إن هناك من محضهم الإيمان محضاً، كالأنبياء من أولي العزم ، وهناك غيرهم من المؤمنين وعباد الله الصالحين.. أما الشعراء فهم ثلاثة أولهم شاعر لزمانهِ، وشاعر سابق لزمانه وشاعر يمتد من الماضي إلى المستقبل، والمتنبي ينطبق عليه التوصيف الثالث بلا ريب، فهو الشاعر الذي حاصرته تهم تكفي لجعله متعارضاً مع كل ما هو سائد من سلبيات الواقع ورواسبه، فقد اتهم بادعاء النبوة، وبالتقرب للبلاط، والوصولية، وغير ذلك مما يجعل شاعراً في مقامه يتحول إلى محام للدفاع عن نفسه فقط، ولكنه اختار غير ذلك.. فلقد كان الشاعر المتنبي ممن يصح فيهم القول «شاعر الأزمنة» لأنه الشاعر الأوحد الذي محضه الشعر محضاً والعكس، فهو الوحيد الذي بقي شعره رنيناً صادحاً على مر العصور، وهو الذي أخذه الشعر إليه والعكس أيضاً.. لقد أعطى بياناً شعرياً لكل زمان، فكل قصيدة منه هي مرسلة إلى القلب والفكر والوجدان، وهو من جعل الإنتماء للأمة خيار وجود وشرف وكرامة، حتى وصمه بعض النقاد العرب بالمتعصب، متناسين أن القيصر الروسي يرفض حتماً إذابة انتمائه في أي انتماء آخر، وأن الأمة الأمريكية التي هي مجموعة أجناس من أمم شتى، لم تستطع إذابة الهنود الحمر في حضارتها الجديدة، وأن الأفريقي بأمريكا لا يحب غير أصوله التي انبثق منها، وأن ملوك فارس يرفضون رفضاً كلياً الانتقاص من حضارتهم، رغم تفاعلهم وإعجابهم بالحضارات الأخرى، فهل بعد هذا يعاب على المتنبي اعتزازه بعروبته، ومن كل العالم يكون المتنبي هو المتعصب الوحيد لجذوره وأرومته؟؟ إن الإعتزاز بالذات يصبح مستهجناً وممقوتاً إذا وصل درجة احتقار آدمية الإنسان، والتعالي عليه بغرض الإستعلاء والتكبر والظلم، لأن الناس كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «لآدم وآدم من تراب» والله يقول: «هو الذي خلقكم من نفس واحدة» والمتنبي الشاعر والفيلسوف والمفكر والفارس وحكيم عصره لم يكن يعتز بنفسه عن غرور أجوف وتعصب أحمق، وإنما كان يرى أن طموحه لا تستوعبه أمة بأكملها، فحمله على كاهله مفاخراً بذاته، مستغرباً جهل أمته وتنكبها عن خوض معترك الحضارة، وهي مؤهلة لذلك، لأنها أمة حضارة لذلك قال: «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم»، ليحفزها على تجاوز حالات تأخرها ووهنها. إن المتنبي الشاعر لم يتكلف الشعر، وإنما كان الشعر مطواعاً بين جوانبه ووجدانه، لذلك جاءت قصائده على سجيتها، لأنه لا يعرف الصناعة الشعرية، وإنما الشعر عنده «عطاء إبداع وابتكار وتجديد وفن راسخ الجذور في أعماق كل شاعر صادق مرهف الإحساس» وشعره جاء من صفاء الشاعرية المتفردة بإستيعابها مفردات الواقع وتطلعاته وضروراته، لذلك كان كبيراً لدى الشعراء الكبار قبل قارئيه وناقديه ومحبي شعره.. ما قرأ شاعر شعره إلا ووجد المتنبي «ملكاً متوجاً» على هامة الشعر العربي، ووجده فريداً بين جميع الشعراء متميزاً عنهم، إن لم يكن معلمهم الأوحد.. فقد كان