انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    إعلان البحرين يؤكد على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فورا    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تمييز وعنصرية.. اهتمام حوثي بالجرحى المنتمين للسلالة وترك الآخرين للموت    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    الرئيس العليمي: مليشيات الحوثي تواصل الهروب من استحقاق السلام ودفع روات الموظفين إلى خيار الحرب    موقف بطولي.. مواطنون يواجهون قياديًا حوثيًا ومسلحيه خلال محاولته نهب أرضية أحدهم.. ومشرف المليشيات يلوذ بالفرار    إصابة مواطن ونجله جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات شمال لحج    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    أسباب أزمة الخدمات في عدن... مالية أم سياسية؟؟!!    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    من يقتل شعب الجنوب اليوم لن يسلمه خارطة طريق غدآ    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    أوقفوا هذا العار.. إعلان إسرائيلي غاضب ضد ''توكل كرمان'' بسبب تصريحاتها الجريئة عن حرب غزة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    هل تتجه المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد؟ كاتب صحفي يكشف ان اليمن مفتاح اللغز    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    نجل قيادي حوثي يعتدي على مواطن في إب ويحاول ابتزازه    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962الحلق31
نشر في الجمهورية يوم 04 - 10 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
أما الإرياني فله رواية أخرى حيث كان يقول: إنهم عادوا للاتصال ببعض قيادات الأحرار بعد أن ابتعدوا عن ذكريات مشانق عام 5591، وذكر منهم الشيخ عبدالواسع نعمان، والشيخ الشهيد حميد الأحمر، والشيخ سنحان أبو لحوم وإنهم تدارسوا الموقف والأوضاع التي تزداد تدهوراً وكان الإمام قد ربط كل شيء بشخصه، واحتجب بفعل تعاطي«المورفين» وإنهم قد توصلوا إلى وضع برنامج عمل وطني، تم إرساله إلى مجموعة«إب»، ومجموعة صنعاء، ومجموعة الحديدة، ومجموعة القاهرة، ولم يذكر عدن، كما لم يذكر إن كان قد تم الاتفاق على هذا البرنامج أم لا. والأغلب أن مثل هذا الاتفاق لم يحدث.
واستعادت مجموعة صنعاء بعض حيويتها، حيث عاد الأحرار للتواصل، وقد عرف من بينهم القاضي عبدالسلام صبرة، عبدالله السلال، وحسن العمري، ومحمد علي عثمان، وعبدالله الضبي وعدد قليل من الشيوخ الأحرار. وفي هذه الفترة تحدث الخطري عن منظمة أسماها«الجمعية الثورية الوطنية الديمقراطية» كما تحدث عن أهدافها ومبادئها، إلا أن معاصري الخطري، ومنهم الإرياني، وعبدالغني مطهر لم يكتبوا شيئاً عنها، ولكنهم لم ينكروا وجودها وإذا أخذنا في الاعتبار ماذكره الإرياني عن برنامج العمل الوطني، فالأغلب أن الخطري والإرياني يتحدثان عن شيء واحد لأنه في الحقيقة فإن أحداً لم يدع من قبل أو من بعد إنجاز مثل هذا التصور«البرنامج» وخواطر الخطري للأسف الشديد ينقصها التأصيل، وذكر المراجع وضبط الأحداث زماناً ومكاناً إلا أن قيمتها تبقى كبيرة في غياب وثائق أخرى.
تبنت الجمعية الثورية الوطنية الديمقراطية ستة أهداف هي:
1- إزالة الحكم الملكي.
2- إقامة حكم جمهوري ديمقراطي، عادل ، يضمن للشعب حقوقه وحريته.
3- تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وتذويب الفوارق والنزعات التي أوجدها الحكم الملكي.
4- بناء جيش قوي لحماية البلاد، ولضمان سيادتها واستقلالها.
5- تأسيس تنظيم شعبي يضم كل الفئات السياسية.
6- الصداقة مع جميع دول العالم، وعدم الانحياز، والتمسك بمبادئ الأمم المتحدة، وقرارات مؤتمر«باندونج».
والمفاهيم والمصطلحات التي استخدمها الخطري هنا، مما هو شائع في تلك المرحلة، وقد عرفنا أن أحرار اليمن كانوا متأثرين فكرياً وسياسياً بالمنظمات القومية العربية، وبالبرنامج السياسي لثورة يوليو 2591، إلا أن ترتيبها على هذا النحو يثير بعض الشكوك، لتطابق هذا الترتيب تقريباً مع أهداف ومبادئ تنظيم الضباط الأحرار الذي نشأ بعد ذلك بسنتين، علماً أن الخطري لم يسجل مذكراته إلا في وقت لاحق.
كما تحدث الخطري بعد ذلك عن لجان قيادية للجمعية الثورية قال أنها عاهدت الله، والوطن على تحمل عبء المسئولية للتخلص من الإمام أحمد وأسرته ومن الواضح أن بعض هذه الأسماء وردت لدى عبدالغني والإرياني، وبعضها لم ترد، مما يوحي بأن مستوى التنظيم لدى الأحرار حتى ذلك الحين«مطلع 8591» كان ضعيفاً، أو ربما في مراحله الأولى إلا أنه رغم بعض الشكوك فإن الخطري كان الوحيد الذي قدم معلومات قيمة عن رموز هذه المرحلة، أو على الأقل هو الوحيد الذي عثرنا لديه عن معلومات تبدو قيمة بهذا الشأن ليس فقط من النواحي التنظيمية والسياسية، بل ومن النواحي الفكرية والسياسية.
ولاشك أن شيئاً من التأثير الإيجابي قد أصاب حركة الأحرار بانضمام اليمن إلى الوحدة العربية في مارس 8591، فالمشاعر القومية قد سمعت وشاعت في كل مكان من الوطن العربي، وقد اقتربت اليمن من مساحة الوحدة العربية، ومن تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وكان طبيعياً أن ينعكس هذا على أنشطة وفعاليات الأحرار في اليمن، وخارج اليمن ، وهم الذين خبروا بالتجربة، أن النظام إنما كان يراوغ بركوب تيار الوحدة، حتى يتجنب آثارها محلياً وقومياً. كان حماس الأحرار لاتحاد اليمن مع الجمهورية العربية المتحدة فياضاً، وقد حاولوا تدعيم ومساندة البدر في سعيه القومي، أمام والده ذلك العجوز الماكر.
ويبدو أنهم قد عادوا تنظيم صفوفهم، وبدأوا يعقدون اجتماعات لدراسة الحالة في اليمن، ويضعون تصوراتهم للمستقبل، وكانوا على اتصال ببعضهم البعض ولأنهم كانوا ينظرون باهتمام إلى الموقف المصري من كل خطوة كانوا يفكرون القيام بها، فقد أبلغوا القيادة المصرية برغبتهم وتخطيطهم لحركة تطيح بالنظام الإمامي بكليته تماماً، وإقامة نظام جمهوري، وقد اتفقوا على تشكيل حكومة، ربما تشبه في مهامها مجلس قيادة الثورة في مصر، أو مجلس السيادة والوزراء في العراق-بعد الثورة- وقد رشحوا لمنصب رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الإرياني ، عضو الهيئة الشرعية في تعز، والذي كان عضواً أساسياً في محادثات الاتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة واليمن، وكان تقييمهم للإرياني إنه الأكثر قدرة على تحمل المسئولية وهو رجل مستنير، وأحد أبرز قيادات الأحرار التقليدية، وذو سمعة طيبة بين الناس ، وإلى جانبه هناك اتفاق على تشكيل مجلس سيادة من عشرين من الشخصيات الوطنية البارزة، ومن رجال وشيوخ القبائل، وقيل إن وجود هؤلاء في تشكيلات السلطة الجديدة في غاية الأهمية وإن رضاهم وضمان تأييدهم لأية خطوة سيمثل عاملاً من عوامل النجاح للنظام الجديد.
وكان سنان أبو لحوم،الذي عاصر المرحلة، وكان عنصراً بارزاً في الأحداث التي جرت لاحقاً، قد أشار إلى شيء من هذا القبيل، بل وقدم معلومات تفصيلية، تؤكد طبيعة التوجيهات السائدة في الوسط الوطني في السنوات الأخيرة من الخمسينات فهو أشار إلى اتجاهين: اتجاه يتصور النظام الجديد جمهوري، على غرار ماجرى في مصر، وهذا الاتجاه كان يقترح تكوين مجلس قيادة، ومجلس رئاسة من شخصيات اعتبارية، ومجلس وزراء من الكفاءات الوطنية، وفي هذا فهو يتفق مع ماورد من معلومات سابقة أما الاتجاه الآخر حسب قوله، فقد رأى ضرورة التغيير ولكنه رأى تغيير إمام بإمام أفضل منه، وعند هذا الاتجاه كان الحسن بن علي هو الأفضل من بين أفراد الأسرة المالكة، فهو مستنير وقريب من الأحرار ولديه الحماس لتحديث الدولة.
وكان الأحرار قد لاحظوا على البدر، برغم نواياه الطيبة وتوجهاته القومية، ضعفه أمام أبيه الإمام، وانكفاءه على نفسه بعد توقيع معاهدة الاتحاد مع مصر لأن والده لم يكن راضياً على بعض موادها كما إنهم كانوا يتهمونه ببعض حالات الفساد، تماماً كما يفعل أفراد الأسرة المالكة الآخرون.
وقد يخطر بالبال مادمنا مع«الخطري» أن جمعيته هي أول من أثار قضية إزالة النظام الملكي كلية، وإقامة نظام جمهوري على أنقاضه وهذا غير صحيح ففكرة الجمهورية كانت في الواقع قد راودت طلائع الأحرار الأول، عندما أثيرت قضية ولاية العهد في أيام الإمام يحيى ولأن ولاية العهد مما لايتفق مع أصول المذهب الزيدي، فقد رأى من هم الأجدر لمنصب الإمامة أن مبايعة أحمد ولياً للعهد يقطع عليهم الطريق، فاجتمعوا وكان من بين المجتمعين عبدالله الوزير«الإمام الدستوري» وعلي الوزير أمير لواء تعز سابقاً، وقد اقترح الأخير فكرة النظام الجمهوري، ولم تكن الجمهورية حينها في نهاية الثلاثينات نظاماً شائعاً، وكان دعاتها في ذلك الحين ينظر إليهم كملحدين وزنادقة فهل كانت فكرة الجمهورية عند علي الوزير لقناعة بأنها المخرج المناسب لأزمة الحكم في اليمن أم لأنه كان «أعور» وفي المذهب الزيدي فإن من شروط الإمامة، أن يكون الإمام سليم الحواس والأطراف، ولهذا كان يعرف أن الإمامة لن تؤول إليه، رغم أنه يحوز على بقية شروطها أو يكاد.
في الواقع ليست هناك إجابة على هذا السؤال، لكن المؤكد أن الغالبية من قيادات ثورة 8491، من الأحرار ومن رموز الأسر المعارضة، كانوا يرون يومئذ أن الظروف وطبيعة البلاد لاتسمح بالانتقال من الإمامة إلى الجمهورية، وكذلك لغياب الوعي عند الغالبية العظمى من الشعب، بهذه المسألة، وكان يمثل هذا الاتجاه الشهيد الكبسي، الذي أصبح نائباً لرئيس ووزير خارجية حكومة عبدالله الوزير، فقد كان يردد أن الجمهورية لم تهضم حتى في البلدان العربية المتقدمة،التي مرت بمراحل كثيرة، وذاقت مرارة الاستعمار، وأخذت قسطاً من الثقافة ومن ثم فإن إبدال إمام بإمام«دستوري» يعمل لصالح البلاد والعباد، هي الخطوة الأولى التي لابد منها. وهو رأي يتسم بقدر من الموضوعية فالعبرة ليست بالملكية أو الجمهورية، وإنما بالأساس الدستوري للنظام المقترح.
