مليشيات الحوثي تسوق عشرات من عمال النظافة إلى جبهات القتال    بمناسبة عيد الأضحى.. مركز ''الملك سلمان'' يسعد آلاف الأسر المحتاجين في اليمن    الودُّ عامرٌ بين الحوثي و«القاعدة» في اليمن    75 مليون دولار يلحسها وزير الداخلية "إبراهيم حيدان" قيمة بطاقة شخصية    ارحموا الريال    الحكومة الشرعية تعلن إطلاق سراح عدد من السجناء بمارب و3 محافظات أخرى    مشروع كويتي ضخم في مارب    هل ادارت البارجة الأمريكية "ايزنهاور" ظهرها للترويج للحوثيين كما عملت سابقا مع الخميني ؟ تحليل    بعد إعلان الريال التعاقد معه.. مبابي: "فخور بالانضمام إلى نادي أحلامي"    فرار عنصر حوثي بعد قتل عمه في صنعاء رغم حصار منزله.. والمليشيات تتجاهل الحادثة!    جدول مباريات وترتيب مجموعة اليمن و الإمارات في تصفيات كأس العالم 2026    كريستيانو: أشعر بالفخر الشديد بعد موسمي مع النصر    الحوثيون يوقفون منشأة صرافة جديدة ويمنعوها من العمل في صنعاء    احتجاجات غاضبة في عدن وإغلاق عدد من الشوارع.. ماذا يحدث؟    لم تستطع أداء الحج او العمرة ...اليك أعمال تعادل ثوابهما    ارتفاع حالات الكوليرا في اليمن إلى 59 ألف إصابة هذا العام: اليونيسيف تحذر    مسار السلام في اليمن .. اتجاه نحو العودة إلى نقطة الصفر واخر يفتح بصيص تفاؤل وبينهما مشكاة ضوء خافت    وثيقة تكشف عن مديونية كبيرة للبنوك التجارية والإسلامية لدى البنك المركزي    - 17مليار دولار ارتفاع ثروة أغنى أغنياء روسيا خلال السته الأشهر من 2024    - توقعات ما سيحدث لك وفق برجك اليوم الثلاثاء 4يونيو    الرئيس الزُبيدي يوجه بمخاطبة واستكمال إجراءات نقل مقرات المنظمات إلى عدن    وديا ... إنجلترا تضرب البوسنة    محلل سياسي يطالب الدول الإقليمية أن تكون سندا للجنوب    صاحب ومالك "قوات درع الوطن" يصر على العبث بأمن ساحل حضرموت    شقيقة "الحرازي" مدير شركة "برودجي" تكشف عن تفاصيل صادمة أصابت الجميع بالذهول والدهشة خلال جلسة الحكم بالإعدام    يكتبها عميد المصورين اليمنيين الاغبري    صفعة قوية للحوثيين في قلب العاصمة صنعاء و تجار العاصمة يتحدون مع عدن    "اليمنيون ذولا مثل الخليل العربي الأصيل": الفنان المصري احمد حلمي يُشيد باليمنيين ويُعبر عن حلمه بزيارة اليمن(فيديو)    "حوثي يقتل ابن عمه ويحرق سيارته: قصة جريمة قتل تكشف الظلام الذي يخيم على صنعاء"    نهب وتدمير للاقتصاد الوطني.. كيف يعبث الحوثيون بالقطاع الزراعي؟    الحوثيون يزرعون الموت في الحقول: مزارع يمني يفقد ساقه في انفجار لغم(صورة)    ايثان يدعم مبابي    الوزير الزعوري ونائب محافظ عدن يضعان حجر أساس مشروع مركز الأطفال ذوي الإعاقة بمدينة الشيخ عثمان    سلام الله على زمن تمنح فيه الأسماك إجازة عيد من قبل أبناء عدن    من جرائم الجبهة القومية ومحسن الشرجبي.. قتل الأديب العدني "فؤاد حاتم"    قبائل يافع حضرموت: يرفضون دخول قوات عسكرية إلى ساحل حضرموت غير نخبتها    الرئيس الزُبيدي يوجّه بمخاطبة المنظمات الدولية لاستكمال نقل مقراتها إلى العاصمة عدن    ارتفاع مبيعات شركة هيونداي موتورز بنسبة 1.9 بالمائة    أغلبها بمناطق المليشيا.. الأمم المتحدة تعلن ارتفاع حالات