنه شيخ اليمانية في الحديدة.
بدأ نضاله عام 1944م ،وكان من أبرز التجار في الحديدة.. ظل يموّل الحركة الوطنية إلى أن لاحظ أن عيون الإمام يلاحقونه،ففرّ إلى عدن،واختفى بالمعلاّ في بيت الحاج هائل سعيد أنعم.فقُيَّض له الأخ علي محمد سعيد الذي أعاده إلى الحديدة، ليشرف على تجارة بيت هائل تمويهاً على عيون الإمام التي كانت تترصّده.
والحديدة يومذاك لايوجد فيها إلا8% من البيوت الإسمنتية أو الحجر المقطوع من الشُّعب المرجانية من البحر والنورة «الجبس» أما بقية بيوت المدينة فكانت من القش،ولذلك كان يحدث في كل عام مرّة أو مرتين حريق في هذه البيوت القشية
أما الميناء،فلا أراكم الله إياه.
كانت ترسو فيه البواخر على بعد 34 كم في البحر،وأنا واحد ممن نزلوا بالباخرة «المعين» التي اشتراها الجبلي من فرنسا للإمام.. فبدع أن نزلنا من الباخرة نقلونا بالقوارب مسافةً،ولكن القوارب لم تصل إلى الشاطئ، فاضطررنا إلى ركوب أكتاف الشيالين أوعلى كرسي من حبال الخوص يحمله آدميان مقابل ريالين.
وحتى الإمام أحمد نفسه عندما عاد من إيطاليا بعد إجراء العملية الجراحية،وكان يرافقه القاضي عبدالرحمن الإرياني وآخرون،قد نزل في ميناء الحديدة بتلك الصورة ذاتها..وهذه الواقعة مذكورة تفصيلاً في مذكرات القاضي الإرياني ،كما أكد لي ابن أخيه الأستاذ مطهر.
صالح عباس:
من زملاء الأستاذ سيف عبدالرحمن.
وقد تعيّن الأستاذ صالح عباس بعد الثورة مديراً لأمانة مجلس الوزراء مدة ربع قرن من الزمان.وهو شاعر مبدع بيد أنه أضاع ديوان شعره، الذي نُهب مع أثاث بيته عام 1955م ،هذه الحادثة سببت له صدمة نفسية، فلم يقل بعدها الشعر إلا نادراً..
وصالح عباس لايزال يعيش متقاعداً في صنعاء.
لقد عمل للثورة بصمت،وشهد بشاعريته الأديب الأستاذ القاضي أحمد محمد الحضراني.
سلطان محمد عثمان القرشي:
من تلاميذ الأستاذ سيف عبدالرحمن ،كان مثقفاً ،ويجيد اللغة الانجليزية . عمل في البنك السعودي في تعز تمويهاً ،ثم انتقل بعد الثورة إلى الحديدة ،وظل يعمل في شركة بيت هائل سعيد أنعم البحرية.
وهو من الذين كانوا يعملون للثورة بصمت منذ أربعين عاماً.
علي حمود عفيف:
شاعر وأديب ،توفي رحمه الله قبل بضعة أشهر،وهو ابن عم أحمد جابر عفيف.
كان يجيد الرثاء ،فرثى بشعره كل من مات قبله من أصدقائه وزملائه ورفاقه، فمن ياترى يرثيه الآن؟
إنه من الذين كانوا يعملون للثورة بصمت منذ أربعين عاماً.
عبدالله عطية:
شاعر.من الأحرار الكبار من زبيد ،أسهم في توعية الشباب وفي ضمّهم إلى صفوف الأحرار.
العزّي المصوعي:
نسبة إلى ميناء مصوّع في أثيوبيا مقابل جدّه،والذي هاجر الصحابة رضي الله عنهم،مروراً به حتى وصلوا إلى مدينة «أكسوم» في هجرتهم إلى الحبشة . شاعر مدّاح ،لابأس به.