وبعد فشل الانقلاب الدستوري، وقد أصبح بعض قادة الانقلاب في رحاب الله، وغدا البعض الآخر في سجون حجة، ومنهم زعيم الأحرار النعمان، والسلال، والإرياني وصبرة ، والمروني، ومحمد أحمدالسياغي، والفسيل، وعلي ناصر العنسي، والمعلمي، طرح عليهم محمد أحمد نعمان. في يوليو 3591 سؤالاً أثار كثيراً من الاهتمام، وجلب معه عديداً من الإجابات كان مضمون السؤال: كيف يتصور قادة المعارضة الآفاق المستقبلية لليمن؟ وكيف يمكن تغيير الوضع القائم؟ ورد على سؤال النعمان كل من أحمد النعمان والإرياني والسلال وبقية المعتقلين الذين تسلموا صيغة السؤال، وجرى بينهم حوار وكانت معظم الإجابات واحدة في مضمونها، وهي إنه ليس أمام«الأمة» غير إصلاح النظام من داخله، بما يعينه ذلك من الحفاظ على الإمامة، كنظام حكم يتناسب وطبيعة الوضع في اليمن، ماعدا إجابتين:
الإجابة الأولى وكانت غريبة بعض الشيء، وكان صاحبها القاضي عبدالرحمن الإرياني وجوهر إجابته هو«أن يركز الأحرار والمهاجرون جهودهم في العمل على اتخاذ القسم الأسفل مركزاً للحركة، بناءً على أنهم سيجدونهم ملبين لدعوتهم«السكان» ويتزعم الحركة زعيم يمني شافعي أو زيدي،على أن يكون من غير الأسر العلوية. وينادى به زعيماً أوقائداً أو نحو هذا، بعد أن يتفق الأحرار من القسمين ويتفاهموا على اتخاذ القسم الأسفل قاعدة للحركة إلى أن يتم إرغام القسم الأعلى على قبول الوضع الجديد وإذا استمرت الزعامة مدة من الزمن بغير«علوي» ألف الناس ذلك، وفهموا أنه من الممكن أن يقوم بالأمر غير المتألهين الذين ألفوا أن يعبدوا، وإذا تم الاستيلاء على القسم الأسفل على أساس أنه وسيلة أو بتعبير أصح مقدمة لإخضاع القسم الأعلى باتفاق بين الأحرار.. فإنه سيغنينا عن تنصيب أحد الأصنام(إماماً).»وحجة الإرياني في ذلك هو «تمسك القسم الأعلى عامتهم وخاصتهم إلا النذر القليل من المتنورين بالخلافة الهاشمية، واعتقادهم الجازم أنه لايجوز أن يتولى الحكم غير سيد علوي فاطمي، والعمل على إقناعهم يحتاج إلى مدة طويلة، وظروف ملائمة فيها كثير من الحرية» وهذا في نظره غيرمتاح الآن، ولن يتاح في المستقبل القريب.
وطبعاً رفض معظم قادة الحركة وجهة نظرالإرياني، وهو نفسه فيمابعد تخلى عنها وكان رفض القادة لهذه الفكرة قد قام على مخاوف من أن ذلك قد يحدث انفصالاً بين اليمن الشافعي، واليمن الزيدي لاتعود بعده اليمن شمالاً دولة موحدة بعد ذلك وقد أثبتت الأيام، صحة موقف القادة، وخطل موقف ورؤية الإرياني وأكثر من ذلك كما يبدو للباحث أن الثورة والجمهورية إنما قامت، وصمدت أمام العواصف لأن قسماً كبيراً من سكان الشمال الزيدي قد شاركوافي صنعها وفي الدفاع عنها ولو حصل العكس، فإن فشل الثورة سيكون أمراً متوقعاً، وربما كان حتمياً.
الإجابة الثانية: وهي أيضاً إجابة مميزة، لأنها اخترقت كل الحجب وتجاوزت كل الأطروحات في جرأة غير معهودة، وقدمت جديداً كان صاحب هذه الرؤية محمد أحمد السياغي الذي قال: «إن خير نوع من الحكم الحاضر هو الحكم الجمهوري، الذي يباشر الشعب الحكم فيه بنفسه ولكن العقبات كما يقول كثيرة فلم تبلغ أمتنا الحد الذي تستسيغ معه الحكم الجمهوري،ولا الحد الذي يهضم النظام الجمهوري طفرة وسنة التطور تقضي بالتدرج من نظام إلى نظام حتى تستقر على نظام ثابت، فأولاً الحكم الدستوري المبني على الشورى برئاسة شخصية هاشمية ولو هزيلة، ليشترك الشعب في الحكم بنفسه، فيقضي أثناء هذا الحكم على التقاليد البالية، وعلى الجمود والخمول، ويعرف اليمني فيه قيمة نفسه، ونقضي على الحكم الفردي ولو في ظل الدستور الشوروي، ويفرض الشعب نفسه الحكم الجمهوري».
كان رأياً متقدماً لأن أياً من منظمات الأحرار، وأياً من زعماء الأحرار بمن فيهم الزبيري والنعمان، لم يعلنوا في يوم من الأيام سعيهم إلى إزالة الملكية في اليمن، وإقامة النظام الجمهوري، حتى على مراحل كما أشار السياغي، وعندما فشل الانقلاب العسكري في 5591 وحدث ما حدث لبعض قياداتهم. تلقى الأحرار صدمة في تفكيرهم السياسي وتوجهاتهم الوطنية وبدت أفكارهم في الإصلاح أقل بريقاً مما كانت عليه خصوصاً وقد تمكنت جمهورية مصر الفتية من تثبيت أقدامها، وحققت الحركة الوطنية في أكثر من قطر عربي تقدماً، تحت تأثير مختلف التيارات الثورية العالمية التحررية.
ومصدر هذه الصدمة الأول، هي أنهم قد شعروا أن مقتل الإمام يحيى، وهو رمز العقيدة، قد أثار عليهم الغالبية من سكان المناطق العليا في اليمن، وكان سبباً في فشل انقلاب 8491، وخلف لديهم إحساساً بالندم، والشعور العميق بالخطأ، وكان يحيى عالماً وفقيهاً وإماماً لمذهب الزيدية وفي انقلاب 5591 حاولوا أن يتجنبوا هذا الخطأ، فأبقوا على حياة الإمام أحمد، لكن أحمد عندما استعاد حكمه أعمل السيف في رقابهم فلم يفلحوا حينما اختاروا قتل الإمام، ولم يفلحوا حينما اختاروا الإبقاء على الإمام والحفاظ على حياته، ولاقبل هؤلاء الأئمة بالتزحزح قيد أنملة عن مواقعهم القديمة من مسألة التطور، في وقت كان العالم العربي قد تغيركثيراً، وتغير معه الوعي العربي العام، ونجحت الثورة المصرية أمام العواصف، وأصبحت فكرة الجمهورية في الممارسة السياسية العربية نموذجاً جديداً للنظم الحديثة.
لذلك نجد الشباب من الأحرار وقد تمردوا على نمط التفكير لدى الرعيل الأول من قادة الحزب، وتحرروا من تأثير الإمامة، وصنمية الإمامة التي خلفتها ممارسة سياسية دينية عمرها أكثر من ألف عام وفي توارث عجيب لفكر التحديث بين جيل وجيل طرح الشاب محمد أحمد نعمان فكرة الجمهورية من جديد، وكان عضواً بارزاً في الاتحاد اليمني في عدن«أميناً عاماً للاتحاد، ورئيساً للجنة الثقافية» وذلك قبل أن يتبنى هذه الفكرة زعيما الحركة النعمان والزبيري، وصاغ في 6591، وبكلمات جريئة وقوية واضحة فكرته عن الجمهورية وقال«نعم إنني أريدها جمهورية في بلادي، أريد أن ينتهي عهد التوارث للبشر في بلادي أريد أن يشعر الحاكم حقيقة لامجازاً أنه يخدم مواطنيه، وانه موظف لديهم لمدة محدودة، يعمل أجيراً لديهم في إدارة شئونهم العامة لا إلهاً متجبراً، يهب الحياة لمن يشاء ويطعم سيف«الوشاح» من يريد.».
لقد أخذت الفكرة طريقها إلى النخب السياسية، والمنظمات الاجتماعية، وتبنتها المنظمات القومية اليسارية، ووجد أحرار الداخل والخارج أنفسهم قد أدخلوا الفكرة في مكونات نشاطهم السياسي، ومن باب قول الحقيقة فإن أحرار الداخل كانوا أسبق إلى الفكرة من أحرار الخارج ربما بسبب المعاناة بل إن النعمان كان في الواقع أقرب إلى فكرة الإصلاح، ودعم البدر منه إلى الجمهورية حتى قبيل الثورة بوقت قصير.
وقد غذت صحف عدن فكرة الجمهورية، وكانت«فتاة الجزيرة» القريبة البعيدة عن النظام قد سمحت لعدد من الأقلام العدنية بتناول الفكرة، وإجراء المقارنة، وفي المقابل سمحت لأقلام أخرى بالدفاع عن الملكية، والنظام الإمامي وكذلك كان الحال بالنسبة للصحف الأخرى، وساعد على قبول الفكرة تخلف النظام ذاته، وانعزاليته وسطوته التي أطاحت بأعداد غير قليلة من المناضلين، والمفكرين، والأدباء، والمستنيرين في المجتمع وكانت عدن، الواقعة تحت الاحتلال البريطاني، نموذجاً للتحديث، بالرغم من هذه المفارقة التاريخية بين الاستقلال والحرية في الشمال من جانب والتحديث والاستعمار بل وبعض صور ديمقراطية من جانب آخر حتى أن بعض المسئولين وبعض أصحاب الرأي يكررون عبارة الأمين العام المساعد«رالف بانش» حول جريمة الاستعمار في أفريقيا وسوء حظ اليمن«المتوكلية» إنها لم تخضع لاستعمار غربي دون أن يجدوا في ذلك حرجاً سياسياً.
ثانياً: انتفاضة القبائل 8591-1691
(أ) سفر الإمام إلى روما
ابتداء من نهاية العام 7591 كانت كل الظواهر تشير إلى أن القبيلة تتجه نحو صدام نهائي مع الإمام، ولم تكن أحداث ديسمبر في صرواح وخولان وعمران، وقبلها في المفاليس سوى واحدة من هذه الحلقة المتصلة من الانتفاضات القبلية التي اشتعلت منذ ذلك التاريخ.. صحيح أن الإمام استطاع عبر الجيش، وعبر تأليب قبائل أخرى ضد القبائل المنتفضة- وبوسائل قمعية ووحشية أحياناً- أن يعيد هذه القبائل إلى حظيرة النظام، لكنه في نفس الوقت كان يخلق بسلوكه هذا بيئة خصبة لاستمرار المقاومة، فمع كل قتيل، وكل جريح، وكل بيت يهدم تزداد صفوف المعارضة والمقاومة اتساعاً وشمولاً، وتدخل مناطق جديدة في هذا الصراع لم تكن كذلك قبلاً.
كان بعض شيوخ القبائل قد فروا إلى عدن، وكان البعض الآخر لايزال يكابد ويعاني، ويشعر بالمرارة لأنه لم يعد قادراً على فعل شيء وهو يرى أهله وأقاربه يعانون ويلات النظام، وظلمه وعسفه الذي طال الصغير والكبير وإن النظام الذي خلق بمؤازرة وتأييد القبيلة، وبقي مستمراً على مدى طويل يدعمها ويساندها، هذا النظام أصبح في عهد الإمام أحمد أكثر عهود الإمامة قسوة وعنفاً ضد القبيلة لذلك اتجه تفكير بعض شيوخ القبيلة- وهذا البعض كان متهماً- إلى البحث عن طريقة يخففون بها آلامهم، ويتخلصون من رأس السلطة وكانت فكرة اغتيال الإمام أحمد هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامهم وبالطبع فإن هذا التفكير في ذلك الحين لم يتجاوز هذه الحدود أي أن شيوخ القبائل لم يطرحوا في مخططاتهم فكرة التخلص من النظام الإمامي كلية لقد فكروا في كيفية استبدال إمام بإمام وتغيير صنم بصنم آخر، حيث لهذا الصنم مكانته في منظومة العقيدة الزيدية ومع ذلك فإن فكرة الجمهورية قد أخذت تدنو رويداً رويداً من وعي هؤلاء الشيوخ، والشباب منهم على وجه خاص، حيث الحماس أكبر للإصلاح والتطوير، واللحاق بركب الحضارة العربية والعالمية.