الإصابة بالكوليرا في اليمن    عودة التيار الكهربائي إلى مدينة مأرب بعد انقطاعه لساعات إثر خلل فني    وكالة المسافر للحج والعمرة والسياحة بحضرموت تفوج 141 حاجاً إلى بيت الله    بحوادث متفرقة.. أربعة أشخاص ينهون حياتهم في إب خلال يوم واحد    محمد البكري و أحمد العيسي وخلال سبع سنوات دمرا حياة شعب الجنوب    خبير آثار: ثور يمني يباع في لندن مطلع الشهر القادم    وفاة ضابط في الجيش الوطني خلال استعداده لأداء صلاة الظهر    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    حلم اللقب يتواصل: أنس جابر تُحجز مكانها في ربع نهائي رولان غاروس    قرارات البنك المركزي لإجبار الحوثي على السماح بتصدير النفط    تعرف على قائمة قادة منتخب المانيا في يورو 2024    إنجاز عالمي تاريخي يمني : شاب يفوز ببطولة في السويد    الدبابات الغربية تتحول إلى "دمى حديدية" بحديقة النصر الروسية    عن الشباب وأهمية النموذج الحسن    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    خراب    الوجه الأسود للعولمة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبد الواسع حميد الأصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 28 - 12 - 2007

- الملك فارق ساعد الإمام على وأد ثورة 48 وشاركتُ في تسليح الجيش المصري ب 150 جنيهاً استرلينيلقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الإطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغربيتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. ندأ.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
محاضرة ضد الظلم والاستبداد
أعود بعد هذا الاستطرد إلى نشاطي في نادي الشبيبة العربية في جبيوتي، فأقول: ألقيت في تلك الأثناء في عام 1947م محاضرة عن الظلم والاستبداد، وكنت آنذاك سكرتيراً للنادي، ومما جاء في ختام محاضرتي:
«وكل من أراد أن أنوره أو أعطيه فكرة عما يصنعه الأحرار في الجمعية اليمنية الكبرى فليأت إليّ يوم كذا وقت كذا في نادي الشبيبة العربية لأنوره» وكان المرحوم محمد أحمد شعلان متحمساً وكذا علي طاهر صالح الأغبري، وقد انتزعت التصفيق من عشرة أشخاص من الحضور مع أن عدد الحاضرين كان أكثر من مائة.
وبعد ثلاثة أيام استدعاني «بن ليدمان» وهو المسؤول السياسي عن مستعمرة جبيوتي أي السكرتير الخاص لوالي جبيوتي، وكان قد سافر إلى صنعاء مراراً،ولم أكن أعرف ذلك،وكان يتكلم العربية.. وهنا لابد لي من القول بأننا لم نكن مراهقين سياسيين فحسب بل كنا أكثر من ذلك، فنحن لم نكن نفهم أن الاستعمار الفرنسي مع البريطاني أيضاً يريدان أن تبقى الجزيرة العربية هكذا عمياء في ظلام دامس ومتخلفة، ومع أن الفرنسيين كانوا يبدون بعيدين ولا مصالح لهم في اليمن إلا أن مصالحهم الاقتصادية وعلاقتهم الترابطية مع الانجليز الذين يستعمرون عدن منذ مائة وعشر سنوات يضعون يدهم على المحميات كل ذلك جعلهم متشابهين في مواقفهم، فقد استدعاني «بن ليدمان» واستدعى أيضاً ابراهيم سعيد العطار إلى مكتبه وهددنا وقال: هل أنتما فرنسيان أم يمنيان؟
