سلاماً ألا أيها الجبل الشيخ! أتيناك مزدحمين بأشواقنا وبعض الأماني القديمة فاسمح لنا بالعبور إلى مدن أسلمتك مفاتيحها ثم مدت فراش مساءاتها وغفت. سلاماً ألا أيها الجبل الشيخ! أتيناك -نحن الذين سكنا مخاوفنا والسهولْ- حقائبنا غربة لبست جلدنا لا تزولْ وأشعارنا وحشة دخلت -مثلما الملح- مائدة الروح. سلاماً ألا أيها الجبل الشيخ! أتيناك مختبئين بأحلامنا تحت جلدين من قلق واحتراق فدعنا نصالح أيامنا في رحابك نعطر أثوابنا من ثيابك نغادر أحزاننا عند بابك. سلاماً ألا أيها الجبل الشيخ! هلا مسحت بخضرتك المستفيضة أوجاعنا وهلا أعنت على خطوة لم تكن في دفاتر أيامنا وهلا فتحت لنا باب طيبتك اليمنية لنشرب من كأس حكمتك الجبلية! ***
“سُمَارة” لم نره جبلاً كان أفقَاً من الصخر مدت له الخضرة المزدهاة طراوة إصبعها لتنزع قسوته وتقيم على صدره ضجة من عطور ولون رأيناه يجلس فوق فراش من الأزمنة تمر عليه التواريخ ثم تغادره بالخطى العاثرات وتترك فوق مجنته الصخر آثار خيباتها يا لهذا الوقور يفيض إناء سكينته فيشرب منه الصباح الرياح الصخور الطيور وكل البيوت التي تتدلى ثماراً على كتفيه. ألا أيها الجبل الشيخ! طاب صباحك هلا أذنت لنا بالعبور! تقول لنا الشمس: مروا على بقع الضوء منثورة فوق جلبابه واصمتوا! تقول لنا الريح: مروا على عطر حكمته وانصتوا! يقول لنا الغيم: مروا على ماء كفيه واغتسلوا من غبار مخاوفكم! تقول لنا الخضرة المزدهاة على جانبيه: اتركوا لمسامات أرواحكم أن تشمَّ مباهجه فهو يمنحها كل ما تشتهي! رأينا “سُمَارة” يغلق باب الضياء على فيض قامته الجبلية ليغسل أثوابه بمزيج من الغيم والعطر ثم... يمشط خضرته بالرياح التي تستكين على بابه وحين انتهى راح ينفخ بالغيم أنفاسه ثم يعصره كالثياب ليسقطه فرحاً فوق شعر “كتاب”(1) وحين استدار إلينا سمعناه يهمس: طبتم صباحاً أضيئوا قناديل أرواحكم ولا بأس من حفنة الخوف تسكنها فهو ما سيطهرها من وساوسها ثم يفتح كفيه يمسك صخرة رهبتنا ويلقي بها تحت أقدامه المعشبة. طبتم مروراً! يقول، يمد يديه لينثر دهشتنا ويقتادنا في الدروب التي تتلوى على حجره ونصعد... يهبط شوك مخاوفنا بارداً كالتراب ونصعد... تمتد لهفتنا لتعانق أجنحة الطير صافقة فوق شعفته ونصعد تئن بنا المركبات التي تتلها بأبواقها نصعد .. نصعد .. ونصعد وحين اعتلينا الطريق إلى وجهه رأينا ابتسامته وهو ينثرها كالهدايا على العابرين يمد بساط مروأته والحكايات ومن حوله الأودية مريدون يصغون للجبل الشيخ يسكب من ماء حكمته خضرة وحياة. .. وظل يشاغلنا الجبل الشيخ بالقصص الآسِرة عن شجيراته والصخور وتاريخ تلك الندوب التي علمت ثوبه بتلاوينها الباذخة وحين انتهى الدرب فينا إلى عند أذياله قال: هذي “الدليل”(2) وغادرنا ببهاء جليل كانت الريح مهراً تصاهل بين يديه وكان يلوِّح بالخضرة الباذخة وينثر خلف خطاه ظلالاً لقامته الشامخة وحين ابتعد اشتعلنا برغبتنا للكلام. سلاماً ألا أيها الجبل الشيخ. سلاماً سلاماً