ويدرك هؤلاء الشيوخ، أو هم أدركوا بالتجربة أن القيام بحركة شاملة تطيح بالإمام أحمد كما حدث في عام 5591 من الصعوبة بمكان، ونتائج مثل هذه التجربة المريرة مازالت ماثلة أمامهم فلدى الإمام جيشه، وحرسه، وجواسيسه، وأنصاره، وهو من الذكاء والخبرة بحيث يمكنه بالمراوغة والمداهنة وممارسة العنف أن يتفادى وصول الوضع في مملكته إلى هذا المستوى، وإن كان ذلك بالنسبة لقوى المعارضة الوطنية أملاً وهدفاً كانت تسعى إليه كما إنهم كانوا على يقين أيضاً بأن عملاً كهذا ، إذا ماأتيحت للقائمين عليه فرصة تحقيقه، وتهيأت لهم ظروف مناسبة للخوض فيه، فإنه حتماً يتطلب وقتاً طويلاً من الإعداد والتهيئة قبل القيام به، وكان الخوف يتملكهم في أن تتمكن أجهزة الإمام من اختراق تجمعاتهم التي كانوا يعقدونها مع قادة الأحرار، ولم يعد أمامهم سوى المضي في خطة الاغتيال.
كان أكثرهم حماساً للتخلص من الإمام أحمد الشيخ حسين بن ناصر الأحمر، والشيخ قاسم حسن أبو راس، وسنان أبو لحوم، وغيرهم ، ومن بين اقتراحات عديدة اختار الشيوخ وإلى جانبهم عبدالرحمن الإرياني ، وعبدالغني مطهر من الأحرار اختاروا قصر الإمام، ثم مطار تعز، كمسرح لعمليتهم التي تشبه الأعمال الفدائية اليوم، ولكن خطتهم في القضاء على الإمام في قصره لم تنجح، وأخفقت في القضاء عليه في مطار تعز أيضاً وكان من بين أسباب الإخفاق والفشل سوء التخطيط، وبعض المصادفات غير المتوقعة، وكذلك الخيانة.
وقد تحدث علي أبو لحوم، أحد الناشطين في هذا التجمع عن واحدة من هذه المحاولات قائلاً: إنه في فبراير 9591 جاء النقيب زيد الأهفل إلى صنعاء حاملاً معه رسالة من قاسم أبو راس، يطلب فيها دعوتي وآخرين إلى تعز، وعند وصولي إلى تعز اتضح أن هناك خطة مقترحة لاغتيال الإمام أحمد، اشتركت في مناقشتها بحضور القاضي عبدالرحمن الإرياني، والشيخ حسين الأحمر، وقاسم أبو راس، وعبدالغني مطهر، وكلف أبو راس بقيادة المجموعة لتنفيذ المحاولة، لكن خيوط الخطة تسربت إلى الإمام فنصح الإرياني الشيوخ«الأحمر، وأبو راس وأنا» بمغادرة تعز سريعاً، وفشلت الخطة.
ولان قاسم أبو راس كان الشعلة المتقدة لهذا التجمع القبلي، فهو أكثر عناصره ديناميكية وحركة، فقد فجعت هذه المجموعة بمقتل أبو راس مسموماً في منطقة«ذي سفال» في 22 مايو 9591، واعتبرت غيابه خسارة كبيرة للحركة.
لقد فشلت محاولات أخيه أمين أبو راس، وكان هو الآخر من رموز المعارضة القبلية الإصلاحية من إنقاذه، وتلكأ البدر في اسعافه،وكأنما تأكد للأب الإمام والابن ولي العهد أن قتل أبو راس يحقق لهم شيئاً من الطمأنينة، بعد أن أفزعتهم المعلومات التي حصلوا عليها، وكانت تشير إلى مكانة أبو راس في هذا المخطط وبموت أبو راس فقدت المقاومة القبلية وحركة الأحرار رمزاً من رموزها، وأصاب الشيخ الأحمر، القطب الثاني في هذا التجمع، فقد بكاه بكاء يثير العواطف، وكأنما كان يبكي أحد أولاده وهذه الحالة ليست على علاقة بتلك المشاعر القبلية التي سيطرت على عقول الناس وأحاسيسهم على مدى طويل من الصراع القبلي، كان الشيخان فيهما على طرفي نقيض، إنها مشاعر الإخوة والعمل المشترك، سمت فوق كل مشاعر أخرى، وكانت بداية لمشاعر وطنية أكثر سمواً في المستقبل.
وفي هذه الفترة اعتلت صحة الإمام، وبلغ من إدمانه المورفين حد المرض وقل نشاطه، وكان يمسك بيده السلطات، فتوقفت مصالح الدولة، ونصحه الأطباء بالسفر إلى«روما» للعلاج قبل أن يفقد حياته، وتردد الإمام قبل أن يقرر الأخذ برأي الأطباء، خصوصاً وأن إحدى طائراته«شبام» قد سقطت وهي في طريقها من روما إلى رومانيا، ولقي محمد عبدالرحمن الشامي، مدير عام الخارجية اليمنية وهو ابن أخت الإمام حتفه، كما ذهب ضحية الحادث محمد حسن الشامي،وشاب سوري يدعى محمد نور الدين، وطبيبان رومانيان، وطيار يوغسلافي.
وكانت مصر قد وضعت اليخت«الحرية» تحت تصرف الإمام، إلا أن الإمام عرف أن هذا اليخت هو نفسه الذي استخدم في نقل الملك فاروق وأسرته من مصر إلى منفاه الأخير، فأثار ذلك مزيداً من الحذر والتشاؤم وكان الاعتقاد قد ساد أن الإمام لن يغادر اليمن قبل أن يحضر الاحتفالات السنوية بعيد النصر، والذي يصادف هذا العام 72 نوفمبر 8591، والواقع أن الإمام أحمد لم يكن يهتم كثيراً بمثل هذه الأمور، فقد كانت هذه الاحتفالات تجرى وهو في صحة جيدة، وكان يكلف البدر بحضورها نيابة عنه، في الأغلب، أن الإمام أراد أن يطمئن على حالة اليمن في ظل الاتحاد الجديد مع الجمهورية العربية المتحدة، فقد كان يقلقه اندفاع البدر إلى الوحدة، واهتمام عبدالناصر باليمن ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الإمام كان حريصاً أن يغادر اليمن ، والحدود اليمنية مع عدن والمحميات في حالة من الهدوء ، ويبدو أنه قد عمل لذلك ، ففي هذه الفترة كانت حوادث الحدود قد تراجعت ، وإن لم تنته تماماً إضافة إلى ماكان يستشعره من مخاطر لاتهدد حياته فقط بل تهدد النظام برمته.
في 61 ابريل 95م سافر الإمام إلى روما بطريق الجو ، وسرعان ماتبعه إلى هناك اخوه الحسن ، الذي كان يشغل منصب مندوب اليمن في الأمم المتحدة ،وقد استحسن الامريكان ذهاب الحسن إلى هناك ، باعتباره رجلهم في اليمن ،ووجوده إلى جانب الإمام ربما ساعد على اقناعه بأهمية وفائدة تحسين وتطوير علاقاته معهم ، أو على الأقل منعه من الإقدام على مزيد من الخطوات تجاه مصر والمعسكر الاشتراكي.
كانت رحلة الإمام إلى روما مادة دسمة للصحافة الايطالية والغربية ، وقد ركزت هذه الصحافة على ماهو مثير في رحلة «العاهل الاقطاعي» الذي نقلهم في مشهد حي إلى سنوات العصور الوسطى ،كان في رفقته حاشية تبلغ عددها نحو مائة من أفراد عائلته معظمهم من النساء ، فلاحقتهم الصحافة في الفنادق التي نزلوا فيها ، وغامر بعض الصحفيين ليحصل على معلومة تثير اهتمام القارئ الغربي ، إلا أن الصحافة الغربية والإيطالية على وجه الخصوص لم تركز كثيراً على وجود سياسيين في وفد الإمام وحاشيته ، كان من بينهم عبدالرحمن الارياني ، وآخرين حرص الإمام على اصطحابهم معه لخشيته من بقائهم في اليمن في غيابه ، ولم يكن الإمام في واقع الأمر مخطئاً ، لأن الارياني وزملاءه كانوا حينها يفكرون ويعملون بدأب للتخلص من الإمام أحمد ، إلا أن تقديره للوضع في بلاده لم يكن دقيقاً ، وكان البرلمان الايطالي قد دعا حاشية الإمام لحضور مناقشات أعضاء مجلس النواب الايطالي ، ولاشك أن هذا الحضور كان مثيراً للطرفين.
وبمجرد وصول الإمام إلى دولة ايطاليا صديقته وصديقة أبيه من قبل ، بدأت المشاكل تطل برأسها في بلده الصغير والمنعزل ، لقد أناب الإمام عنه ولي عهده الأمير محمود البدر ، ليمنحه فرصة إدارة البلاد في غيابه ، وكان البدر وقد لاحظ مرض أبيه يرنو إلى هذه التجربة ليثبت أهليته للمسئولية التي ألقيت على عاتقه ، وكان عليه ليس فقط أن يثبت قدرته على ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار ،كما كان يفعل والده ،ولكن عليه أن يثبت لانصاره في الداخل من الأحرار ، وأصدقائه في الجمهورية العربية المتحدة إنه قادر على تحقيق ماوعد من إصلاحات وأهداف وطنية وقومية.
وراح على الفور ينفذ ماعرف لدى المؤرخين «بإصلاحات البدر» فأصدر يوم 62 مايو 95م رسوماً ملكياً بتأليف «مجلس نيابي» للاشراف على الشئون الإدارية في البلاد ،وعين لرئاسته القاضي أحمد أبراهيم السياغي ، وعضوية كل من أحمد بن عبدالرحمن وعبدالله محمد الارياني ،ومحمد بن أحمد المطهر ، ومطهر بن يحيى ، وعلي بن أحمد الجنداري ، وحسين بن أحمد الجنداري ، ومعظمهم قضاة ،وحدد للمجلس صلاحياته المباشرة ، واستدعى من مصر خبراء في الشئون الاقتصادية والثقافية والقانونية ، وطلب منهم تقديم المقترحات بالمشروعات التي من شأنها انعاش الحالة في اليمن ، وجعل البدر مهمة اصلاح الوضع في الجيش مهمة عاجلة ، فأعلن عن زيادة في مرتبات الجنود والضباط بواقع 52% من مرتباتهم وقد أحدث ذلك شيئاً من الارتياح لدى المؤسسة العسكرية ،ومن المؤكد أنه كان يريد كسب الجيش إلى صفه ، في وقت تصاعدت فيه خلافاته مع القوى المحافظة التي كان عمه الحسن الحاضر الغائب وبعض أفراد الأسرة الحاكمة ورجال الدين يمثلونها ، وقد شجع هذا القرار أفراد الجيش للمطالبة بمزيد من الإصلاحات.
كان قراره زيادة مرتبات الجنود فيه قدراً من التعجل في الواقع كانت خزائن الدولة فارغة إلا من القليل من المال الذي لايكاد يكفي المصروفات الفعلية ،وكيف وقد حدثت الزيادة ،كما اتخذ قراراً بتأسيس كلية حربية ،وقرر أن يجلب إليها مدرسين من مصر الصديقة ،وقد استجابت الجمهورية العربية المتحدة لطلبه ، وبعثت إليه بالمزيد من الضباط من مختلف التخصصات بما فيها التدريب على الطيران ،وكان زيادة عدد المصريين يثير لدى أفراد من الأسرة الحاكمة والقوى المحافظة عموماً الخوف والقلق من المستقبل ، فهؤلاء المصريون يأتون وهم يحملون أفكاراً تقدمية ومتحررة ،وينقلون هذه الأفكار بصورة أو بأخرى إلى المجتمع اليمني ، وبعد ذلك أخذ يطلب المزيد من الخبرات المصرية في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والتسويق والقانون وغيرها ، لدرجة أنه أعلن عن مجانية التعليم ومحاربة الفساد ،وهي افكار جريئة كان من الصعب تقبلها.