إذا كنتما فرنسيين فلن أسمح لكما بأن تتحدثا عن اليمن وعن ظلم الإمام يحيى، وإذا كنتما يمنيين فسوف أسفر كما إلى اليمن،وكنا كلانا مكتوبين على أننا خلقنا في جبيوتي، وجوازا السفر اللذان نحملهما فرنسيان، مع ذلك كنت جريئاً، وواجهته بحقيقة أننا ثائرون على الظلم والطغيان كما ثار الفرنسيون من قبل على الظلم والطغيان والملكية، وأنه عليه أن يكون متفهماً لعملنا الثوري،ولكنه تنكر واستنكر وقال: نحن هنا في جبيوتي في مستعمرة فرنسية.. أخرج واصمت ولاتتحدث مرة أخرى.. خرجت وصمت،ولكن أبياتاً لأمير الشعراء كانت تتجاوب أصداؤها في أعماقي حيث يقول:
دم الثوار تعرفه فرنسا
وحررت الشعوب على قناها
وللحرية الحمراء باب
وتعلم أنه نور وحق
فكيف على قناها تسترق
بكل يد مضرجة يدق
هنا بدأ الوعي السياسي يتفتح لدي، بدأت أفهم لماذا ساند الملك عبد العزيز آل سعود عدوه اللدود الإمام أحمد،وكيف احتجز بعض أعضاء الجامعة العربية وأمينها العام عبدالرحمن عزام باشا في جدة، وحال بينهم وبين الوصول إلى اليمن، ولماذا لم يساند عبدالله بن أحمد سعود وآل الوزير تلقب آن ذاك بالإمام الهادي مع أن الصداقة بين آل سعود وآل الوزير متينة جداً، ولا أدل على متانتها من إسناد تمثيل الجانب اليمني في معاهدة الطائف إلى عبدالله بن أحمد الوزير، ومن فرار علي الوزير الذي كان أمير لواء تعز إلى المملكة العربية السعودية عام 1938م قبل الحرب العالمية الثانية حين فاجأه ولي العهد ومن ثم عودته إلى صنعاء بشروط..
أجل هنا بدأت أعي وأفهم.. وسامح الله أحد الأحرار الذي كان يساند ولي العهد فقد قال لي أنه كتب برقية من عدن إلى أحد أمراء آل سعود، وكان صديقاً له، يقول له فيها: تنبهوا فإن هذه الثورة ستشمل الجزيرة العربية أي أن إماماً قُتل وتولّى الإمامة غير ولي عهده فانتبهوا،ثم إن هذه الثورة دستورية .. إلخ.
وهكذا أيضاً كان المستشارون البريطانيون يحذرون عبدالعزيز ليس حرصاً على السعودية ولا على اليمن ولكن لتبقى الجزيرة العربية في سبات عميق،ومن ضمن من حذره المستشرق الانجليزي عبدالله فيلبي الذي حذر من وصول الثورة إلى السعودية كما انشترت من فرنسا إلى أن شملت أوربا كلها.
وهكذا وئدت ثورة 1948م بعد خمسة وعشرين يوماً من قيامها..
هذه الثورة التي اشترك فيها كثير من العرب.. اشترك فيها الأخوان المسلمون بقيادة حسن البنا فقد أرسل سكرتيره الخاص عبدالحكيم عابدين ليلقي التعليقات من إذاعة صنعاء، ووصل الفضيل الورتلاني من الجزائر، وشارك في الثورة أيضاً المدفعي العراقي جمال جميل، ولكن الثورة وئدت ونصبت المشانق ودحرجت الرؤوس في حجة.. زهرة شباب اليمن ومشائخها وعلمائها قتلوا في حجة آنذاك.. أما الوفد الذي أرسله الأحرار إلى السعودية مؤلفاً من الأستاذ محمد محمود الزبيري والأستاذ الفضيل الورتلاني والأستاذ عبدالله بن علي الوزير لمقابلة وفد الجامعة العربية فقد حالت السعودية بين التقاء الطرفين، فذهبوا على أول طائرة إلى عدن بعد أن انتصر الإمام أحمد،ومن هناك تفرقوا واختفوا في منازل في عدن خشية من بطش الشعب الهائج الذي ينتصر لإمامه يحيى.. موجات بشرية من الرعاع والهمج والدهماء تهتف بحياة الإمام أحمد الناصر لدين الله، فاختفى الثلاثة واختفى الآخرون، ولا أزال أذكر عبدالله عثمان الذبحاني من بني غازي وهو مازال يعيش ومحمد سلام حاجب رحمه الله وآخرين..
