أكاديمي اقتصادي: فكرة البنك المركزي للحد من تدهور الريال اليمني لن تنجح!    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    انهيار مرعب للريال اليمني.. ووصول أسعار صرف الدولار والريال السعودي إلى أعلى مستوى    المشاط يدافع عن المبيدات الإسرائيلية وينفي علاقتها بالسرطان ويشيد بموردها لليمن    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    رئيس برلمانية الإصلاح يتلقى العزاء في وفاة والده من قيادات الدولة والأحزاب والشخصيات    شراكة الانتقالي وتفاقم الازمات الاقتصادية في الجنوب    ذكرى إعلان فك الارتباط.. جدار جنوبي راسخ لفظ الوحدة المشؤومة    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    خاصموا الانتقالي بود وأختلفوا معه بشرف    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    مظاهرة حاشدة في حضرموت تطالب بالإفراج عن السياسي محمد قحطان    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    لليوم الثالث...الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً على مديرية الخَلَق في الجوف    صراعات داخل مليشيا الحوثي: قنبلة موقوتة على وشك الانفجار    ناشطون يطالبون الجهات المعنية بضبط شاب اعتدى على فتاة امام الناس    "يقظة أمن عدن تُفشل مخططًا إجراميًا... القبض على ثلاثه متهمين قاموا بهذا الأمر الخطير    شاهد :صور اليوتيوبر "جو حطاب" في حضرموت تشعل مواقع التواصل الاجتماعي    رئيس الوفد الحكومي: لدينا توجيهات بعدم التعاطي مع الحوثيين إلا بالوصول إلى اتفاقية حول قحطان    اللجنة الوطنية للمرأة تناقش أهمية التمكين والمشاركة السياسة للنساء مميز    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    مجلس النواب يجمد مناقشة تقرير المبيدات بعد كلمة المشاط ولقائه بقيادة وزارة الزراعة ولجنة المبيدات    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    منظمة التعاون الإسلامي تعرب عن قلقها إزاء العنف ضد الأقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    البرغوثي يرحب بقرار مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية مميز    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    قيادات سياسية وحزبية وسفراء تُعزي رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح في وفاة والده    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    أرتيتا.. بطل غير متوج في ملاعب البريميرليج    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الاصبحي يتذكر الحلقة "26"
نشر في الجمهورية يوم 20 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
المغتربون ينقذون زعيمي الأحرار:
في عام 1944م، وبعد سجن الأستاذ الكبير قاسم غالب، توحّش ولي العهد وراح يزجّ بالسجن كل من يشك فيه أنه من الأحرار ففرّ الزعيمان أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري إلى لحج.. في هذا الظرف الحساس والحرج يبرز دور المغترب الكبير الشيخ عبدالله الحكيمي الذي ضمن الزعيمين وأخرجهما من لحج إلى عدن ليتابعا النضال ويكتبا في «فتاة الجزيرة» التي كان يصدرها المحامي محمد علي إبراهيم لقمان وهكذا كانت المساعدات المالية تتواتر من المغتربين إلى الأستاذ النعمان في عدن..
وقد غامز الأستاذ النعمان في ذلك الوقت من غامز، بسبب أنه كان يقتر على زملائه من الأحرار، حتى إن بعضهم اضطر إلى العودة، وممن عاد مطيع دماج وأحمد محمد الشامي وزيد الموشكي وغيرهم.. عادوا إلى تعز وصنعاء والحديدة لأنهم لم يجدوا من يقيهم.. وممن بقي في عدن كان محمد عبدالله الفسيّل الطيب جداً جداً جداً وإن كان حاقداً.. فهو عندما يحقد لا يبالي.. وأنا عندما أكون صريحاً لا أبالي.. وهو شجاع جداً، فأنا أحترم شجاعته ولا أحترم حقده.