وبدأ بخطوات مباشرة لإصلاح الجهاز الإداري والقضائي،فعين عمالاً في الأقضية والنواحي ممن يثق فيهم ، كما عزل آخرين من بينهم عامل صنعاء أحمد حسين العمري ،وعين مكانه قاسم بن ابراهيم ، فخلقت هذه التعيينات حالة من التنافس الشديد بين الأسرة المنفذة ،بين رافض لاجراءات البدر وقابل لها ،كما قرب الأحرار إلى جانبه.
ومن بين هؤلاء السلال الذي عينه قائداً لحرسه ، وكلفه بتشكيل لواء عرف «بلواء البدر» أو بفوج البدر ، وعند تشكيل هذا الفوج أدخل البدر إليه افراداً كان الإمام قد سرحهم من الخدمة العسكرية وكانوا ضمن لواء «القناصة» ولواء «النامونة».
وسمح باذاعة الأغاني العاطفية في اذاعة صنعاء ،وكانت هذه هي المرة الأولى منذ نشوء الدولة المتوكلية التي تسمع فيها الموسيقى الطربية ، وأغاني أم كثلوم ،وعبدالوهاب ، وفريد الاطرش ، وقد تذكر بعضهم ماقاله «عزيز الثعالبي» عندما زار اليمن في عام 4391م فقد قال متسائلاً: كيف يمكن أن ينهض اليمن ، وفيه أمة لاتطرب ، ذلك أن الطرب كان حراماً وكان الغناء حراماً ، وكان الفرح حراماً ، وقرار مثل هذا تحكمت فيه الأساطير والخرافات ، والتقاليد البالية ، وشكلت حيزاً كبيراً في ثقافة العامة يعد قراراً جريئاً ، ومخالفاً لما كان سائداً في وجود أبيه.
وكان تأثير الأحرار على البدر واضحاً ، فقد كونوا طاقمه الذي يعمل مباشرة معه وكانوا جلساءه وندماءه ، وصاغوا خطبه وتصريحاته ، كقوله «إن الماضي خلف لنا تراثاً فاسداً ،وكنت أنا ضحية هذا الفساد ،وكان الماضي حجر عثرة في طريق تقدمنا ، ولكنني مصمم على أن احطم جميع العواصف لأنني لم أعش داخل الجحور.. إنني لا أرمي إلى بناء عائلة أو أسرة ، ولكني أنوي أن أبني أمة...» وكانت هذه الخطب تضاعف حماس المؤيدين والأنصار ، وتزيد من حلف المخالفين والخصوم.
ووعد البدر الجماهير بالمزيد من الخطوات الإصلاحية في مختلف المجالات وللتسريع بخطواته الإصلاحية طلب من الجمهورية العربية المتحدة قرضاً بعشرة ملايين جنية مصري لانشاء بنك حديث في الحديدة ، ولم يكن في اليمن حينها سوى فرع البنك الأهلي التجاري السعودي ،وربما بعض الوكالات التجارية الأجنبية التي مارست اعمالاً مالية إلى جانب نشاطها التجاري ،وكانت هناك ضرورة ملحة لوجود مثل هذا البنك باعتباره وسيلة واداة لانعاش اقتصاد راكد ومتخلف ،وقد استند في طلبه هذا إلى اتفاق سابق كان قد تم التوقيع عليه بين اليمن والجمهورية العربية المتحدة ضمن اتفاقيات اتحاد الدول العربية ،كما وعد بالقضاء على الرشوة والفساد في أكثر من خطبة من خطبه الحماسية.
ولتأكيد مواقفه الوطنية والقومية شن البدر هجوماً على القوى الاستعمارية وانصارها في اليمن ،وكان بذلك يشير إلى خصومه من الأسرة المالكة وأنصار عمه الحسن والتي لاترى فيه أهلاً للأمانة والملك ، واتهمهم بعرقلة مشاريعه في النهوض بالشعب اليمني ، إلا أنه أعلن أكثر من مرة أنه سيمضي قدماً إلى الأمام وأن مواقفهم المناهضة واشاعاتهم المغرضة لن تثنيه عن تحقيق الأهداف التي وعد بها الناس ، أو التي وعد بها الجيش.
وفي الوقت الذي أكد فيه استعداده للتضحية من أجل تحرير الجنوب ، اتخذ قراراً بالحوار والتفاوض مع البريطانيين ،مؤكداً أن مواقف اليمن ازاء الاحتلال وازاء الحقوق اليمنية في الجنوب لم تتغير وحذر البريطانيين أنه في حالة فشل المفاوضات فإن اليمن ستحارب وأن اليمنيين رجال حرب وقتال ، وبالطبع فإن مثل هذه التصريحات كانت تصدر عن والده وكانت موجهة للاستهلاك المحلي وتهدئة الخواطر ، كما طالب وسائل الإعلام اليمنية والعربية بالكف عن استخدام مصطلح «الجنوب العربي» ودعاهم إلى استخدام مصطلح «الجنوب اليمني» باعتباره المصطلح الذي يتفق عليه اليمنيون كل اليمنيين ،ولم ينس تأكيد رؤيته القومية ،وقال «إن تيار القومية العربية لن يتوقف ، ودعا إلى دولة عربية واحدة ، ستفرض على العدو أن ينظر إليها نظرة إعجاب ، نظرة خوف وهيبة».
ثم أخذ يستقبل المهنئين والمبايعين الذين اقبلوا على مبايعته من مختلف الفئات الاجتماعية بما في ذلك أفراد الأسرة المالكة ذاتها ، وأعد لهذا الغرض نصاً قصيراً للمبايعة «نعاهد الله ونعاهدكم بارواحنا ودمائنا ، وبكل غال ورخيص أن نظل مخلصين لكم وتحت قيادتكم وقيادة مولانا الإمام» كما وجه نداء إلى قيادة الجيش ، وجميع الدوائر الحكومية ابلغهم فيه عزمه وتصميمه على تحسين الأداء الحكومي ، وطلب منهم المساعدة ومن اللافت للانتباه أن من بين البرقيات التي رغب اصحابها في التعبير عن مشاعرهم الودية تجاه البدر برقية من الأمير فيصل بن عبدالعزيز ،وزير الخارجية السعودية وعبدالخالق حسونه أمين جامعة الدول العربية.
وكما اتخذ قرارات ذات طابع ايجابي فقد أخذ قرارات سلبية ،فقدتصرف كما لو أن والده في حكم الميت ، خلافاً لما كان يصرح به عن تحسن صحته ، وأفضى لمن حوله إنه سوف يهتم بما تبقى لوالده من أيام في الحياة ،واعد له قصراً لاقامته في صنعاء عند عودته من روما ، كما اتخذ قراراً بإعادة 53 طالباً من مصر بعثوا إلى هناك للدراسة بحجة أنهم شيوعيون ،وفي الواقع ليس في الأمر شيوعية أو شيوعيين بل كل ما في الأمر أنهم طلبه يختلفون مع زملائهم في الرأي ، والخلاف كان بينهم على مسألة هل عبدالكريم قاسم شيوعي أو عراقي عربي ، وكان هذا الخلاف في خلفيته صراعاً عربياً عربياً ، بين الاتجاه القومي الناصري والاتجاه القومي الشيوعي العراقي ، والذي تطور إلى خلاف عربي عراقي بعد مابرزت مشكلة الكويت ، ووقفت معظم الدول العربية تتزعمها مصر ضد اتجاهات عبدالكريم قاسم لضم الكويت إلى العراق ، ومن الغريب أن اليمن تعاطفت فيما بعد مع عبدالكريم قاسم.
وكانت اجراءاته قد شجعت أبناء المناطق الجنوبية وفجرت خلافات قديمة كانت مكبوتة في أيام جده ووالده ، فبرقيات المبايعة من الجنوب كانت أكثر من برقيات مجاملة ، لقد اراد اصحابها أن يقولوا للبدر ، وقد ظنوا أنه قد أصبح صاحب الأمر والنهي «أن عمال الحكومة ، والموظفين جميعاً لايعرفون واجباً نحو الفرد المحكوم ،ولا يعترفون له حتى بابسط الحقوق الطبيعية الجوهرية كإنسان ، وكأخ لهم في الإنسانية والوطن ،وعليه ماعليهم من واجبات .. هؤلاء المعمون على الجهل والفضيحة لايعترفون بأن المواطن في الجنوب «تعز والحجرية والعدين... الخ» هم اخوة لهم.. حتى أن الجندي الحافي البسيط صار يقلدهم.. فيحتقر المواطن ويبالغ في اذلاله واهانته.
وفساد الحكام لايقتصر في الواقع على المناطق الجنوبية بل هو ظاهرة عامة في حكم الأئمة منذ قيام الدولة ،لكنه استفحل في عهد الإمام أحمد ، بل إن الإمام أحمد كان يغض الطرف عن عماله ، وحكامه ، طالما بقوا على عهدهم له ، وولائهم لحكمه.
ولذلك عندما جاء البدر ،كانت الشكوى من العمال والحكام تأتي من كل الألوية فهذا نائب «حجة» يقول للبدر «بدل الوجوه التي لها عشرات السنين ،وقد سئمها الناس» وكانت وحدات الجيش أكثر جرأة في مطالبها بالقضاء على الفساد ، وقد تجرأت إحدى الوحدات لتقول للبدر طالما جلساؤك هم جلساء والدك فلا تنتظر خيراً.
«ب» تطور الأحداث
لايمكن التغاضي عن حقيقة أن البدر كانت لديه الرغبة في الإصلاح والتغيير وهو بجميع المقاييس أكثر أسرة آل حميد الدين تفهماً لروح العصر ، لأن في الأسرة من كان يسعى إلى التحديث كالحسن بن علي مثلاً ،وأكثر ميلاً للإقدام على خطوات تخرج اليمن من دائرة العصور الوسطى ، وتنقله إلى رحاب العصر الحديث ، وهو أكثر الامراء قرباً من الفكر العروبي القومي ، ليس فقط لأن الاحرار على مقربة منه ، بل لأنه حقيقة تأثر بعبدالناصر ،وكان يريد أن يقترب من افكاره ، ويود أن تقترب اليمن من تيار الوحدة العربية ،على الأقل كان البدر كذلك حتى نهاية الخمسينات ، ولا حاجة للقول أنه فهم قيم القومية العربية كأمير ، وولي عهد أعتى أنظمه الحكم العربية رجعية وتخلفاً ، أي إنه لم يفهمها كابن للطبقة العاملة ، أو فلاحاً فقيراً ، أو مثقفاً تلقى علومه في موسكو أو السوربون ، فالبدر كان ابناً لبيئته ، وأسرته وظروفه ، لكنه كان ضعيفاً وضعفه كان صفة فيه يدركها اصدقاؤه وخصومه على السواء.
وكان كل طرف يحاول أن يستغل هذا الضعف لتحقيق أهدافه فأصدقاؤه استخدموا علاقتهم به ، وحاجته لهم ليعززوا جهودهم ونهجهم ويفرضوا نظريتهم التحررية في الحياة الاجتماعية ،وفي المؤسسات المدنية والعسكرية وهم يعترفون وليس في هذا مايعيب أنهم اتكأوا عليه لكي يصلوا إلى الناس ، ولكي يواجهوا الطرف الآخر ولكي يحتموا به ، حتى قال أحدهم «إن البدر كان يجاري الأحرار ، ويعلن موافقته على الوقوف معهم ، أكانوا يريدون الجمهورية ، أو الابقاء على الإمامة» أما خصومه فقد استغلوا ضعفه للجهر بمعاداته ، ونشر الشائعات والأراجيف ، حول قدراته وتضخيم اخطائه وتشويه صورته باستخدام الدين والتقاليد والعادات السيئة لإظهاره بمظهر التابع لعبدالناصر أو لرميه بتهمة الشيوعية ، أو كشخص مسخ لا إرادة له ،كما نجحوا في أن جعلوا الإمام يشك في نوايا ابنه تجاهه ، وكانوا يأملون أن تؤدي هذه الشكوك إلى خلق حالة من الشك بين الإمام وابنه ، تجبر الإمام على الغاء ولاية العهد للبدر، حينها يصبح المرشد الوحيد للخلافة هو الحسن ، الذي حرص على البقاء إلى جانب الإمام اثناء مرضه ، فجسر الهوة التي كانت تحول دون تفاهمهما ، فأزال بذلك بعض شكوك الإمام نحوه.