أما الورتلاني فاعتقد أن له عاصماً يعصمه، فقد استقل باخرة الطائف المصرية ذاهباً إلى مصر، وعبدالله بن علي الوزير ذهب خفية إلى الهند وهناك بعد عام وافته منيته بعد أن أصابه السل الرئوي،أما الأستاذ الزبيري فقد ذهب إلى الباكستان وهناك سجنوه وله قصة مشهورة.
وهكذا سكتت الأقلام وألجمت الألسن،ولم يعد هناك خطيب جريء مفوه عدا اثنين الأول الشيخ عبدالله علي الحكيمي في كاردف ببريطانيا وكان قد أسس مسجداً ومدارس هناك ومطبعة وجريدة «جريدة السلام»، والثاني عبدالله عبدالوهاب نعمان الذي أصدر جريدة ساخرة باسم «الفضول» مقالها الافتتاحي سياسي والبقية كلها نكت ساخرة..
السفر إلى فرنسا
في هذا الجو من الاخفاق والاحباط اللذين منيت بهما حركة الأحرار، وجدت نفسي مشتتاً ضائعاً لا أدري ما أفعل وإلى أين أذهب، فقد ضاقت بي الأرض بما رحبت،فاخترت السفر إلى فرنسا وكان معي جواز سفر فرنسي أو مايسمونه دفتر أو بوك في اليمن وهو عبارة عن هوية بحار للعمل في البحرية «سيمنس»، ومن هنا بدأت حياتي كبحار، مهاجر، وكتبت لأول مرة إلى صحيفة السلام مقالاً انتقد به الوضع إلى آخره ووقعته بسذاجة باسم «الأصبحي الشريد» فعرف أصحابي ومعارفي بعدن أن كاتبه هو محمد عبدالواسع حميد..
صرت بحاراً
على أية حال بدأت حياتي كبحار على البواخر التي تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط ذاهبة إلى المغرب مروراً بطنجة ثم الدار البيضاء، والتي كانت تمرّ أحياناً بالجزر الخالدات التي يسمونها كناريا والفرنسيون يسمونها «ليزيل دي كناري» أي جزيرة الطيور وهذه الجزيرة اكتشفها العرب في القرن الخامس الهجري وكانوا يسمون مكتشفيها الفتية المغررين، ومنها إلى السنغال وعاصمتها داكار..
في مرسيليا تعرفت إلى رئيس الجالية العربية هناك وهو محمد بن محمد الرعدي رحمه الله وكان قد عرف عني وعن والدي فأرسلني كبحار إلى باخرة اسمها «ميدي دو» أي الثانية وهي لشركة فرنسية اسمها «فروستي»،وأوصى بي أحد البحارة، لكي يعلّمني عندما تسير الباخرة، وكي لا أقع في خطأ، ولكن لم تمض عليّ ثلاثة أيام حتى كنت قد تعرفت على كل شيء وأنا تحت في «الماكينة» وقد ساعدني في ذلك إلمامي باللغة الفرنسية.
بقيت على ظهر هذه الباخرة سبعة أشهر ثم نزلت إلى مرسيليا في إجازة وفي أثناء هذه الإجازة كنت أذهب ليلاً إلى مدرس فرنسي أتعلم منه اللغة الفرنسية، وأتجول باحثاً متقرباً آثار العرب الفاتحين في جنوب فرنسا، فخرجت من مرسيليا إلى «افينيون» وكان العرب يسمونها صخرة افينيون، ومنها ذهبت إلى نبع نهر اللوار.. وما برحت منذ شبابي أفكر بزيارة الأندلس التي لم يتح لي حتى الآن زيارة بعض مناطقها.
التاجر المخفق
بعد ثلاثة أشهر عدت إلى العمل في الشركة نفسها ولكن على باخرة أخرى اسمها «كتبيا» وهو اسم نهر في المغرب، وبقيت على ظهرها ستة أشهر، وعملت كما يعمل البحارة الآخرون متاجراً أتاجر بالجنيهات والريالات إلى السنغال، وذات يوم قبض علي وسجنت وخسرت كل ماكنت أملكه وهذه قصة مضحكة مبكية من القصص الكثيرة التي عشتها.