أذكر أن بعض الأحرار كانوا يطلبون من الأستاذ النعمان أن يطلعهم على أسماء من يتبرعون من المغتربين في أفريقيا الشرقية وأثيوبيا.. وكان الأستاذ يحافظ على سرية التبرع لأن المتبرعين كانوا يخافون إذا عُلم أمرهم على أهلهم في اليمن، لأن ولي العهد كان ينتقم من أهل الذين يشك في مساعدتهم للأحرار.
هكذا لم يكن المغتربون يثقون إلا بالأستاذ النعمان، ولم يكونوا يرسلون تبرعاتهم إلا له، سواءً أكانوا من لواء إب أو من لواء تعز أو من صنعاء.. هكذا كان وأنا لست طائفياً.. أنا يمني وعربي وسأظلّ كذلك حتى أوسّد بالتراب..
وأذكر أن الأستاذ النعمان أخيراً أعطاهم عناوين المغتربين الذين يتبرعون، فراسلوهم، ولكن أحداً لم يستجب لهم.. وهكذا عادوا وبقي النعمان والزبيري وحيدين في عدن.
المغتربون يشترون مطبعة صوت اليمن:
هذه حقيقة يجهلها الكثيرون، وأريد أن أؤكد عليها هنا، هي أن أحمد عبده ناشر العريقي وعبدالغفار زيد الأصبحي قد وصلا من أثيوبيا إلى عدن وقدّما للأستاذ النعمان والزبيري مايساوي 600ريال فرنسا حجر آنذاك، ليشتريا بها مطبعة «صوت اليمن» وقالا لهما: اصمدوا.. اصمدوا.. اصمدوا.. فصمدوا، وشروا مطبعة «صوت اليمن» وبدأوا يؤلفون أو يشكلون الجمعية اليمنية الكبرى أو جمعية الأحرار الدستوريين.. وهكذا بقيا في عدن، يكتبان، وينشران، ويذكيان نار الثورة في النفوس.
أيها الرفاق أيها الأحبة
إن ماقام به أحمد عبده ناشر العريقي وعبدالغفار زيد الأصبحي كان له دور مهم جداً.. وماقاما به كان بمثابة ملء القنديل بالزيت ليستمر مضيئاً متوهجاً.. هذه واحدة من الصور المشرّفة للمغتربين المناضلين.
لقد همّ والله الأستاذ النعمان ومن معه بالعودة إلى الشمال تحت ضغط الحاجة المادية، لاسيما حين أرسل وليّ العهد أخاه الأكبر علي محمد نعمان حاملاً الأمان له ولمن معه.. في هذه اللحظة الحرجة وصل المغتربان المناضلان أحمد عبده ناشر وعبدالغفار زيد وقدّما التبرع الذي يحافظ على شعلة الثورة، بعد أن وأدها قومها من القبائل المسكينة الجاهلة المغلوبة على أمرها.. الذين كتب فيهم الزبيري قصيدته المشهورة «رثاء شعب» عام 1949 و1950م وهو في باكستان، وقد طلبتها منه آنذاك، وكنت في فرنسا، فأرسلها إليّ، وهي قصيدة رائعة قال في مقدمتها: «بدأت المرثاة على أثر مصرع الثورة اليمنية الدستورية عام 1948م، وأنا مطارد في الهند، هارب من البشر، محظور عليّ أن أمشي على وجه الأرض، اسمي مسجّل في القائمة السوداء بمصر في عهد فاروق، فلما سقط الطاغية، وحررتنا ثورة 23يوليو أتممت المرثاة الضارية في حدائق قصر المنتزة بالإسكندرية بعد أن أصبح ملكاً للشعب».