وكان يمكن للبدر أن يواجه ضغوطات الطرف المحافظ إذا استطاع أن يحشد خلفه الجيش ، والتيار الإصلاحي ، وشيوخ القبائل الاحرار وأن يتصدى لمؤامرات هذا التيار «المحافظ» التي كان السياغي نائب لواء البيضاء، الذي عينه الإمام قبل مغادرته اليمن مساعداً للبدر، حامياً داعماً لها ،كما كان بامكانه أن يخفف من الآثار الجانبية للصراعات الإقليمية في اليمن ،وكانت هذه الصراعات سعودية مصرية كما نعلم وقفت مصر فيها إلى جانب البدر والاحرار ووقفت السعودية إلى جانب الحسن والمحافظين ، إلا أن الواقع كان معقداً ، فالبدر الذي اخذته الحماسة الوطنية ،والقومية وحددت سلوكه مطامعه الشخصية من اثبات قدراته ، وتأكيد اهليته للمسئولية ، وجد نفسه يتورط شيئاً فشيئاً في صراع مع بعض حاميات الجيش ، ومع الجنود الذين عانوا كثيراً من الظلم والاهانة في سنوات عهد والده وبدا واضحاً أن هناك موجة من التمرد وجدت لها سبباً مباشراً ،تمثل في عدم قدرة الدولة على دفع الجنود الشهرية واعطاهم حقوقهم القانونية.
وقد بدأت هذه المواجهة بتمرد جنود البيضاء إذ عجز حاكم اللواء عن دفع مرتبات الجنود فالخزائن كانت خاوية فخرج الجنود عن الطاعة وراحوا يطلقون النار على دور الحكومة فأشاعوا الفوضى في المدينة واضطربت الأحوال فاضطر البدر إلى اعتقال النائب في اللواء وبعض المسئولين بتهمة العبث والفساد ثم أرسل إلى جنود البيضاء، مبلغاً من المال لتلبية بعض مطالبهم وكان ذلك حلاً مؤقتاً.
بعدها اندلعت الاضطرابات في صنعاء، وكانت بسبب حرائق قد نشبت في مخازن الجيش الكائنة «بالعرضي» بمنطقة باب اليمن، نجم عنها احتراق القصب والحبوب الموجودة فيها، وقد سبق جمعها من أملاك الدولة، وزكاة العلف من المواطنين وكان الجيش المسئول عن حمايتها قد اختلف مع القاضي يحيى أحمد حسين العمري الذي كان البدر قد عزله من منصبه، فشك أفراد الجيش أن العمري كان يقف وراء عملية الحريق، ليثبت عدم كفاءة العامل الجديد، وضعف الجيش على حماية المدينة واستقرارها فكانت ردة الفعل عند الجنود الذين شحنتهم خطابات البدر بالاندفاع لمحاربة الفساد في المناصب العليا في الدولة فقاموا باحراق ثلاثة بيوت لمسئولين في الدولة، من بينها بيت العمري النائب«العامل» السابق لصنعاء والمتهم الأول في نظرهم بالفساد وكان بيته قد تعرض بسبب الحريق لأضرار كبيرة والذي كان يحوي كماً من المخطوطات والوثائق وضمانات الشيوخ وعقال الحارات، وأحرقوا الريالات الفضية حتى تحولت إلى كتل فضية لأنهم أرادوا اثبات أنهم أعلى من الطمع في النقود، على الرغم من فقرهم وبؤسهم.
أما العمري فقد لجأ إلى قبيلة الحدا، وطلب أخذ الثأر فيما جرى له، وانتفضت القبيلة واحتلت مرافق الدولة في مدينة«زراجة» فازدادت الأمور تعقيداً.
وكان البدر مضطراً للقيام بخطوة تعيد الأمن والاستقرار إلى المدينة، وتردع الجنود المتمردين فأعلن حظر التجول في المدينة، وأمر باعتقال عدد من ضباط الجيش، وكان هؤلاء من الضباط الصغار، وكذلك عدداً أكبر من الجنود، وكانت أحداث صنعاء قد لفتت الانتباه إلى وجود أزمة حقيقية تواجه البدر الذي سارع بإلقاء التهمة على المارقين الذين يريدون تبديد الجيش، ليضعفوا عراه، وهو أداة السلام والدفاع عن الوطن« وكرر من جديد وعوده برفع مستوى البلاد و«سعادة الجيش ورجاله» وأقسم اليمين بأنه لن يسامح ولن يتسامح وأنه سوف يجعل«الخفافيش» عبرة لمن اعتبر.
كما أصدر بعد ذلك مرسوماً غير فيه درجات الجيش العسكرية فجعل النظام يبدأ بالجندي، ثم نائب العريف، ثم الرئيس للفرقة، ثم الملازم، فالمقدم، فاللواء، فالمشير، وكان الهدف من تحديد درجات الجيش تلبية أحد مطالبه في تحسين وضعه واعادة تنظيم صفوفه.
كما عين بنفس الوقت محمد حسين العمري عضواً في المجلس النيابي ربما لإرضاء عائلة العمري، التي كانت من أكثر العوائل غير الهاشمية قرباً من الأئمة، وإن احتفظ بعض رموزها بمواقف متقدمة من النظام، وكان بعضهم على صلة وطيدة بالأحرار، كما هو حال عميد الأسرة القاضي عبدالله بن حسين العمري رئيس وزراء الإمام يحيى أوالقاضي محمد عبدالله العمري المتهم في نظر المحافظين بأفكاره الاصلاحية وقربه من مصر في هذا الوقت كانت الأنباء ترد عن تحسن حقيقي في صحة الإمام، وأنه بدأ في الاجتماع مع بعض كبار مستشاريه المرافقين له.
ولم تمض سوى أيام قليلة على أحداث صنعاء حتى اضطربت الأحوال في تعز، فالظروف في جميع الوحدات العسكرية كانت متشابهة، وكذلك حالة الجنود والسبب المباشر لأحداث تعز أن خلافاً قد نشب بين القاضي علي محسن الجبري، وواحد من جنود فرقة القناصة، الذي اتهم القاضي بأنه اجاز زواج زوجته لشخص آخر قبل أن يطلقها بصورة شرعية، وفي أثناء المراجعة عند القاضي، حدثت مشاجرة بين القاضي والجندي صبيحة الثاني عشر من يونيو 9591م ضرب خلالها القاضي الجندي حتى سقط مغشياً عليه وعندما علم زملاؤه بالحادث، تحرك نحو 002جندي في الساعة الرابعة عصراً من اليوم نفسه إلى منزل القاضي لكنهم لم يجدوه، فاتجهوا نحو منزل أخيه القاضي أحمد الجبري، وظنوا أنه قام باخفائه وكان هذا أعلى منزلة من أخيه علي، وأرادوا اقتحام بيته، لكنه أوصد الباب ومنعهم من الدخول فقاموا بمحاصرته، وتبادلوا معه اطلاق النار، قتل على إثرها ستة جنود، وأجبر القاضي على الاستسلام وبمجرد استسلامه قتل، وبعد ذلك بحث الجنود الثائرون عن أخيه المتسبب في القضية وعندما عثروا عليه قتلوه أيضاً.
ويعود القاضيان بنسبهما إلى قبيلة بكيل، وبمقتلهم تنادت القبلية بالثأر من الجنود المتمردين، أو الحصول على الدية والمال من الدولة، التي تتحمل مسئولية قتلهما، وتقدمت جحافل«خولان» «فرع من بكيل» نحو الطريق، وقامت بأعمال كان تأثيرها على الوضع الأمني سيئاً وطالبت القبيلة البدر بتسريح الجيش، ووعدته بعشرة آلاف جندي بمعرفتها إن هو فعل، وقد تزعم حركتهم الشيخ«الصوفي» والرويشان وعدد آخر من شيوخ خولان.
وقد سوى البدر الأزمة مع «خولان» عن طريق دفع المزيد من المال وبسبب هذه الحالة كانت صنعاء سوقاً للمتاجرة بالمواقف السياسية الكل كان يبحث عن «الزلط»«المال» ومع ذلك فإن الأوضاع لم تستقر تماماً للبدر، وكانت صلته بشيوخ حاشد قوية، لذلك قرر استدعاءهم أولاً: ليخلق حالة من التوازن حوله، خصوصاً وقد لاحظ أن بعض الشيوخ زعماء التمرد كانوا يميلون إلى صف أعدائه، من الأسرة المالكة، وإلى صف عمه الحسن، عدوه ومنافسه الأول، وثانياً: لمواجهة أخطار تبدو محتملة مصدرها الجيش الناقم والجائع، وتدفقت مجاميع حاشد إلى صنعاء، وأشرف حميد الأحمر على العملية، وظهر كشيخ قوي، قريب إلى السلطة، طموح للوصول إليها.
وكان حضور حاشد يعني صرف المزيد والمزيد من الأموال، حتى أضحى البدر غير قادر على الصرف فراح يستدين من التجار لتغطية تكاليف هذه الحشود، ومواجهة مطالب الجيش إلا أن تدفق القبائل على صنعاء أثار حساسية الجيش ونظر الجنود إلى وجود القبائل بالقرب من ثكناتهم بشيء من السخط.
وفي الواقع فإن ارتياح البدر إلى حاشد لايعني بأي حال من الأحوال أن القبيلة قد سوت أمورها مع النظام، أو إنها استكانت لوجوده، فالنزعة الاصلاحية لدى شيوخ القبيلة لم تنطفئ بعد وكان الجيل الجديد من شيوخ حاشد يحمل معه طموحات أكبر وأوسع من الجيل السابق، وكان أبرز رموز هذا الجيل الجديد، حميد بن حسين الأحمر الذي أشرف على عملية التحشد في صنعاء، وإلى جانبه شيوخ آخرون لايقلون حماساً كان منهم مجاهد أبوشوارب، وعبده كامل، وعلي شويط، والشوخي، وأحمد حمود حرمل، ويحيى البشاري، وقاسم مهدي القطيش، وعبدالله فيشي، وناصر الشيبري، وحزام أبوذيبة، ولم يكن شيخ القبيلة حسين بن ناصر الأحمر أقلهم استنارة وحماساً للتغيير وقد يبدو مناسباً التذكير هنا بميراث العداء التقليدي بين الأئمة والشيوخ آل الأحمر.
لقد أتاحت أحداث صنعاء وتعز لرجال القبائل ورموز المعارضة من الأحرار أن يلتقوا في هذه الأجواء المشحونة والمضطربة ففي العاصمة حينها كان هناك مايقرب من 0205 ألفاً من رجال القبائل وعادت اللقاءات تنعقد من جديد بين قادة الأحرار لمناقشة الأوضاع القائمة وقد أشار«سنان أبولحوم» إلى حضور السلال والعمري وعبدالسلام صبرة، والقاضي عبدالله الارياني إلى جانب حميد الأحمر، وأبولحوم، وربما آخرين هذه اللقاءات.. ويبدو أنهم فكروا في الاستيلاء على السلطة، وربما طرحوا على أنفسهم أسئلة هامة تتعلق بمصير البدر، ومصير الإمام، وربما وضعوا في اعتبارهم عودة الأخير سالماً من روما، وقد راودتهم فكرة اغتياله من جديد وجرى حوار فيما بينهم حول طبيعة الحكم، وكانوا ميالين إلى الجمهورية وعلى وجه الخصوص شيوخ حاشد، وكذلك سنان أبولحوم من شيوخ بكيل، وكان هذا الأمر لافتاً للانتباه، إلا أنه غير مستبعد، فشيوخ القبائل يعرفون بالممارسة إن بقاء الملكية يعني بقاء الإمامة، والإمامة نظام اجتماعي وسياسي، وتراتبي مغلق، ولايسمح بدخوله إلا لمن لهم الأهلية ومن شروط هذه الأهلية أن يكون الطامح للحكم من حفدة الرسول«صلى الله عليه وسلم».