العودة إلى البلاد مصادفة
عندما نكبت وأخذ مني كل شيء تقريباً ولم يبق معي إلا النزر اليسير التقيت في مرسيليا مصادفة بالشيخ علي الجبلي وكيل الإمام والتاجر الأول في اليمن الذي امتص التجارة اليمنية كلها،وكان قد اشترى باخرة عمرها أربوعون عاماً وسماها الإمام أحمد «المعين» وكان الجبلي ينطقها المعين بضم الميم.. وكان هذا الجبلي لئيماً،فقال لي :ابحث لي عن بحارة يريدون السفر ليعملوا على الباخرة حتى يوصلوها الحديدة. وفعلاً قمت بتأمين البحارة له وكنت أنا ضمنهم،وأبحرنا مروراً بنابولي
التي وصلناها في 19 يوليو 1952م وفي 23 يوليو قدم الشيخ الجبلي من روما ليتفقد الباخرة التي حصل فيها عطب، فقال لنا: هل سمعتم ما حدث؟ قلنا له: لم نسمع شيئاً، فليس لدينا راديو ولا أي شيء.
فقال: حدث انقلاب وثورة على الملك فاروق.
فقلت له بسرور: الحمدلله، هذا أيضاً من الملوك الذين ساعدوا الإمام أحمد على وأد ثورة 1948م، فأربد وجهه وانصرف.
في 26 أو 27 يوليو قدم يخت الملك فاروق المسمى «المحروسة» إلى نابولي ومنها إلى جزيرة كابري، بينما أقلعنا نحن مروراً ببور سعيد حتى وصلنا الحديدة، ومنها ذهبت إلى عدن ثم إلى شمال اليمن.. حيث مكثت خمسة أشهر نزلت بعدها إلى عدن مرة أخرى.
ثورة مصر تلمّ شمل الأحرار
وهناك ياللفرحة الكبرى فمصر بعد قيام ثورة 23 يوليو بقيادة الرئيس المغفور له والزعيم الذي لن يعوّض إلا بعد خمسين أو مائة سنة جمال عبدالناصر فتحت أبوابها لكل الأحرار ومن كل الأقطار ومن ضمنهم أحرار اليمن.. وهكذا عاد الزبيري رحمه الله من الباكستان وقدم آخرون من عدن بعد أن كان محرّماً عليهم أن تطأ أقدامهم أية مدينة عربية ثم جاء الشيخ الجليل عبدالله علي الحكيمي ماراً بأثيوبيا ثم بمصر حيث استقبل استقبالاً باهراً ثم إلى عدن وهناك خرجت الجماهير فلم تشهد اليمن شمالاً وجنوباً استقبالاً كالذي استقبل به الشيخ الحكيمي.. فكانت السيارة الأولى من الموكب في المطار والأخيرة في التواهي وهكذا مابين كريتر والشيخ عثمان أيضاً، وهنا ألقى الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة قصيدة مشهورة، لعلّي آتي بها في فصل آخر..
الشيخ عبدالله علي الحكيمي
في عدن التقيت الشيخ الحكيمي وكانت هناك مؤامرة بريطانية إمامية فدسّوا له في المطبعة التي شحنت في باخرة من كاردف إلى عدن كمية من المسدسات فسجنوه ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً، ولم يقصر الأحرار في مقدمتهم محمد سلام حاجب وعبدالله عثمان بني غازي وآخرون إذ أتوا بمحام من كينيا دافع عنه وآخرجه من السجن، وبقيت على صلة مع الشيخ الحكيمي بعد خروجه من السجن أزوره إن لم أقل في كل يوم ففي كل أسبوع وقد كان أوقف الطابق الأسفل من منزله في الشيخ عثمان لكل مغتربٍ ناءٍ أو حرٍ هارب من الطغيان.. كما بقيت على صلة مع هذا الإنسان العظيم بعد أن هاجرت من جديد إلى فرنسا فقد كنت أكتب له وأراسله، ولكن ما أن مضت ثلاثة أشهر على إقامتي في فرنسا حتى جاءني الخبر المفجع، فقد بلغني أن الشيخ الوقور عبدالله الحكيمي قد توفي فجأة.. أما كيف مات هذا الرجل فتلك قصة طويلة.. ومن العجيب أن أحداً لم يكتب شيئاً عن حياة هذا الرجل وحسبي هنا أن أبرز هذه النقاط من حياته العامرة بالنضال:
الشيخ الحكيمي هو أول من أسس مسجداً في كاردف ببريطانيا يؤمّه الطلبة وأسلم الكثيرون من البريطانيين على يديه.