ولما كانت هذه القصيدة ملحمة من ملاحم النضال، فقد رأيت أن أوردها هنا، ليطلع عليها من ليست لديه الأعمال الشعرية لأبي الأحرار:
رثاء شعب
ماكنتُ أحسبُ أني سوفَ أبكيه
وأن شعري إلى الدّنيا سينعيه
وأنني سوف أبقى بعد نكبته
حيّاً أمزقُ روحي في مراثيه
وأن من كنتُ أرجوهم لنجدته
يوم الكريهةِ كانوا من أعاديه
ألقى بأبطاله في شر مهلكة
لأنهم حققوا أغلى أمانيه
قد عاش دهراً طويلاً في دياجره
حتى انمحى كل نورٍ في مآقيه
فصارَ لا الليلُ يُؤذيه بظلمتهِ
ولا الصباحُ إذا ما لاحَ يهديه
***
فإن سلمتُ فإني قد وهبتُ له
خُلاصةَ العمرِ ماضيهِ، وآتيه
وكنتُ أحرِصُ لو أني أموت له
وحدي فداءً ويبقى كلُّ أهليه
لكنهُ أجل يأتي لموعده
ماكل من يتمناه ملاقيه
وليس لي بعدهُ عمرٌ وإن بقيتْ
أنفاسُ روحي تفديهِ، وترثيه
فلستُ أسكنُ إلا في مقابره
ولستُ أقتاتُ إلا من مآسيه
وما أنا منهُ إلا زفرةُ بقيتْ
تهيمُ بين رُفاتٍ منْ بواقيه
***
إذا وقفتُ جثا دّهري بكلكلهِ
فوقي وجرَّت بيافوخي دواهيه
وإن مشيتُ به ألقت غياهُبهُ
على طريقي شباكاً من أفاعيه
تكتلتْ قوةُ الدّنيا بأجمعها
في طعنةٍ مزَّقت صدري وما فيه!
أنكبةٌ ما أعاني أم رُؤى حُلُمِ
سهتْ فأبقتهُ في روحي دواهيه
أعوامُنا في النضال المرّ جاثية
تبكي النضال، وتبكي خطبَ أهليه
بالأمس كانت على الطغيان شامخةً
تجلوهُ عاراً على الدنيا وتخزيه
وارتاع منها طُغاةٌ ما لها صلةٌ
بهمْ، ولا كان فيهمْ منْ تُناويه
لكنهم أنسوها شُعلةً كشفتْ
من كان عُريان منهم في مخازيه
فأجمعوا أمرهُم للغدْر، وانتدبوا
لكيدنا كلَّ مأجورٍ، ومشبوه
واستكلبت ضدّنا آلاف ألسنةٍ
تسومُنا كلَّ تجريحٍ، وتشويه
من كلّ مرتزقٍ لو نالَ رشوتنا
أنالنا كل تبجيلٍ، وتنويه
وكل طاغية لو نرتضي معه
خيانة الشعب جاءتنا تهانيه
وكلّ أعمى أردنا أن نرُدَّ لهُ
عينيه، فانفجرتْ فينا لياليه!
وكل بوق أصمّ الحسّ لو نبحتْ
فيهِ الكلابُ لزكّاها مُزَكيّه
وألبوا الشعبَ ضدّ الشّعبِ وأندرأوا
عليه من كلِّ تضليلٍ وتمويه
***
ياشعبنا نصف قرنٍ في عبادتهمْ
لم يقبلوا منكَ قرباناً تُؤديه
رضيتهُمْ أنتَ أرباباً وعشتَ لهم
تنيلُهم كلَّ تقديسٍ، وتأليه
لم ترتفعْ من حضيض الرقّ مرتبةً
ولم تّذُقْ راحةً مما تقاسيه
ولا استطاعت دُموعٌ منك طائلةٌ
تطهيرَ طاغيةٍ من سَكْرة التّيه
ولا أصخت إلينا معشراً وقفوا
حياتهمْ لكَ في نُصْحٍ وتوجيه
نبني لك الشرف العالي فتهدمُه
ونسحَقُ الصنم الطاغي فتبنيه
نقضي على خصمك الأفعى فتبعثه
حياً ونشعل مصباحاً فتطفيه
قضيتَ عمركَ ملدوغاً، وهأنذا
أرى بحضنك ثُعباناً تُربّيه
تشكو له ما تلاقي وهو منبعث الش
كوى وأصلُ البلا فيما تُلاقيه
أحلى أمانيه في الدنيا دُموعُكَ....