كانت الأوضاع مضطربة، فجنود الجيش يرفضون الامتثال والطاعة لأوامر البدر، وكان رجال القبائل قد استغلوا حالة الاضطراب هذه، فطالبوا بمزيد من المال واشتدت الأزمة مع الأيام، بسبب خلو خزائن الدولة من الأموال، وعلم الإمام بما يجرى في اليمن، وعنف مرافقيه لأنهم لم يبلغوه بما جرى من أحداث في صنعاء وتعز، وعزم على العودة، لكن أطباءه نصحوه بالبقاء لفترة أخرى كان يردد على لسانه«اليمن تنادينا ياقوم» كان احساسه بالخطر مما يجرى في مملكته عالياً، كيف لاوهو الرجل الذي خبر اليمن وأهل اليمن سنين طويلة كيف لا وهو يعلم ضعف شخصية ابنه، ولين عوده وبقي القلق مسيطراً عليه حتى علم بأن البدر قد تمكن من تهدئة القبائل، وقام باعتقال الذين تسببوا في حوادث تعز وصنعاء، وكان من بينهم «السادة» عبدالله زبارة، وعبدالكريم زبارة، وقاسم حجر، ومحسن الأمير، والضابط محسن الأشموري، والقاضي محمد العلفي حاكم همدان ولم تكن هذه أخبار واقعية، أما الواقع فإن اضطرابات الجنود استمرت في صنعاء، وأن رجال القبائل ظلوا مرابطين هناك ينتظرون المزيد من المال وأن جنود الحديدة قد انتفضوا هم الآخرون وأن بعض القبائل قد قطعت الطرق، ومن هذه القبائل قبيلة دهم، التي استولت على جمرك«شظيف» وطردت الحامية الحكومية المقيمة فيه، وبعد ذلك فرضوا على السيارات القادمة من السعودية ضريبة مرور، والشظيف مركز اتصال هام بين نجران السعودية ومأرب اليمنية.
وقبل عودة الإمام كانت هناك ثلاثة أطراف تحرك هذا الصراع، أو هي جزء منه، البدر وحوله قبيلة حاشد، وبعض من بكيل، ويدعهم الأحرار، ومعظم قادة الجيش وفريق الحسن وقد وقفت إلى جانبه الأسرة الحاكمة أوأغلبيتها على الأقل وكذلك الأسر الهاشمية التي ارتبطت مصالحها بالحكم وهناك أعداد يمثلون فريقاً حائراً أو طامعاً في مغنم شخصي.
في هذه الأجواء قرر الإمام العودة، وقد اختار السفر جواً، ولكنه بعد أن أقلعت به الطائرة وتجاوز أجواء اثينا غير الإمام رأيه وأمر قائد الطائرة بالعودة إلى روما، وقد اختلفت التفسيرات لبواعث هذا الاجراء من جانب الإمام فقيل إن السبب هو أن أخاه الحسن كان معه في الطائرة، وهو لايريد أن يعود به إلى اليمن، وقيل إن رسائل جاءته من اليمن تقول إن ولي عهده قد اتفق مع عبدالناصر على أن يحتجزه في القاهرة وقد بقي في روما81يوماً، تخلص فيها من أخيه الحسن، فأرسله إلى أمريكا ولم يعد على طائرة كان لابد لها أن تهبط في مطار القاهرة، بل جاء على باخرة رست في ميناء بورسعيد وجاء عبدالناصر لتحيته يوم 7/9/9591م، ولم يقم لمصافحته، وقدر عبدالناصر أن المرض هو الذي أقعده عن القيام، ولكنه حينما جاء أمين الحسيني ثم شيخ الأزهر قام لهما وقبل ذلك كان قد أصر على ألايقابل عبدالناصر إلا وبندقيته«الجرمل» في يده، وعجز ممثله في الاتحاد حسن ابراهيم أن يقنعه بالتخلي عنها، حتى انبرى الطفل المدلل «محمد بن محمود» فقال: أنا سأحملها، وأقف بجانبكم لتكون في متناول يدكم، فوافق.
وكانت زيارة عبدالناصر للإمام زيارة مجاملة، لكن عبدالناصر حرص أن يُشعر الإمام أنه محل تقدير في الجمهورية العربية المتحدة، لذلك اصطحب معه أنورالسادات، وعلي صبرى، وأحمد أنور الوزير العربي في مجلس اتحاد الدول العربية وبعد انتهاء الزيارة كلف عبدالناصر علي صبرى بصياغة بيان حول اللقاء لوسائل الاعلام، وكان البيان مقتضباً وأثناء مغادرة الإمام قناة السويس جرت للإمام مراسم توديع رسمية.
ورافقته بعض الوحدات العسكرية البحرية، تأكيداً لحسن النوايا، ومع ذلك ظل الإمام يحمل في نفسه شيئاً من عبدالناصر، كان على مايبدو مقتنعاً بالوشايات الكاذبة التي كانت تصله من أمراء البيت الحاكم في اليمن، والمرجفين، خصوم البدر، وكان هو نفسه رجل مضطرب، وقلق وكثير الظنون بالآخرين.
وأدرك البدر وأنصاره من الأحرار الذين دعموا اجراءاته الاصلاحية، أن الإمام قادم خلال أيام، وأن هناك أخطاراً لابد أن تأتي مع قدومه، فهم يعلمون أنه غاضب، ويفكر في معاقبة ابنه، وكل الذين شجعوه على فعل مافعل، وهو حتماً سيعاقب الآخرين الذين اصطادوا في الماء العكر وكان على البدر أن يجد طريقة للتخفيف من حنق أبيه وغضبه عليه، ولم يكن هناك غير وسيلة واحدة هي استقباله استقبالاً حافلاً وكبيراً، واقامة المهرجانات، وتدبيج الخطب والأشعار لامتداح جلالته فرحاً بعودته سالماً معافى، وتبديد تصوراته المظللة ووصل الإمام يوم 01أغسطس، وعلى البر استقبله البدر، وسرعان ماأثر عليه باسلوب مرح، كان يجيده، وبروح البنوة السلابة، فلم يصل الإمام إلى الحديدة إلا وقد تغيرت نظرته تجاه ابنه، وخف غضبه بالنسبة لأنصاره من الأحرار، ماعدا عبدالله السلال وحمود الجائفي فقد كان حنقه عليهما شديداً لعله كان قانعاً بأنهما ضالعان في التآمر ضده.
وفي اليوم التالي وأمام الجماهيرالمحتشدة أمام قصره«دار البوني» ألقى خطابه المشهور الذي قال فيه«لقد كان ماكان من بعض السفهاء المغرورين المخدوعين والمأجورين من قتل النفس التي حرم الله، ونهب الأموال، وقطع الطريق، وارهاب الآمنين ولقد كان لذلك في نفسي أعظم الأسى والأسف، ولكن الله أرجعهم إلى يدي فمنهم من يقطع رأسه ومنهم من تقطع يده.. وهذه شريعة الله.. أقسم بالله قسماً لاهوادة فيه لأقطعن رأس كل أبيض أو أسود متى رفعت إلي مظلمة عنه، ومن كذب جرب وهذا الفرس، وهذا الميدان».
واستدعى بعد ذلك القاضي أحمد السياغي رئيس المجلس النيابي الذي آزر التيار المحافظ، وخاطبه بلهجة تنم عن غضب شديد، قائلاً له: «أين كنت ياقحطاني غائباً عن هذا المهرجان العظيم؟» فالأئمة مهما ادعوا أنهم جزء من اليمن ومن شعب اليمن، فلم ينسوا قط إنهم«عدنانيون» وربما رأوا في ذلك ميزة عظم من قدرها ادعاء انتسابهم إلى الرسول«صلى الله عليه وسلم» وأمره بعد ذلك أن يحضر الملازم شرف المروني، الذي اعتبره مسئولاً عن أحداث تعز ومقتل القاضي«الجبري» وأخيه وذهب السياغي إلى صنعاء، وأرسل بشرف المروني والضباط الذين شاركوا في تمرد صنعاء وتعز ولكنه لم يعد إلى الحديدة بل فضل اللجوء إلى «شريف بيحان» الموالي لبريطانيا، ثم انتقل إلى عدن وقد ساعده في عملية الهروب سنان أبولحوم إلا أن الإمام عاد وأعطى السياغي الأمان، ثم عينه نائباً للواء تعز بدلاً من السيد حمود الوشلي ومع ذلك فقد لجأ السياغي ثانية إلى عدن، وعمل بعدها رجلاً من رجال الحسن.
وكانت القبائل المحتشدة في صنعاء، قد أظهرت شيئاً من الاحتفاء بعودة الإمام، وقرر بعض زعمائها ارسال وفد للترحيب به، لكن الإمام الذي كان غاضباً لاعتقاده بأن القبائل قد ورطت ابنه في مواقف كان في غنى عنها وبعد ذلك سمع الشيوخ خطاب الإمام، والذي هاجم القبائل واتهمها بإثارة الفتن فدب الرعب في قلوب أفرادها الذين فروا إلى صنعاء خوفاً وهلعاً، حتى أن بعضهم لم يخرج من أبواب المدينة ، بل تسلقوا أسوارها هاربين لقد رددت هذه القبائل أثناء غياب الإمام«أهازيج» وأشعاراً تعبر عن دعمها لموقف البدر، وتساند اجراءاته الاصلاحية، وكانت قبائل«خولان» و«بكيل» الأكثر حماساً، لأن شيوخها كانوا الأكثر انتماء إلى حركة الاصلاح، إلا أن حاشد وهي القبيلة الأكثر عدداً، والأقرب إلى البدر كان صوتها الأعلى، وقد ذهب تفكير شيوخها وحماسهم بعيداً في ظروف تبدو غير مناسبة، فردد أفرادها في صنعاء أشعاراً يقول بعضها:
إمامنا «الناصر» ومن بعده«حميد»
سبحان من رد العوائد لأهلها
وحميد كان الابن الأكبر للشيخ حسين بن ناصر الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، وهذا يعني أن أفراد القبيلة يرون فيه الخليفة المحتمل بعد الإمام، متجاوزين البدر، الذي كان سبباً في دعوتهم إلى صنعاء، لأن ضعفه سمح لحاشد بالتطلع نحوالسلطة، ورئاسة الدولة، واعتبارها حقاً عاد لأهله، أو يجب اعادته لأهله علماً بأن حاشد لم تحكم منذ عُرف لليمن تاريخ مكتوب، لكنها وهذه حقيقة كانت تقف خلف كل سلطة، وكانت تنصب إماماً، أو تسلب إماماً حكمه، ولم يتمكن البدر من السيطرة على المشاعر القبلية المتأججة، تماماً مثلما عجز عن السيطرة على جنوده وفي هذه الأثناء برز حميد باعتباره أول دعاة الجمهورية في الوسط القبلي.
وبهيبته أعاد الإمام الاستقرار لليمن، وراح يواصل اجراءاته، فأوقف العمل بما كان البدر قد اتخذه من قرارات فجمد «ركن الجيش» في الاذاعة، ومنع الأغاني، وعادت الأناشيد الحماسية القديمة والموسيقى العسكرية وأغاني الثأر تصدح من جديد عبر الأثير من الاذاعة، وهدد مدير الاذاعة أحمد حسين المروني، وأجبره على الهرب إلى عدن، واللجوء إلى المحمية البريطانية وكان هذا واحداً من شعراء اليمن وأدبائها، ومن قادة العمل الوطني الأحرار.
وأوقف الإمام قرار البدر الخاص بالزيادة في مرتبات الجنود، وجمد مشروع الكلية الحربية الجديد، وطلب من الخبراء المصريين والضباط الذين استقدمهم البدر العودة إلى مصر، واعتقل مجموعة من الجنود، وبعضاً من الضباط، وأمر بقطع يد شرف المروني، وهدم بيته، وأوقع حد الجلد على ضباط آخرين، كانوا قد شاركوا المروني في الهجوم على بيت القاضي«الجبري» في تعز واعتبرهم مسئولين عن قتله وقتل أخيه.