قدم الشيخ الحكيمي إلى عدن وضمن الأستاذين الكبيرين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري لدى بريطانيا للإقامة في عدن بعد فرارهما من تعز، ثم عاد إلى بريطانيا.
بعد الثورة المصرية ألقى الشيخ الحكيمي خطاباً وطنياً رائعاً في عدن نادى فيه بوحدة اليمن وقال لاشمال ولاجنوب وسط تصفيق الجماهير في أكبر تجمع لليمنيين شهدته عدن.. ومن هنا بدأت المؤامرة على الشيخ الحكيمي إذ أن هروب الأستاذين والموشكي لم يقض مضجع الإمام كما أقض مضجعه عودة الحكيمي.
حيكت مؤامرة لاغتياله وكان في مقدمة من أرسل لهذه المهمة المسموع الكلمة محمود حسن اسماعيل من مقبنة، أذكر هذا الاسم ولن أنساه.
تكتلت قوة مختلفة ضد هذه الشخصية الفذة أهمها: الجمعية العدنية التي كانت تنادي عدن للعدنيين، ورابطة أبناء الجنوب الذين كانوا ينادون بالجنوب العربي في مقدمتهم الراحل محمد علي الجفري أخو عبدالرحمن الجفري وكثيرون بالإضافة إلى البريطانيين.
هذا الإنسان لا أدري لمَ لم يُكتب عنه الكثير.. كتبت عنه مجلة الحكمة، ومذكراته كانت محفوظة لدى نجله المرحوم عبدالرحمن عبدالله الحكيمي.. ومما يجزّ في نفسي أنني جمعت له مبلغ عشرين جنيهاً وأرسلتها إلا أنها لم تصل إليه إلا بعد وفاته كما كتب لي نجله عبدالرحمن، أجل الشيخ عبدالله الحكيمي رجل عملاق وهب حياته للوطن ورفض كل المغريات ولم يتكالب المتآمرون كما تكالبوا عليه.
فترة من اليأس
بعد وفاة الشيخ الحكيمي كنت أشبه باليائس أعيش حزيناً مغموماً أقرأ وأكتب في داخل الباخرة وأكلّف بعض الأخوة الذي يجوبون في البواخر بأن يشتروا لي الكتب من الأسكندرية وبيروت، فقد كانت الكتب تسليتي الوحيدة، وكانت حياتي غنية من هذا الجانب فقد قرأت الكثير من الكتب وخاصة كتب الثورات في القرن الخامس عشر والسادس عشر وقصة الثورة الفرنسية خاصة.. وكان مالدي من موهبة شعرية يطفر بين حين وآخر فقد كان ما أعانيه من غربة وحزن يجد متنفساً له في ما أبثه من المعاني وأنفثه من الآلام في قصائد شعرية كنت أكتبها وأمزقها.
إنه ذلك الحزن الذي تشتبك فيه الهموم الذاتية بالهموم الوطنية والنزعات الفردية بالمواقف الشمولية الإنسانية.
