لو كان البحر سهلاً ، لاستطاع أن يمشي عليه بحثاً عن أبيه الذى لم يعد منذ اكثر من عام ، ومضى عام والبحر أزرق كدموعه ودموع جدته التي لو تكاثرت بحجم ماء البحر ، كما كان يقول والده ، لصارت زرقاء.. وهو من لا يستطيع أن يصدق أن الحاج الطيب ، صاحب الجامع ، قال: إن والده ربما لن يعود .. ولو كان هو من يستطيع أن يقف الى ما بعد وحشة الليل والضوء الخافت الآتي من الفنار بانتظاره لفعل .. لكنه البحر والليل المخيف الذي كان يعود به ، وكل الحكايات التي أسمعه إياها ، والحوت الازرق والصبي الذي عصى جدته وهرب مع البحارة فغرق وظل فى بطنه ، لأنه كان يهاجم السفن التى تحمل صبيان عصاه بسنه .. لو كان البحر سهلاً لاستطاع أن يرى من على حافته التي لا يعرف سواها ، تلك البلاد التي يأكل أصحابها الصغار ، ويعود منها والده مرهقاً كلما نادته الأسماك والسفن .. لوكان البحر سهلاً ، لما انقضى عام كامل كما يقول الحاج منذ رحيل جدته ، وغياب والده خلف ظلمات كان والى وقت قريب ، لا يزال يراها زرقاء . ومضى عام ، والقرية الصغيرة بعينيه أمام البحر ، لاتراه أمام نسائها الجالسات أمام بيوتهن والصبية الآخرون الذين لهم آباء مثله ، لكنهم مازالوا يعودون .. وسط غابة النخيل والظلام حيث غابت ببساطة ، يغيب هو خارجها كأبيه على الرمل بانتظاره ، يحفر حفرة عريضة ثم يجلس ويدفن جذعه فيها ، وخارجها ، يخرج الفجر من البحر وقبله العصافير ، وقبلها ديوك جدته ، وقبلها عامل الفنار البشع ، وقبله هو ، وقبله هو ، والده الذي لا يزال غائباً.. فلا يمل القواقع الكبيرة يجمعها من كل الأمواج ، ويرصها ، أو يقربها من أذنيه ليسمع صوت والده وزملائه في عرض البحر ، يلاحقون الحوت الذي أكل الصبي العاص.. ولايزال لايمل الرحيل عبر كل الرمل الى حيث الفنار البعيدة هناك رغم كل الشمس في النهار والهواء البارد في المساء ، ثم عائداً نحو أكوام السفن المحطمة هناك ينظر ما إذا كان البحر قد قذف ببعض العظام أو الجماجم أو الأطراف ، أو ربما جثث لم يمسسها الحوت بسوء ، كانت كلها تشبه والده ، لولا ما علق بها من رمال ، فيهرع الى القرية ينادي الحاج الذي يأتي ليسحبها ، ثم يحملها على حماره ليغسلها ، ثم يرصها جوار ما ارتص هناك خلف الجامع الطيني الصغير ، حيث تكثر الأفاعي وتتحلق الغربان ويتساقط البلح على القبور المجاورة لقبر جدته .. يوم عاد مرة ، فألفاها تبكي .. كان ذلك اليوم ، الذي سمع فيه لأول مره قصه ( العام) .. ، وانه قد مضى (عام) على غياب والده .. وهي تمسح رأسه وتسبِح باليد الأخرى كما اعتاد يراها ، لينام على حجرها ذلك اليوم فيصحو على صوت الحاج يسبح أيضاً وهو يعريها من ملابسها ، مستلقية على لوح خشبي جوار الحمام المظلم ، ثم يرش عليها أشياء صدرت عنها روائح لاتشبه رائحة البحر ، ولم تستيقظ ، ثم يلفها بقماش أبيض ، وجوارها بقي الاثنان الى أن أتى رجلان ، ثم أربعة ، ثم خمسة .. حملوها بصندوق الى هناك حيث نامت مع باقي ما يجلبه البحر ، ويعوفه الحوت الأزرق. مضى عام منذ ذلك الوقت الذي كان فيه لايزال يلهو بأحضان أب ٍ، كلما عاد من بحره ضمه من الساحل حتى الدار ، وظل يقبّله على امتداد الطريق المظلم بين النخيل ، ومن صراته يعطيه كل شئ جديد ، حتى الحلوى والزهور الورقية والدب الذى اقتلع عينيه لأنه لا يتكلم .. بشاربيه المرحين كان يلعب دائماً ، ويعتمر طاقيته التى لا يضيّعها كلما خرج بها الى الدكان الصغيرة في قلب القرية ، يشتري لوالده السجائر ، ويكابر أترابه الذين لا يعرفونه ويتجاهل أمهاتهم أمام المنازل .. مضى عام منذ كان لا يزال يسمع بامرأة شكلها جميل ، لها وجه معلق بإطار على الحائط ، كانت تعيش معهم ، اِلا أن الله أخذها لأنه يحبها ، ولأنها لو بقيت لكان الحوت أكلها .. مضى عام منذ كان لا يخيفه البقاء الى وقت متأخر من الليل أمام البحر بانتظاره ، ولا حتى حين يصمت الصيادون عن الغناء يصلحون شباكهم .. ولاحتى حين تبرق السماء أحياناً فيرى أشياء في الأفق ، قال والده يوما ً أنها جنيات البحر .. قبل هذا العام ، ما كان يخاف الذهاب الى الفنار قاصداً عاملها البشع الذي ما ان يلمحه قادما ً حتى يثبت عينيه اللتين كعيني الحوت عليه إلى أن يتراجع عن قراره على بابها ، ما كان يتمنى أن يصعدها ، علّه يرى من عليها البلاد التى خلف البحر وحيث ، ربما ، لا يزال والده في الطريق ، وربما الحوت يصعد فاكاً فكيه العظيمين الذين بحجم منزلهم ذي الغرفة الواحدة .. مضى عام كامل وهو لا يزال يرحل من أمامها فوق الرمال الى حيث اكوام القوارب والعظام ، ثم عبر النخيل والظلام يثوب الى حيث لا يعنّفه الحاج بنزله الجديد جوار الجامع ، يتقاسم معه الأسماك والجبن اللذيذ والخبز الدافئ ، وقبل ان يدلف الى تلك الزاوية المعتمة بين أكوام البطانيات والخرق التي تصدر منها روائح حنونه كلحية الحاج البيضاء الهادئة ، والتي تهتز وهو يغطيه ببطانية أخرى صغيره ويقول ، حين يسأله ككل يوم كم مضى وكم بقي منذ رحيل والده وحتى عودته ..(عام) ، فيبسم وينام ، ومع سراج الحاج ينطفئ عام من عمر يونس ليبدأ يحلم مبتسماً أيضاً ، ودمع أزرق يتراكم في أعماقه ، بأم كانت صورتها على جدار منزل سكنه أغراب ، وجدة تصنع له الجبن والخبز وتغذي الدجاج وتحلب البقرة ، وأب بشارب مرح وطاقية جميلة ، يعود ناجياً من كل الحكايات والجنيات والحوت الأزرق الذي يأكل الصبيان العصاة.