وبسبب شكوكه في موقف مصر الداعم لابنه، أوقف العمل بأي اتفاق كان البدر قد وقعه مع الجمهورية العربية المتحدة بما في ذلك الاتفاقية الخاصة بإنشاء الشركة التموينية اليمنية المصرية التي تم التعاقد عليها مؤخراً وبالتأكيد فإن اجراءات الإمام قد خلقت وراءها وقعاً سيئاً على القوى الوطنية، فقد شهدوا بأم أعينهم كيف تبخرت أحلامهم بين ليلة وضحاها وزاد من وقعها السيء أن البدر ظل صامتاً، وأبدى قدراً من اللامبالاة، وعدم الاكتراث، مما أفسح المجال للإمام وأنصار عمه الحسن المحافظين الايقاع بالكثير من الأحرار، وكذا بعض الشيوخ الوطنيين.
وعلم الإمام أن البدر قد أنفق مبالغ كبيرة على القبائل، وإنه حدد لها اعانات ثابتة، فقام بإلغائها، وأكثر من ذلك فإنه حاول استرجاع هذه المبالغ أو بعضها على الأقل، وكان طبيعياً أن تجد القبائل في ذلك اهانة لها إلا أن الإمام أصر على موقفه واعتبرموقف شيوخ القبائل من هذه القضية تمرداً وقد ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن الإمام ارتكب حماقة أخرى إذ هيأت هذه القضية، وغيرها من القضايا والقبائل للتفكير جدياً في تغيير النظام، والقضاء على الإمام.
وبعد ذلك أصبح الإمام على قناعة بأن حمود الجائفي قائد الكلية الحربية، عمل هو الآخر إلى جانب بعض الشيوخ وضباط الجيش على تعقيد الأمور، وأنه وغيرهم كانوا وراء بعض المشكلات التي حدثت، فأمر باعتقاله، إلا أن أنصار الجائفي أبلغوه قرارالإمام ففر إلى عدن ناجياً بروحه، فقام الإمام بتعيين«عبدالله جزيلان» بدلاً عنه لكنه لم يدر بخلده أن الأخير سيكون وزملاؤه سبباً في نهاية المملكة ورمزاً من رموز النظام الجديد.
«ج» انتفاضة حاشد
كان خروج القبائل من صنعاء مهيناً، لقد أدخل الإمام في قلوبهم الرعب إلا قليلاً من شيوخهم المستنيرين، الذين اعتقدوا أن لديهم قضية وطنية وقضية مستقبلية، وهؤلاء عادوا لمناقشة الأوضاع التي نجمت عن عودة الإمام، كان أبرزهم، حسين بن ناصر الأحمر، وحميدالأحمر، وسنان أبولحوح، وعبداللطيف بن قائد، وعبدالولي القيري، ومحمد أحمد القيري، وعلي بن علي الرويشان، ومحمد علي الرويشان، وعلي طريق، وعبدالوهاب دويد، وفضل بن علي مهدي، وعلى أبولحوم، ومحسن السنبي، وبعد مناقشات كان يحضرها عبدالسلام صبرة، بل وكان يوجهها وكذلك عبدالله السلال، وحمودالجائفي،وعبدالله الضبي، وحسن العمري من الأحرار، بالاضافة إلى القاضي عبدالله محمد الارياني وصلوا إلى اتفاق ذي اتجاهين الاتجاه الأول: يرمي إلى اغتيال الإمام أحمد في «السخنة» حيث يقيم بالقرب من الحديدة وانتدبوا لذلك عبدالله بن حسين الأحمر، وعلي أبولحوم وأخاه محمد، وعبدالولي القيري، وعلي ناصر طريق، وجارالله علي ناصر القردعي وكذلك سعيد فارع، المعروف بسعيد ابليس.
أما الاتجاه الثاني: فكان العمل على قيام انتفاضة قبلية شاملة تشارك فيها حاشد وبكيل وقبائل أخرى وقد كُلف سنان أبولحوم، وعلي الزائدي«بخولان» وحمود أبوراس، وعبدالله دارس، وزيد مهفل«ببرط» وعلي ناجي الشايف«بالجوف» وحسين ناصر وابنه حميد بحاشد.
وكان الهدف من الانتفاضة القضاء على سلطة آل حميدالدين، والسعى لقيام نظام جمهوري ولضمان نجاح الانتفاضة أبدى ضباط الجيش استعدادهم للمشاركة وتم الاتفاق على ألا يعتدي الجيش على القبائل، ولاتعتدي القبائل على الجيش حتى لو أراد الإمام ذلك، وأن يقف الجميع موقفاً موحداً، وكان السلال والجائفي قد بدأوا بتهيئة طلبة الكلية الثلاث الحربية، والطيران، والشرطة وبعض جنود وضباط الجيش ليكونوا سنداً للحركة، التي كان طبيعياً أن يتزعمها حميدالأحمر في حاشد، وسنان أبولحوم في بكيل،وشيوخ آخرون.
لقد حاول الفريق المكلف بعملية الاغتيال تنفيذ مهمته، لكنه عجز نظراً للحراسة المشددة حول الإمام ومعرفته بما تبيت القبائل ضده، فقد تسربت المعلومات إلى الإمام عن وجود مؤامرة لاغتياله وكان قد ساوره الخوف والشك من طاقم حراساته، والذي كان يسهر على حياته، فاتجه نحو«الزرانيق» خصومه بالأمس، وأخذ يجند الكثير منهم ويحيطهم بنفسه فقد أصبحوا أهلاً لثقته، ربما لأنه كان يعتقد بأن الزرانيق مازالوا على موقفهم من العداء لقبائل المناطق العليا في اليمن، وهي قبائل زيدية، وهذه القبائل تحولت إلى مواقف العداء مع الإمام وربما لأن القبيلي بوعيه أقرب إلي مصلحته الآنية وقد رأى الزرانيق أن من مصلحتهم الاقتراب من الإمام، طالما هو في عداء مع الآخرين وطالما هم يجنون المال من وراء ذلك.
والغريب أن الشيخ عبدالله بن حسين وكان واحداً من المكلفين بعملية اغتيال الإمام لايذكر شيئاً عن الحادث بل إن له رواية أخرى لاتذكرها المصادر إذ يقول: في أوائل 9591م«أغسطس 9591تقريباً» وبعد عودة الإمام من روما إلى الحديدة.. قرر المشايخ الذهاب بوفد إلى الحديدة لاستقبال الإمام، والسلام عليه، لكن الإمام رفض، وأبرق بعدم نزول المشايخ ولذلك فقد كلفني الوالد وحميد بنقل رسالة إليه وتهنئته بالوصول.. وقد وصلت إلى مقر الإمام في السخنة، فاستقبلني استقبالاً حاراً، فيه البشاشة والحفاوة، فسلمت إليه رسالة الوالد، ونقلت تحياته، واعتذاره عن الوصول، فتقبل ذلك الإمام.. واستمريت في مقامه أحضر المقابلات، والاحتفالات الرسمية، وأتواجد مع الحاشية، واستمر هذا الحال قرابة الشهرين وفجأة تغيرالإمام، فطلبني وأمرني أن أرسل إلى الوالد وحميد بالوصول إلى السخنة، وعلى وجه السرعة.. وبدأ التهديد والوعيد بخروج الجيش على حاشد وقصة الذهاب إلى السخنة، ورفض الاستقبال أكدها فيما بعد سنان أبولحوم.
لقد تجنب الشيخ عبدالله ذكر مهمة الاغتيال ربما لأن العملية لم تتم من أساسها، وربما لأن الأحوال قد تغيرت، تبدلت الظروف، والأغلب أن الأمر كذلك، فذكر حادثة لم تتم ماكان سيضيف شيئاً لشيخ حاشد، أوحتى للشيوخ الذين كلفوا معه، أو كلف معهم، إلا أن العملية وقرار الاغتيال قد أكدته مصادر عديدة وتحدث عنه مناضلون على درجة عالية من الموضوعية.
وأما أن الشيخ قد لمس حفاوة وترحاباً من الإمام، ثم نفوراً، وتهديداً ووعيداً، فذلك لأن الأحداث في حاشد، وتحت قيادة والده الشيخ حسين وأخيه حميد قد فرضت نفسها كحدث نقل العلاقة بين الإمام وحاشد من صراع خفي مستتر، إلى صراع علني مكشوف وعنيف، كل طرف استخدم مالديه من امكانيات متاحة لحسمه لصالحه.
فقد مضت الانتفاضة في طريقها، وعقد الشيخ حسين بن ناصر الأحمر، وابنه حميد مؤتمراً في حاشد، أرسلت منه رسائل إلى القبائل في أنحاء مختلفة من اليمن، بما فيها قبائل غير حاشدية، ورسائل أخرى إلى قادة الجيش ورجال الدين شرحت الوضع المتردي وطالبت بجمع الكلمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تكون كملة الله، ومصالح الشعب وكرامته فوق تسلط الإمام وتحكمه وقد عرف الإمام بتحركات حاشد والقبائل المؤيدة لها ولما كان دارساً وخبيراً بأحوال اليمن وقبائلها، ومابينها من خلافات وصراعات، فقد تظاهر في بداية الأمر بالهدوء، وبدأ يستعد لقمع المعركة.
أولاً: في حاشد وهي القبيلة التي تشكل خطراً كبيراً على الإمامة ولأن حاشد إذا ما قمعت، هزمت معنوياً بقية القبائل الأخرى، ولن يكون هناك جهد كبير لاخضاعها، مهما تحصنت في مواقعها وتمرست في حصونها.
وبالمال اشترى الإمام مواقف قبائل أخرى.. عرف بالتجربة بأن بين زعمائها، وابن الأحمر خلافات عميقة،ومن هذه القبائل كون جيشاً جراراً، أعده لمهاجمة حاشد، وفي نفس الوقت استخدم بعض الشخصيات الحاشدية القريبة من ابن الأحمر للتأثير عليه.
وجره لمهادنة الإمام والامتثال لطاعته، فخلق في قلب حاشد نفسها موقفاً مغايراً لموقف ابن الأحمر وابنه، وجعل ابن الأحمر يظهر وكأنما يحاول الحصول على مغانم خاصة، ويسعى لملك شخصي، ومع ذلك فإن ابن الأحمر رفض في بداية الأمر عروض الإمام وقرر الصمود والمواجهة، وكان تقديره لقدراته، وموقف القبائل الحليفة من الانتفاضة في غير محله.
ووقف الأحمر وابنه في وجه الطوفان، وحاولا السيطرة على المراكز الحكومية في خمر، وتقدما نحو«ريدة» وجرت معركة خاضها ببسالة وانضم إليهما نحو 008 من جنود الجيش البراني وهو غالباً يتكون من أفراد ينتمون إلى حاشد لكن حجم القوة المهاجمة وامكانياتها البشرية والمادية الكبيرة جعلت بعض شيوخ حاشد يفضلون السلامة، فانفضوا تدريجياً من حول الأحمر وابنه ووجد الأحمر نفسه مضطراً للتفاهم مع الإمام وقد شجعه على الخضوع، أن البدر قد منحه عهداً بالأمان، ودخل الأحمر في جمع من أنصاره صنعاء، التي ظل بها أياماً يتنقل فيها بحرية، حتى طلبه الإمام إلى الحديدة، التي اعتقل فيها، ونقل إلى «حجة» تمهيداً لقتله.
وقد فضل ابنه حميد الانسحاب إلى الشرق أملاً في الحصول على دعم قبلي، أو الهروب إلى المحمية البريطانية«عدن» فصدته قبائل«برط» فتوجه إلى «الجوف» لكن عامل الجوف السيد أحمد المهدي ألب عليه القبائل، ووحدات الجيش بالمنطقة، فأحاطوا به حتى أرغم على الاستسلام، ونقل على الفور بطائرة خاصة إلى السخنة، حيث يوجد الإمام ثم إلى الحديدة، وبعدها إلى«حجة».