القاضي أحمد محمد الحضراني:
شاعر وأديب. وهو والد الشاعر ابراهيم الحضراني ،التقيته في «جيبوتي» ،وكنت آنذاك في الجمارك،وسكرتيراً لنادي الشبيبة العربية في «جيبوتي» ،فوجدته يمدح ولي العهد السيف أحمد،ويضفي عليه من الأساطير ومن صفات الشجاعة والأدب ماليس فيه.
وكنت قد عرفت من عبدالغفار زيد الأصبحي أن أحمد محمد الحضراني قد فرّ من الإمام يحيى إلى «البيضاء» ،فرهن ابنه ابراهيم عند مشايخ آل الحميقاني في «البيضاء» ،فأعطوه حصاناً،ركبه حتى وصل إلى «حضرموت».
في حضرموت التقى الحضراني مفتيها وشاعرها الأول عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، صاحب القصيدة المشهورة المحبوكة الطرفين بحرف الراء،والتي يقول فيها:
روَّق الخمرة صرفاً وأدِر
واسقنيها في الظلام المعتكرْ
رقّ مرآها ومرأى جامها
فهي والجام ضمير مستترْ
روِّح الأرواح بالرّاح ،فما
ذاق طعم العيش إلا مَنْ سَكِرْ
وربما أنكرها ذو شرعةٍ
مادرى قصة موسى والخَضِرْ
هذا استطراد ،والقصيدة طويلة في ستين بيتاً،وهي من الخمريات الصوفية.
بقي أحمد محمد الحضراني في حضرموت ثلاث سنوات،ثم عاد وسلّم الحصان،وخلّص ابنه ابراهيم الذي ظلّ يرعى الغنم لآل الحميقاني مدّة غياب أعود إلى تلك الأمسية التي أحياها الحضراني في جيبوتي.ومدح فيها الإمام ،وأذكر أنني وقفت بين الحضور وسألته: من قائل هذه الأبيات التي اعتبر قائلها أهجى من الحطيئة؟ فقال : هات يا ولد.فأنشدته:
أضريح أفضل ناسكٍ ووليَّ
نبشته أيدي الفاسق المؤذيِّ
نبش القبور محرَّمٌ بين الورى
حتى لدى القبطيّ والبوذيّ
فصرخ بأعلى صوته: المجالس بالأمانات يا ولد.
وكان هذان البيتان مطلع قصيدة له هجا بها الإمام أحمد الذي كان ولي عهد آنذاك ،وهي قصيدة طويلة كانت قد نُشرت باسم مستعار في «صوت اليمن» إثر نبش عدد من قبور الأولياء والصالحين في اليمن،ومنهم أحمد بن علوان الوليّ الصوفي المشهور في اليمن.
أنا ذلك الفتى:
بعد الثورة بثلاثة أشهر التقيته مرةً أخرى،وكان خارجاً من مكتب ناصر السعيد بميدان التحرير في صنعاء،بلباسه العربي الأصيل القديم الجنبية والطيار والحزام، فعرفته بالحال،فسألته : أأنت أسد الدين أحمد بن محمد الحضراني؟ وهذا اسمه الكامل ولقبه،وقلّة من يعرفه. وهو من حضران من آنس.
فاستغرب أني عرفته، وقال: من الفتى؟ مااسمك؟ ومن أين؟
قلت: عربي من اليمن.
قال: كلنا عرب وكلنا يمانون،فانتسب.
قلت: محمد عبدالواسع حميد الأصبحي.
فسألني: هل يقرب لك سعيد علي الأصبحي رئيس الجالية اليمنية في السعودية؟
قلت: من أهلي
فقال: أين كنت؟
قلت: في «جيبوتي»
فتذكّر،فقال لي: هل تعرف علي كبيش وعبدالكريم الضوراني؟
فقلت له: أجل.