تُجريها ورأسكُ تحت النّيرِ تحنيه
وجرحُكَ الفاغر الملسوع يحقُنه
سُماً، ويُعطيهِ طبّاً لايداويه
فلا تُضع عُمر الأجيال في ضعةِ
الشكوى فيكفيك ماضيه، ويكفيه
فما صراخُك في الأبواب يعطفهُ
ولاسجودُكَ في الأعتابِ يُرضيه
لاعُنقكَ الراكعُ المذبوح يُشبعهُ
بطشاً، ولادمُك المسفوحُ يُرويه
فامدد يديك إلى الأحرار متخذاً
منهم ملاذك من رق تعانيه
ماتوا لأجلك ثم انبث من دمهم
جيل تؤججه الذكرى وتذكيه
يعيش في النكبة الكبرى ويجعلها
درساً إلى مقبل الأجيال يمليه
لايقبل الأرض لو تعطى له ثمناً
عن نهجه في نضال، أو مباديه
قد كان يخلبه لفظ يفوه به
طاغ ويخدعه وعد، ويغويه
وكان يعجبه لص يجود له
بلقمة سلها بالأمس من فيه
وكان يحتسب التمساح راهبه
القديس من طول دمع كان يجريه
وكان يبذل دنياه لحاكمه
لأنه كان بالأخرى يمنيه
وكان يرتاع من سوط يلوح له
ظناً بأن سلام الرق ينجيه
واليوم قد شب عن طوق وأنضجه
دم وهزته في عنف معانيه
رأى الطغاة بأن الخوف يقتله
وفاتهم أن عنف الحقد يحييه
قالوا انتهى الشعبُ إنا سوف نقذفه
إلى جهنم تمحوه، وتلغيه
فلينطفىء كل ومض من مشاعره
ولينسحق كل نبض من أمانيه
وليختنق صوته في ضجة اللهب..
الأعمى وتحترق الأنفاس في فيه
لنشرب الما دماءً من مذابحه
ولنحتس الخمر دمعاً من مآقيه
ولنفرح الفرحة الكبرى بمأتمه
ولنضحك اليوم هزءاً من بواكيه
ولنمتلك كل ماقد كان يملكه
فنحن أولى به من كل أهليه
ولينسه الناس حتى لايقول فم
في الأرض ذلك شعب مات نرثيه
ويح الخيانات من خانت ومن قتلتْ؟
عربيدها الفظ يرديها وترديه
الشعب أعظم بطشاً يوم صحوته
من قاتليه وأدهى من دواهيه
يغفو لكي تخدع الطغيان غفوته
وكي يجن جنوناً في مخازيه
وكي يسير حثيثاً صوب مصرعه
وكي يخر وشيكاً في مهاويه
علتْ بروحي هموم الشعب وارتفعت
بها إلى فوق ماقد كنتُ أبغيه
وخولتني الملايين التي قتلتْ
حق القصاص على الجلاد أمضيه
عندي لشر طغاة الأرض محكمة
شعري بها شر قاض في تقاضيه
جمع التبرعات عمل شاق:
قال لي بعض الإخوة: إنك تكتب عن الآخرين وعما قدموا للقضية الوطنية، فلماذا لاتكتب عن نفسك؟
فقلت لهم: إنني والله لا أجد لنفسي ذلك العمل الكبير الجدير بالكتابة عنه، إن مابذلته من جهود ومالاقيته من مشاق لايساوي قطرة من الدماء الكريمة التي قدمها شهداء الثورة، وأما ماقدمته من مال فلم يكن إلا جهد المقل على أية حال، وحتى تلك المائة جنيه التي تبرعت بها باسم مواطن عربي من اليمن لمصر قبل العدوان الثلاثي، عام 1955م والتي أحدثت ضجة وكتبت عنها الصحافة، وتسلمها تقديراً وامتناناً الزعيم الكبير جمال عبدالناصر.. لا أراها أيضاً ذات شأن يذكر، إلا أن تكون اللهم ذات شأن معنوي.