رجلاً لذلك الزمان وصار فعلاً رجلاً لهذا الزمان وشاعراً لهذا الزمان، ولم يختر هذه المرتبة، وإنما اختارته هي لما امتاز به من صفات أهلته لها.. أبو الطيب المتنبي في ذكراه هو من تستحق أن تحتفل به أمة بكاملها، وأمم معها.. هو بالنسبة للأمة رمز من رموز كرامة الأمة ووهجها الفكري والأدبي ورمز من رموز وجودها ومصيرها، وحضورها التاريخي العظيم.. إنه المتنبي شاعر لهذا الزمان.. رجل لهذا الزمان.. ما من شاعر لم يسق شعره في مساق شعر المتنبي، وما من أديب حقيقي لم تأخذ بتلابيب مشاعره ترنيمات المتنبي.. ذلك القائل «لا بقومي شُرِّفت بل شّرِّفوا بي: وبنفسي فخرت لا بجدودي»، إن همة المتنبي كانت كبيرة وعظيمة بعظم تطلعه إلى الأجمل والأروع في الحياة، لكنه جاء في زمن لم يُوافقه بخطوطه، وفي أمة كانت قد بدأت تتراجع عن مسارها الحضاري الصائب.. مما زاد المتنبي حسرة في فؤاده لم يداوها دواء، فحاول غرس الأمل في نفسه، وفيمن حوله، أحس أن واجباً ينتظره، ويجب تقديمه في سبيل أمة آمن أنها لا بد وأن تتخلص من تراجعاتها وضعفها، وليس ما يمكن تقديمه غير الكلمة الشاعره، فوظف شعره في هذا المساق، واعطى ما لم يعط غيره، وبما ضن به سواه، فكان شعره أبدع ما قيل شعراً، لأنه تجاوز زمنه إلى أزمنة تالية، فكان بحق شاعر الماضي والحاضر وبقي شاعراً طليعياً مستقبلياً برغم اختلاف رؤى الناس ومواقفهم منه، وظل الشاعر الأوحد في سباق الشعراء لواحة الخلود الأدبي الإبداعي العظيم تربع المتنبي على عرش الأدبي بإبداعه الأعظم فكان شعره خالداً تتلقفه الأجيال منبهرة بقوة بيانه وعظم وقعه وتأثيره، فوجدناه يؤجج النفوس بمنطقه العذب وبما يحمل شعره من بذور الديمومه.. وظل يتألق باستمرار كل ما سطره من أشعار هي أبلغ من كل الأشعار.. إن أمة العروبة والإسلام بحاجة لمن يماثله إبداعياً، أو يقارب مستواه نسبياً، وأمة تعجز عن الإتيان بشاعر كالمتنبي هي لا تعبر إلا عن ابتعادها عن تراثها.. هي أمة ضعيفة بثقافاتها وآدابها ولغتها وفصاحتها وبالأخير شاعريتها.. إذ يظل المتنبي ومن يقاربه في المستوى الشعري يمثلون تحدياً إبداعياً قائماً ومستمراً.. فمثلما كان المتنبي يمثل تحدياً حقيقياً وواقعياً في عصره فقد ظل هكذا نخلة شامخة بثمار العطاء في صحراء ورمال البلاد العربية بطولها وعرضها وبكثافتها الكبيرة.. وأخيراً يمكننا القول: لقد آن لأمة انجبت المتنبي أن تحتفي به، وبمن ينجز إنجازه الإبداعي في حياتها المعاصرة، فهذا على الأقل يبقى بعد رحيله غير معنون من أمة أحبها ولم تعطه ما تستحقه، إلا نزراً يسيراً من الوصف والنقد والإطناب.. لقد كان المتنبي ممن يعشقون الحرية بأبهى تجلياتها.. وقد كان أملاً مشرعاً نحو الآفاق الرحبه لحياة الإباء والكرامة مصداقاً للقول الشعري: همتي همة الملوك ونفسي نفس حرٍ ترى المذلة كفراً المتنبي كما قرأته شاعر لذلك الزمان البعيد، ولكنه أيضاً يبقى شاعر لهذا الزمان.