وحاول بعض شيوخ حاشد التوسط لدى الإمام، وترضيته للعفو عن الأحمر وابنه، إلا أن الإمام واجههم بوثائق كانت بحوزته تدين الأحمر، وكان من بينها وثيقة بعض شيوخ حاشد المتعاطفين مع حميد قد وقعوا عليها تدعو إلى اسقاط الإمامة واعلان الجمهورية، فوقع بعضهم في الحرج، بل وأعلن بعضهم الآخر«براءته من أعمال حميد» فقد كان حميد رمز هذه الحركة وقائدها وأكثر شيوخها حماساً كما كان شهيدها الأول، وشهيد الدعوة إلى الجمهورية فقد أعدمه الإمام دون تردد، وكذلك أعدم والده الشيخ حسين بن ناصر الأحمر ولايبدو القول صحيحاً أن الإمام قد ندم على مافعل، أو أنه اتخذ قراره على عجل فقد كانت أمامه فسحة من الوقت ليراجع قراره قبل التنفيذ، ولكنه لم يفعل.. أما ابنه الشيخ عبدالله فقد اعتقل وأودع سجن الحابشة حتى قيام الثورة.
كما أعدم الشيخ عبداللطيف بن راجح الذي وقف إلى جانب حاشد وآزرها مع عدد آخر من شيوخ إب وتعرض شيوخ آخرون للاعتقال مثل الشيخ أمين أبوراس، وعلي محسن باشا، وعلي عنان إلا أن الإمام أفرج عنهم سريعاً واعتقل أيضاً الشيخ عبدالله مناع وابنه فيصل، وفيصل عوفان وعبدالله دارس، وأحمد فاضل، ووازع أبوراس، وعبدالكريم الشائف إلى جانب مجاهد أبوشوارب، ورموز أخرى من قبائل «ذومحمد»، وقد بقى بعضهم في السجن حتى قيام الثورة.
كما أرسل لابنه البدر في صنعاء أمراً بالقبض على سنان أبولحوم ورفاقه، وكان سنان قد لعب دوراً مماثلاً لدور حميد في اثارة قبائل بكيل ضد النظام وأبلغ سنان من مدير الأمن في العاصمة عبدالله الضبي بأن الأوامر قد صدرت باعتقاله، وأن عليه أن يغادر فوراً العاصمة، وكان زعماء بكيل قد أدركوا أن الحلقة بدأت تضيق عليهم، ففروا كما فر سنان من بعدهم، إلا إن السلطة اعتقلت من استطاعت اعتقاله من أبناء المشايخ تحسباً لأي اضطرابات محتملة ومرة أخرى أثبت البدر عجزه أمام والده، وكعادة كل الوطنيين لم يجدو أبا لحوم مفراً من الهروب إلى المحمية البريطانية في الجنوب.
وبعد رحلة شاقة مليئة بالمخاطر وصل سنان إلى«بيحان» في 92/21/9591م، وفي 7يناير 0691م استقبله«شريف بيحان» مع من مكان برفقته من شيوخ بكيل، ومنهم الغادر، وعلي بن علي الزائدي، وعبدالوهاب دويد،وبعض مشايخ ذو حسين، فأعطاهم 14بندقية، و02صندوقاً من الذخائر.
كما التقى الهاربون أيضاً بالمعتمد «المستشار» البريطاني في محمية بيحان وحسب سنان فإن الهبيلي والمعتمد البريطاني حاولوا بشتى الطرق الحصول على معلومات عن الأوضاع في اليمن، وعن طبيعة القوى المتصارعة، وموازين القوى خاصة بين جناحي البدر، وعمه الحسن، وقال سنان«إن كان متحفظاً معهما.. لقناعتي أنهما يريدان أسرارنا والعمل بها لصالحهما».
وحاول الإمام اقناع سنان بالعودة إلى اليمن وبتطمينه أن لاخوف عليه، وأنه سيكون محل رعاية واهتمام، لكن سنان كان حذراً، فما كان من الإمام إلا أن أمر بنهب بيته وبيوت الهاربين من الشيوخ الآخرين، وتخريبها وبعد ذلك هرب إلى المحمية علي أبولحوم، ومحمد علي الرويشان، من خولان ومعهم 007رجل من بكيل بفروعها فكانت أزمة حاشد في الشمال تترافق مع أزمة بكيل في الشرق، وبدا وكأن الأرض تموج تحت أقدام النظام، لأن حاشد وبكيل هما كما عرفنا«جناحا النظام» منذ نشأته في القرن التاسع وحتى نهايته في القرن العشرين.
«د» محاولة اغتيال الإمام
كان من بين المجموعة التي كلفت باغتيال الإمام أحمد في «السخنة» شخصية مندفعة ومغامرة، وهي شخصية سعيد حسن فارع الذبحاني الملقب ب «سعيد ابليس» كان صادقاً ومؤمناً بقضيته وسعيد هذا أدرك بأن المجموعة التي كلفت بالقضاء على الإمام أحمد لم يعد بإمكانها فعل شيء فالإمام قد أصبحت لديه حساسية شديدة من بعض العناصر القبلية، وكانت عيونه منبثة في كل مكان، وكانت حراساته التي أصبحت من الآن فصاعداً «بنهاية عام 9591» من قبيلة الزرانيق عدوة الأمس، مخلصة له أشد الإخلاص.
لقد بادر سعيد حسن بالانضمام إلى الأحرار، ثم كون بنفسه خلية من الشباب، وتولى قيادتها وعمل كحلقة وصل بين الأحرار في الداخل والاتحاد اليمني في عدن.
وكان من بين الرسائل التي حملها إلى الداخل، رسالة تقول: إن المناضل سعيد حسن قرر أن يقوم بعملية فدائية تقضي على الإمام، وتخلص الشعب من ظلمه وجبروته، وأنه قد وهب نفسه فداء للوطن، وأن الاتحاد اليمني لم يكن ليوافق على ماذهب إليه، لولا أن سعيداً أصر وألح على القيام بالعملية فما كان من الاتحاد إلا أن وافق على رغبته، وأن يحمل معه كل مايلزم للقيام بهذه العملية من ماله ومن إمكانياته الخاصة، وربما توقع الاتحاد نجاح العملية بسبب أن الإمام كان بعيداً عن مقره الرئيسي في تعز، كما كان بإمكانه أن يدعي التخطيط للعملية وتمويلها ولكنه لم يقل هذا.
وأبلغ سعيد حسن قيادة الداخل برغبته وقد بارك بعضهم مهمته، فالسلال يقول: تقدم أحد المواطنين الشرفاء وهو سعيد حسن، وعرض على زعماء الحركة الوطنية القيام بمهمة اغتيال الإمام أحمد، فرحبوا بذلك، وزودوه بما يلزم لتنفيذ المهمة، وأرسلوه إلى حسين المقدمي أحد عناصر الحركة الوطنية البارزين، الذي تعهد بتسهيل مهمته، وترتيب لقاء يجمعه بالشيخ محمد يحيى منصر أحد مشايخ «الزرانيق» ورئيس الحرس الملكي آنذاك، القائم على حراسة الإمام بالسخنة.
وكانت هذه الوساطة محل خلاف فيما بين قادة الحركة، فلم يكن في مقدور أحدهم أن يتحمل وزر افتضاح أمر سعيد، فقد ذكر إلى جانب المقدمي الشيخ أمين عبدالواسع نعمان، إلا أن المعلومات كلها تشير إلى أن ثقة الأحرار في الشيخ محمد يحيى منصر، شيخ الزرانيق وقائد حرس الإمام لم تكن في محلها، فالشيخ منصر، وبمجرد أن عرف مهمة سعيد، وشى به عند الإمام، الذي أمر بالقبض عليه، وإن كانت هناك روايات تقول إنه حاول إقناع سعيد بأن الوقت غير مناسب لتنفيذ العملية، إلا أن سعيداً أصر على عمله، ولأنه مؤتمناً على حراسة الإمام لم يكن أمامه غير القيام بما قام به، وقدم سعيد للتحقيق، الذي أشرف عليه عبدالملك العمري، واعترف سعيد بأنه كان ينوي قتل الإمام لكنه لم يعترف قط بالذين ساعدوه أو هيأوا له تنفيذ مهمته الفاشلة، فلاقى في سبيل ذلك أصنافاً من التعذيب الوحشي دون أن ينبس بكلمة واحدة، فأنقد قادة الحركة الوطنية من خطر كان ممكناً وقوعه، وكان ممكناً أن يمتد ضرره، ويصيب رؤوساً كانت الحركة في حاجة ماسة إليها في تلك الظروف، ولما يئس الإمام منه أودعه سجن حجة الشهير.
وتناقل الناس محاولة سعيد حسن الجريئة، وأصبح هذا الرجل حديث الناس في اليمن وفي عدن، وتحول شخصه المغمور إلى أسطورة قيل عنها أشياء كثيرة حدثت أو لم تحدث، إلا أن من المؤكد أن سعيداً هذا كان شاباً طموحاً، ورجلاً مقداماً وهو وفق بعض المصادر، كان مثقفاً، مولعاً بشراء الكتب من بيروت والقاهرة، وعمل على توزيعها في مدن اليمن، وكان حريصاً أن يشتري الكتب التي كانت اليمن حينها في حاجة إليها لتحريك مياهها الراكدة الآسنة، بل وكان مجاهراً بآرائه وأفكاره الثورية، وبنقده الشديد لحكومة الإمام وللإمام نفسه، مستفيداً من الأجواء التي خلقتها إجراءات الإمام الإصلاحية المحددة حينها، وحالة النهوض الوطني القومي في اليمن.
وكانت بعض الصحف قد بالغت في ردود فعل الإمام على «الذبحاني» فأعلنت أن الإمام أمر بإعدامه، ولكنه اتضح فيما بعد أن الإمام اكتفى بتعذيبه، ونقله إلى السجن وسجون اليمن كانت آنذاك رهيبة، وفتشت أجهزة الأمن مكتبات سعيد في تعز والحديدة وصنعاء، بحثاً عن أي دليل يرشد إلى أطراف محلية أو اقليمية أو دولية خلف هذه المحاولة، لكن جهود المحققين خابت، ثم أقدمت حكومة الإمام وأجهزته على معاقبة أهله وذويه، ومنعت عليهم حركتهم من «ذبحان» إلا بأمر خاص، وأعيد من خرج منهم من الحدود، وفي صورة عقاب جماعي فرضت حكومة الإمام عليهم دفع بقايا الزكاة لثلاث سنوات خلت وهي عقوبة شديدة الوطأة على الناس بينما يكون المرء آمناً مطمئناً، بعد أن دفع ماعليه من زكوات وضرائب للحكومة، ولبيت المال ظاهراً وباطناً فإذا بالجباة يعودون ثانية، ودون سابق إنذار، والويل لمن أبى أو رفض.
إلا أن مأساة هذا المناضل لم تنته عند هذا الحد، ففي سجن حجة التقى هناك بمحمد عبدالله الفسيل أحد رموز الانقلاب الدستوري، والذي أودع السجن حينها وأطلق سراحه في عام 5591، بعدما وقف الأحرار إلى جانب البدر، لكنه أعيد إلى السجن ثانية عندما أصدر كتاباً عن الإمام بعنوان «الرجل الشاذ» عام 7591، كما تعرف على حسن السحومي أيضاً، واتفق الثلاثة «محمد، وحسن، وسعيد» على الهرب وأثناء الهروب من السجن، وقع سعيد حسن من أعلى جدار السجن، فانكسرت ساقه وحاول صديقاه إنقاذه، وحمله على ظهورهم لكنه أبى، لأنه أدرك أن حراس السجن سوف يتنبهون قريباً لغيابهم، وأنه سوف يكون سبباً في عودة الثلاثة إلى السجن ففضل أن يكون وحده هو الضحية، وفعلاً سرعان مااكتشف حراس السجن عملية الهروب، وبينما كان زملاؤه قد ابتعدوا عنه، وقع هو في أيديهم، ولم يمهلوه طويلاً فقام أحدهم بقتله، وأشاعت الحكومة هروبه، ثم بعد ذلك أشاعت انتحاره، وهو يقاوم اعتقاله، إلا أن الجنود الذين قاموا بقتله مالبثوا أن اعترفوا فيما بعد إنهم قد أنهوا حياته بمجرد العثور عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.