وإذا كنت سأذكر شيئاً في صحيفة حياتي، فلا بأس بأن أسجل هذه الذكريات التي مازالت في ذاكرتي من أيام جمع التبرعات في المغترب، وهي ذكريات تظهر طرفاً من معاناتي مع المغتربين الذين كانوا لايقدرون الدور الذي أقوم به.
أذكر عندما كنت في فرنسا، أنني كنت أجمع التبرعات فأسافر إلى الجزائر والمغرب، لأحصل على بعض المال وأرسله إلى الأستاذين النعمان والزبيري.. وغالباً ماكنت أكتشف أن ثمن تذاكر السفر الذي دفعته من جيبي الخاص هو أكبر من المبلغ الذي جمعته!!
وأذكر أنني كنت أطلب من صحيفة «صوت اليمن» التي صارت تصدر في القاهرة بعد أن كانت تصدر في عدن من 20 إلى 50 نسخة لأبيعها للمغتربين ولكني كنت لا أجد سوى خمسة أو ثمانية من المشتركين أو القراء، فأوزعها مجاناً، وأدفع ثمنها من جيبي الخاص، ولابد أن أذكر هنا أسماء من كانوا يقرأون ويدفعون وهم: المرحوم محمد محمد الرعدي والمرحوم محمد نعمان زيد العريقي والمرحوم صالح محمد الحدئي وعبدالوهاب عبدالملك العريقي «لا أعرف ما إذا كان لايزال حياً»، وآخرهم المرحوم عبدالله أحمد عثمان الذبحاني وولده الآن نائب مدير البنك اليمني للإنشاء والتعمير في تعز.
هؤلاء هم وماعدا ذلك لم أكن أجد أحداً.
وأذكر هنا محمد راجح كليب الذي كان يلقبه اليمنيون بالشعب اليمني لأنه كان دائم التحدث عن الشعب اليمني وكان يمثل الأخوان المسلمين كما عرفت ذلك من حديثه في عام 1946م عندما مر بباخرة إلى جيبوتي.
فشكوت له ماأعاني من اليمنيين على كثرتهم فأجابني برسالة هذا بعض نصها:
«يا ابن أخي يامحمد عبدالواسع الذي عندك هم عندي فلا تأس ولا تحزن أنا اشتركت بخمسة أعداد أدفع ثمنها وأوزعها مجاناً».
خرجت في عام 1955م وقد تهدم أو تناثر أشلاءً «الاتحاد اليمني» لخيانة بعض الأعضاء، كما قلت في الماضي، وأولهم علي الجناتي وعلي عاصم وآخرون.
في تلك الأثناء طلبت من رجل من رداع أذكر أن اسمه كان «علاو».. طلبت منه أن يشترك في الشهر بجنيه واحد أو ب 20 شلناً استرلينياً، ولكنه أبى إلا أن يكتب إلى الزبيري أو علي المؤيد آنذاك، كي يُطبع اسمه في الصحيفة، فكتبوا اسمه، وكتبوا له في نهاية الإعلان:« اتصلوا بمندوبنا ووكيلنا أحد أقطاب الحرية محمد عبدالواسع حميد الأصبحي».
وهنا كتبت رسالة أتذكر أنها كانت في 22 صفحة أعاتب فيها الأستاذ النعمان، وأشرح له كيف يغترب اليمنيون وكيف يعيشون سواءً في فرنسا أو في بريطانيا أو في امريكا وأسبانيا بأسماء غير أسمائهم.. وأنه لايوجد في فرنسا من أعرف اسمه الحقيقي سوى خمسة من المغتربين.. وحكيت له أيضاً قصتي ومعاناتي في جمع التبرعات.. وإذا به يجيبني:« أرسل الرسالة لمحمد أنعم غالب» ولم أكن أعرفه بعد، وكان مسؤولاً عن رسائل المغتربين، فأجابني برسالة هذا نصها:
أخي محمد عبدالواسع حميد الأصبحي
قرأت، رسالتك، فتذكرت قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
يانائح الطلح أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
ماذا تقص علينا غير أن يداً
قصت جناحك جالت في حواشينا
أي أن الحال هي الحال نفسها في كل مكان بخصوص جمع التبرعات ولما كان هذان البيتان من قصيدة تعجبني جداً، فلابدّ أن أمتّع القارئ ببعض أبياتها، يقول أمير الشعراء.