حزني غناي فلو فرّقت ثروته
على النفوس لأثرت أنفس الناسِ
وأذكر في تلك الفترة أنني كتبت إلى فيتنام إلى شخص اسمه علي بانبيلة كان يكتب اسعاراً حلمنتيشية إلى محمد الرعدي شيخ اليمانية في فرنسا، وكنت أجيب عنه ومما أذكر من أشعار تلك الأيام:
علل القلب وبعض القول هجرُ
واسلُ أخدانا وقل لله أمرُ
لاتعاتب غير أصحاب الوفا
إنما العتب لغير الصحب مرُّ
يعرف الفضل ذوو الفضل ولا
يُحمد الصيفُ إذا لم يأتِ قَرَّ
بعدت داري وأحبابي فكم
ذرفت عيني دموعاً تنهمر
أيها اللائم رفقاً لا تلم
إن قلبي فيه نار تستقرُّ
نلت من دهري عناءً وشقا
وتحمَلت عذاباً يستمرُّ
بتُّ لا الآمال تسعدني ولا
لي أحلام وللظلماء فجرُ
يارفاقي هل أراكم قبل أن
يجمع الأوصال من جسمي قبرُ
لست أرجو الفقر أو أرجو الغنى
وخلا هذين أحوال تمرُّ
همتي المجد فإن أخطأني
فعلى الدنيا العفا والموت عذر
وفي تلك الفترة أيضاً كنت أجد شيئاً من السلوة في التجوّل في جنوب فرنسا أتتبع آثار القادة العرب والفتوحات الإسلامية، حتى وصلت إلى أفنيون والعرب يسمونها صخرة أفنيون التي كانت معقلاً للقائد العربي السمح بن مالك الخولاني، ووصلت مع صديق لي في سيارة إلى منطقة اسمها آرديش، وإلى نبع نهر الوار الذي يسميه العرب نهر اللوار وهو النهر الذي عبره القائد العربي الفاتح عبدالرحمن الغافقي، وهناك مكثت يومين.. وهكذا أمضيت فترة لا بأس بها في التجول إلى عام 1954م.
في أواخر عام 1954م سمح للأحرار بفتح الاتحاد اليمني في القاهرة في ميدان التحرير، وسمح لهم بإصدار جريدة «صوت اليمن» التي كانت تصدر قبل عام 1948م في عدن، فأعيدت من جديد برئاسة الشهيد محمد محمود الزبيري، وكنت هناك في فرنسا أكتب وأجمع التبرعات من الذين يؤمنون بالحركة الوطنية، وليس غير بضعة أشخاص، ولقد كانت معاناتي كبيرة في هذا المجال وأذكر أنني كتبت رسالة إلى الأخ المرحوم محمد راجح كليب في بريطانيا أشرح له ما أعاني من اليمنيين الذين أعطيتهم صحيفة صوت اليمن ليقرؤوها مجاناً ولكنهم لايقرؤونها غالباً، وأغلبهم يقول الله يحفظ الإمام، فماذا أفعل؟.. ومازلت أتذكر ردّه بالحرف الواحد: «لاتشك لي ولا أبكي لك إن الذين عندك هم عندي وأنا اشتركت في عشرة أعداد ولله الحمد، ولنصبر على هذا الشعب».
وهكذا ظللت أحياناً أخسر مايقرب من خمسة وعشرين جنيهاً استرلينيا لأذهب إلى المغرب لأجتمع باليمنيين فلا أجد إلا عشر جنيهات، ولا يهمني هذا.. كنت أفرح حين أجد واحداً ولو واحداً يتجاوب معنا، وكنت أفرح حين أجد واحداً من اليمنيين يقول عن الإمام أنه ظالم.. واستمرت الأمور على هذا المنوال إلى أن جاءت ثورة 1955م بقيادة الثلايا وأنا أكتب رسائل نارية، متمنياً أن أكون فدائياً يقدّم روحه فداء لوطنه.
النعمان يحذرني:
بعد إخفاق ثورة 1955م ذهب الأستاذ أحمد محمد نعمان بعدما أفرج عنه من معتقل حجه ليشكر الملك سعود بمرافقة ولي العهد محمد البدر، وبعد عودته فرّ إلى القاهرة وبينه وبين نجله العبقري محمد نعمان شفرة، فأرسل له: وصلت بالسلامة، أي أنه فرّ إلى عدن، وقرأناها في «صوت اليمن» ونحن في فرنسا، وبعد شهر من وصوله عدن كتبت له وكتب لي بالحرف الواحد: «يا أخ محمد أو ياولد محمد عبدالواسع وجدت اسمك هنا لامعاً بين الأحرار.. أرجو أن تغيّر عنوانك لكي لاتقع في مطب كما وقع الأحرار في عدن في 46 و1947م.