وظلّ يعدد أسماء من عرفتهم وعرفهم ،حتى سألني أخيراً: أىن ذلك الفتى الذي كان يلاحقني في المجالس ،لقد نسيت اسمه؟
فقلت له: أنا هو ذلك الفتى.
ضاق به المصريون ذرعاً،وكان منزله في بستان السلطان،فقد ذهبت إليه ذات ليلة،فقال لي: اسمع ياقرّة العين. أنا أريد الخروج من صنعاء إلى عدن. ولي اصدقاء هناك من الأغابر والأعروق، فكيف ترى؟
وكان يخجل أن يذكر أن ليس لديه المصاريف.
فقلت: عليّ المصاريف.
فسافرنا إلى تعز معاً حيث التقيت هناك الشيخ عبدالعزيز الحروي الذي قتل ببيروت والشيخ علي محمد سعيد أنعم وآخرين،فجمعت له مايقرب من مئتي ريال فرنسا،فارتاح،وكأنه غني بها،فرحل إلى عدن،ومنها رحّله أصدقاؤه من الأغابر والأعروق إلى الكويت،وظلّ فيها إلى أن كانت المصالحة الوطنية عام 1972م فعاد إلى اليمن، ثم إلى الطائف،ثم عاد إلى اليمن ،ثم إلى الطائف وكانت تعجبه الطائف لأنها تشبه تعز من حيث مناخها.
وعلى ما أذكر أن الرئيس علي عبدالله صالح عندما زار علي ناصر محمد في أثناء رئاسته لجنوب البلاد آنذاك ،قد استدعيا الحضراني وابنه ابراهيم،ولم أكن موجوداً ،فاستنشداه من الشعر البدوي،.فابتدأ بحضرموت والبيضاء صاعداً إلى مراد وخولان وحاشد وبرط حتى وصل إلى الحجاز والأردن منشداً من أشعار هذه القبائل والمناطق جميعها...فقد كان أكبر حفّاظة في اليمن.
فارتاح له الرئيس علي عبدالله صالح وسلّمه مفتاح سيارة صالون جديدة مع سائقها منحةً منه.
وهكذا ظل يتنقل حتى توفي عام 1984م في الطائف.رحمه الله.
قاسم غالب« الشيخ الصابر»:
الشيخ الوقور،الذي كان بعد الثورة في عام 1963م وزيراً للمعارف..وهو أفضل من كان في التربية والتعليم.
هذا الإنسان سجن قبل أن يسجن الأحرار الأوائل في عام 1944م ،أي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام واحد.
فرّ إالى «ماوية» فألقي القبض عليه بأمر ولي العهد ،وأعيد بعد أن كان في سجن »الشبكة» إلى قاهرة تعز،وضرب ضرباً مبرحاً..فكان صبوراً..ثم اقتيد في نهاية عام 1945م أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى «حجّة» مكبّلاً بالحديد،وهو صابر ،لايئن ،ولايتألم.
خلّف في «تعز» أماً وزوجة وطفلين،فكان يعمل في داخل السجن ويرسل لهم ببعض المال ليقيتوا أنفسهم به،ذلك لأنه كان من حسن حظه أنه تعلّم في مصنع ربما من بقايا مصانع العثمانيين الأتراك بتعز صنع الجوارب الصوفية،فكان يتقنها.
هذا الرجل كان محبوباً في تعز،ولكن الناس كانوا لايجرؤون على إرسال أية مساعدة له خوفاً من بطش الإمام..فعاش مقطوعاً ممن يساعده،يصنع الجوارب والفانيلات ويقتات منها.
في السجن جاءه نعي ولده الأول،فقال: الحمد لله بقي لي الولد الثاني وأمه ثم أمي التي ترعاهما.
ثم جاءه بعد ذلك بمدة نعي زوجته، فقال: الحمدلله الذي أبقى لي أمي تعول ولدي الثاني ،وترعاه حتى أخرج من السجن.