فأن يك الجنس يابن الطلح فرّقنا
إن المصائب يجمعن المصابينا
لم تأل جسمك تحناناً ولا طرباً
ولا ادّكاراً ولا شجواً أفانينا
تجرُّ من فنن ساقاً إلى فننِ
وتسحب الذيل ترتاد المواسينا
أساة جسمك شتى حين تطلبهم
فمن لعقلك في النطس المداوينا
آهِ لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ
وإن حللنا رفيفاً من روابينا
رسم وقفنا على رسم الوفاء له
نجيش بالدمع والإجلال يثنينا
لفتيةٍ لا تنال الأرض أدمعهم
ولا مفارقهم إلا مصلينا
لو لم يسودوا بدين فيه منبهةٌ
للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
هذه القصيدة قالها شوقي عام 1917م عندما كان في الأندلس حيث ذهب إلى أشبيليا وزار وادي الطلح.. وقصيدته من عيون الشعر، قال فيها الدكتور زكي مبارك: «كل من لا يحفظها فليس بأديب».
أما وادي الطلح فهو ذلك الوادي الذي كان يرتاده وينتقّل فيه الوزير الشاعر ابن زيدون المخزومي الذي كان يحب ويعشق ويموت بولادة بنت المستكفي.. وما قصيدة شوقي التي تحدّثنا عنها إلا معارضة لرائعة ابن زيدون المشهورة التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا وقد حان صبح البين، صبّحنا
حين فقام بنا للحَيْن ناعينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهمو
صبراً مع الدهر لا يبلى، ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنساً بقربهمو قد عاد يبكينا
غِيظ العدا من تساقينا الهوى، فدعوا
بأن نَغَصَّ فقال الدهر: آمينا
فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا
وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يُرجى تلاقينا
والتي يقول فيها:
بنتم وبّنا، فما ابتلّت جوانحنا
شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
حالت الفقدكُم أيامنا فغدتْ
سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
ويقول فيها:
لا تحسبوا نأيكمْ عّنا يغيرّنا
إذا طالما غيرَّ النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً
منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلاً عنك يشغلنا
ولا اتخذنت بديلاً منكِ يسلينا
يا ساري البرق غادِ القصر واسقِ به
من كان صرف الهوى والودّ يسقينا
واسأل هنالك هل عّنى تذكرنا
إلفاً تذكره أمسى يعنّينا
ويا نسيم الصَّبا بلّغ تحّيتنا
من لو على البعد حّيا كان يحيينا
مثل هذا الشعر الجميل حريّ والله أن يخرج من هناك من الأندلس بلاد النجوم والزهور والخصب والرفاه والحبّ.
على أية حال. خرجت من هناك وقد تمزّق الاتحاد اليمني أشلاءً: من خان خان ومن ومن..
ذهبت إلى جيبوتي في باخرة، وكتبت إلى الزبيري والنعمان تلك الرسالة التي ذكرتها في كتابي الأول، وقلت فيها: «أنني ذاهب إلى جيبوتي ثم إلى اليمن».
وكتب لي الأستاذ النعمان ردّاً عليها رسالة جاء فيها:
«إياك إياك أن تسافر إلى اليمن مهما كانت الدوافع والبواعث لأن الجنّاتي وعلي عاصم سرقا كل الوثائق التي للأحرار وسلّماها للإمام لكي يتوظفل لديه».
حُقَّق مي مرةً أخرى في جيبوتي، ثم أردت العودة إلى فرنسا، فكتب لي صديق: «إياك أن تعود إلى فرنسا فقد جاء الفرنسيون يسألون عنك، لأنك كنت تساعد الجزائريين..».