نهاية الخائنين
تذكرت الأستاذ محمد محمود الزبيري الذي كان أطهر من ماء السماء وكيف اندسّ معه من اندسّ كعلي عاصم من أبناء عدن وعلي الجنّاتي وكان من الأحرار ولكنهم سرقوا كل أوراقنا وبينها صوري وصور الآخرين وتجمّلوا بها لدى الوزير المفوّض عبدالرحمن أبو طالب فأوصلها إلى الإمام فوظّفهما قنصلين، أما علي عاصم فمازال يعيش في بريطانيا هارباً بدون وطن، وأما علي الجنّاتي فربما أنبه ضميره فانتحر بعد ثورة 26 سبتمبر أي في السبعينيات، انتحر في الكيلو 18 بجدة.
كيف سمّيت السندباد اليمني
كنت بحاراً وكنت أراسل الأستاذين نعمان والزبيري من كل مكان أحل فيه: فحين أصلي المغرب أكتب لهم، وبعد نصف شهر تصلهم رسائلي من السنغال «داكار»، وبعد شهر تصلهم مقالاتي ورسائلي من فرنسا، ولذلك كانوا لايضعون اسمي على رسائلي ومقالاتي بل يستعيضون عنه باسم «السندباد الجديد» أو «السندباد اليمني».. وحين دعي الأحرار من إثيوبيا وأقاصي افريقيا ومن كل منطقة فيها مغتربون للاجتماع في فرنسا كنت أنا ممثلهم.. ولابد لي هنا من أن أذكر الحادثة التالية لأنها تقلي الضوء على المشاعر القومية الحماسية المتأججة التي
كانت تحرك أعماقنا وتدفعنا للتضحية والبذل والعطاء: ففي عام 1955م بدأ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في تحطيم احتكار بيع السلاح، فاشترى من روسيا ومن تشيكو سلو فاكيا، وتناقلت الخبر وكالات الأنباء.. وهنا أخذتني الأريحية وطنياً أولاً وعربياً ثانياً، وقلت لنفسي: إن الرئيس جمال عبدالناصر فتح ذراعيه لكل العرب ونحن الهاربين من أحرار اليمن في مقدمتهم، فماذا أصنع لأشعر مصر والمصريين بأن هناك أشخاصاً يردّون الجميل..؟
فما كان مني إلا أن أرسلت بمائة جنيه إسترليني كمشاركة رمزية إلى الرئيس جمال عبدالناصر، فلما وصلت عن طريق بنك «بركليز»، تسلمها الرئيس جمال عبدالناصر، سلمها له الأخ أحمد محمد نعمان، ولاتزال الصورة التاريخية التي جمعت النعمان بعبد الناصر في هذه المناسبة محفوظة في بيت الأستاذ نعمان، ولقد تناقلت الإذاعات والصحف هذا الخبر عن ذلك المغترب اليمني الذي ساهم في تسليح الجيش المصري.. لم أكن مغتراً، ولم أكن مغروراً، وليست منّةً، وأنا بشر على أية حال وأحب أن أفتخر وأن يقال فلان صنع وصنع، ولكنني كنت خائفاً أولاً لأني أحمل جواز سفر فرنسي وفرنسا مختلفة جداً جداً مع عبدالناصر ومع مصر خاصة في قضية المغرب والجزائر، وثانياً خائف ووجل على أسرتي في اليمن من بطش الإمام أحمد.. ولهذا أرسلت ما أرسلت باسم مغترب يمني.
تركت العمل في البحر، وكانت آخر باخرة عملت عليها هي «ليوتيه» باسم المارشال ليوتيه الذي احتلّ المغرب قبل الملك محمد الخامس رحمه الله، وحين مررت في بور سعيد كتبت رسالة للأستاذين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري بأنني أتوق لرؤيتهما، ولكني لم أوفق، وها أنا متوجّه إلى جيبوتي ومنها إلى اليمن لزيارة الأهل.
بعد وصولي جيبوتي بإسبوعين وصلتني رسالة من الأستاذ محمد نعمان هذا نصُّها: «الأخ محمد عبدالواسع قرأت رسالتك وكنت أتوقع وأتشوّق أنا وزميلي الزبيري لرؤيتك، ولكن مع الأسف غادرتنا إلى جيبوتي، أنصحك: إياك إياك أن تسافر إلى اليمن مهما كانت الدوافع والبواعث فإن الخائنين علي الجنّاتي وعلي عاصم قد سرقا أوراقك وأوراق الأحرار، وتجمل بها لدى الإمام، وهما الآن موظفان».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.