بعد ذلك ،جاءه نعي أمه ،فقال: لا. لا فليمت الولد الثاني أذاً. ولماذا يبقي؟ أىن سيظلّ؟ أين سيذهب؟
وكان الناس كما ذكرت يخشو مد يد العون إلى ولده..فظلّ الفتى مشرداً إلى أن مات في الطرقات.فلما جاء نعيه إلى الوالد الصابر، قال: الحمدلله..الحمدلله الذي شرّفني بموتهم جميعاً،ولم أبق متعلقاً بهم.
هذا الإنسان العملاق الصبور،ظل هكذا في السجن ،فدخل من دخل السجن وخرج من خرج في 1948م و1955م ولم يفرج عنه الإمام إلا بعد أربعة عشر عاماً، أفرج عنه ،وطلبه،وقال له الإمام الكلمة التي ذكرها قاسم غالب في كتيب صغير له، عنوانه «رسالة من جهنم».
قال له الإمام: اسمع ياقاسم ..لمَ حبسناك؟
فقال له: والله يامولانا لا أعرف.
فقال الإمام : هه..قد أفرجنا عنكم ،وشلوا هذا مائة ريال ،فأخذها قاسم ،ولكن إلى أين يذهب؟
ضاقت الأرض به،فكيف يبقى في بلد فقد فيه كل شيء،تلفت يميناً وشمالاً فعلم أن الزبيري قد عاد من باكستان إلى مصر،والأستاذ النعمان بعد أن أفرج عنه الإمام وكان مهدداً بقطع رأسه فر بجلده إلى مصر أيضاً.
تلفت فوجد رفاقه منهم المشرد ومنهم المسجون ومنهم من قتل ،كيف يبقى في هذا البلد الذي أحبه بعد أن تدحرجت فيه الرؤوس وتشرد المئات والألوف؟
من الطبيعي أيها الأخوة والأحبة أن تكون مشاعر أي حرٍ من الأحرار ومصيره مرتبطة بمشاعر رفاقه الآخرين ومصائرهم..إنه عمر من النضال فرض علي أي حرّ من الأحرار أن يتمثل مآسي رفاقه جميعاً كلما فكر بنفسه،ولقد عّبر أبو الأحرار عن هذا الإحساس أجرح تعبير في مقدمة قصيدته «إلى الأحبة» وفي الأبيات التي تبقّت من هذه القصيدة، يقول: «أضافت الأقدار لي إلى محنة التشرّد محنة التقيد والارتباط بمصير السجناء المهددين بالذبح فعشت هذه البرهة الثقيلة الطويلة مقيداً بظروفي في الخارج وظروف الأحبة في الداخل،فكانت كل هذه العوامل تستعبدني وتشعرني بالعجز والمرارة».
نظر قاسم غالب حوله ،فلم يرّ لنفسه مخرجاً غير الفرار،ففرّ إلى عدن، وكان عصامياً ومصمماً،فتعلّم كيف يسوق دراجة هوائية صغيرة ثم دراجة نارية،وراح يعمل معتمداً على نفسه،وتزوج في عدن من امرأة صالحة انجبت له أولاداً منهم كامل قاسم غالب مدير مشفى السعيد في «تعز»...في تلك الأثناء كان قاسم غالب يعمل مساءً عند الشيخ الكبير والمناضل عبدالملك أسعد الأغبري وصلاح أسعد الأغبري وآخرين، ثم دخل مدرساً مع البيحاني في المعهد العلمي،ثم عندما بنينا كلية بلقيس دخل معنا، وبقي يدرّس هناك حتى قامت الثورة،فتولى وزارة المعارف.
ثم ثم ثم هناك شؤون وشجون كثيرة: كيف هرب إلى مصر عام 1965م ثم عاد في عام 1966م ليغادر ثانية،ويبقى هناك حتى مات في 68أو1969م.
رحمة الله على هذا الفارس المناضل الشريف.
آه أيها الأحبة كم سأذكر؟ كم سأذكر؟
لابد أن أذكر:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.