وأنا لم أكن أساعد الجزائريين، كنت أجتمع بهم فقط. أما المغاربة فقد ساعدتهم، هذا صحيح، فقد كنت أهرّب نقوداً من طنجة إلى مرسيليا ومن مرسيليا إليهم لكي يشتروا بها سلاحاً. هذا ما كنت أعمله.. أما الجزائريون فلم أساعدهم، ولم يكن أحد يثق بأحد من غير الجزائريين الذين من حزبهم..
ظللت تائهاً، وأصبت بانهيار عصبي، والقصة طويلة جداً. ثم خرجت إلى عدن، ومنها عدت إلى جيبوتي، وبقيت هناك عشرة أشهر، ثم ذهبت على ما يقول المثل: «قارب الشرّ تأمن» ذهبت مغامراً إلى الحجرية، وبعد أربعة أشهر ذهبت إلى تعز وليحدث ما يحدث.
التقيت الشيخ ناشر عبدالرحمن الذي أشاح يوجهه عّني باعتبار أني تآمرت عليه. وهو لم يعرف إلا في ما بعد أن الذي كان يتآمر عليه هو أحمد عبدالله الجرادي.. هذه قصة طويلة نتركها الآن.
ذهبت إلى «مكة» وظللت هنال أنتظر لأنني ذهبت في أيام الحج، فحججت واعتمرت، ولكن ليس لديّ إقامة، ولا أستطيع الذهاب إلى الرياض حيث سأعمل مع سعيد علي الأصبحي رئيس الجالية اليمنية.
غامرت.. وكاد أن يقبض علي بعد أن قُبض على الأستاذين إبراهيم صادق ومحمد علي علوي الجفري صاحب الحديدة، رحمة الله عليهما.
ذهبت إلى الرياض، وبقيت ثلاثة أشهر حتى قّيض الله لي أحمد محمد الحكمي الذي جاء بجواز سفر لآخر، وفيه إقامة، مكتوب فيه «شوهد في مطار الظهران قادماً من عدن». وهكذا بقيت هناك أجمع التبرعات.
في عام 1958م جمعت تبرعات، فالثقة بي كانت كبيرة والحمد لله.. وهنا يحقّ لي أن أفخر بهذه الثقة، لأنه والله وتالله لم يتبرّع ولم يسلّم أي يمني ريالاً واحداً بعد خروجي.
توجّهن من «الرياض» إلى «جدة» ومنها إلى «القاهرة»، وهناك التقيت الأستاذ أحمد عبدالرحمن المعلّمي والعميد محمد علي الأكوع، بعد أن التقيت بالأستاذين الكبيرين النعمان والزبيري، وسلمتهما خمسمائة جنيه استرليني من المتبرعين، ولا أودّ أن أقول ممن كان هذا المبلغ.. سلّمت كلاً منهما مائتين وخمسين جنيهاً استرلينياً.
في 4يناير1959م ذهبت إلى عدن بمعّية العبقريّ محمد أحمد نعمان، ثم إلى السودان حيث ظللنا يومين ثم عدنا إلى عدن.. وترأست جمعية الأصابح التي جاءتني بالمشاكل، وكم لي من مشاكل: فتحت دكاناً وعهدت بها إلى أحمد محمد إسماعيل الأصبحي أكبر لص في الحجرية، الذي سرق الشرام أولاً ثم سرقني.. ماذا أفعل؟ كنت مشغولاً بالسياسة، وكان عبدالله عبدالوهاب نعمان الملقب بالفضول محقّاً حين قال: يا جماعة الخير.. أنا أطلب اثنين، أحدهما يقتل الإمام والثاني يربط محمد عبدالواسع في الدكان.
فقيل له: لماذا؟
فقال: أسال:أين محمد عبدالواسع؟ يقولون في «الاتحاد اليمني».
أين محمد عبد الواسع؟ في «جمعية الأعروق».
أين محمد عبد الواسع؟ في «المؤتمر العمالي».
لم أجده في الدكان مرّة واحدة.
مَن يربط لي محمد عبد الواسع؟
يا محمد عبدالواسع شارح دكانك عُلَبَك.. شارح دكانك سيسرقونك.
وكذا كان..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.