هدوءً... سنمسك أذرع صمت تدلت لنا من ذوائب فتنتها الغافية هدوءً... سندخل فردوسها من مرايا الذهولْ. هدوءً... سيبتدىء اللحن تعزفه نسمة من برود “السحولْ”(1). سنوقظها سنوقظ إغفاءة من صبا مقلتيها منداة بالكحل والياسمينْ. دعوها تحرك أهدابها مثقلات بعطر تلهفنا وحين سيكتمل الألق الطفل في شفتيها ستسمع منا الذي سنقولْ.
مداها مدى من قناديل أزهارها مداها مساحة ما يقطع الشوق من لهفة بين عينين عاشقتين مداها نسائم عافية تتضوع من قامة السندس المستديم على كتفيها.. مداها الطيور تصفق فوق سرير من المخمل الحضرمي مداها الجبال تدلت بأعناقها نحوها: اصعدي عندنا، أو نجيء إليكِ نشاركك الدعة المستفيضة فنجان شاي الصباح! مداها البكور وضجة باعتها المسرعين إلى السوق حيث البضاعة طازجة كالأحاديث وأطفالها واصطباحاتهم بالكرات تلاحق أقدامهم في شوارعها النادية ستصحو لتفرش طيبتها للعيون المقيمة عند تعرج أفيائها الجبلية تجمع عشاقها وتسقيهم خمرة من ترانيم مغسولة باكتمالاتها وتفتح أبواب زينتها: تعالوا أشاطركم خضرتي .. وإذ ترتوون ارحلوا -ما استطعتم- إلى مدن تحلمون بها!
وإبّ تمد الذراعين مشغولة بأساور خضرتها ذراعاً إلى قلبها “المركزي”(2) وأخرى إلى حيث أقدامها في “العدين”(3) وتخطر مزهوة فتمد الجبال إليها لهاث التمني وتغمرها بالهدايا: الصخور التي تتساقط ناعسة عند أقدامها، الثمار التي تتناثر معلنة عن مسراتها، النجوم التي ضايقتها المصابيح من فوق “بعدان”(4) فاحتملت ضوءها لتدلف في خصلات الجميلة أو تتناثر من فوق إكليلها. عروس من الخضرة المستديمة “إبّ” فمن لا يراوده شوقه أن يغادر خطوته نحو بستان فتنتها الباذخة؟!
نجيء إليها بأشواقنا على قلق من تواطؤ أيامنا والهواجس تلاحقنا وحشة الدرب مصفرة مثل نجم نحيل “أتحمل آنية العمر بقيا من الوقت متسعاً لهوادجنا تقطع البيد وما من حديث يفتت وحشتنا عن صباح جديد؟”. عراقي أنت؟ يسألني بائع “القات”، أومىء مبتسماً، وأغادره وفي داخلي تتدافع غزلان ذاكرة نافرةْ فتصحو بلادي التي تركت عطرها في ثيابي وطارت كسرب قطا. وتنهض من بين أرمدة العمر بيوت... وأهل... وأسماء من حملوا يأسهم للمقابر أو في ضباب الرحيل إلى مدن راودت رمل أحلامهم... فأتوها وأصحو على صوته عجلاً: تشتي القات...؟ هوذا الحلا!(5) سيأتي ببغداد يطرحها بين كفيك مثل الحمامة! أتأتي ببغداد...؟ بيني وبين قلادتها تستطيلْ صحارى من المستحيلْ أنادي... فيهرب من شفتيَّ النخيلْ وأطلال أمس موشى بحزن عصافيرها المزغبةْ
بُعيد الظهيرة تعود المدينة مجهدة لتجمع أشتاتها في “المقيل”(6) وتترك للمطر المتناثر فوق عباءتها أن يمسّد أقدامها بالضباب ومن “جبل الرب” أرقب بعض الغميمات هاربة لتنزل قربتها متعبةْ تتوضأ من مائها “الصَّلَبَةْ”. وعند اكتمال تألق ساعتها(7) في رذاذ الأحاديث يغادرها المطر المستفز ليبدأ عطر مساءاتها رحلة الانتشاء يداعب أطفالها بالنعاس ويترك نسوتها للمرايا وفي التاسعة ستطفئ “إب” مصابيحها وتندسُّ في سرر من زبرجد أحلامها وتترك في سلة الأمنيات لعشاقها عطر صبوتها لتزرعهم تحت شباكها بالرغاب علها تقرأ الشعر قبل المنام وحين يجف إناء المساء ويهبط مغتسلاً بالسكينة أترك هذه القصيدةْ تضيء قناديلها وأغادر ذاكرتي نحو فضة صمتي أعد السويعات منتظراً نأمة من ضياء يديها وإذ يتقوس سور الظلام .. ألُمُّ نثار القصيدة بين خوافي جناحين من قلق واشتياق وأغفو لأحلم أن ألتقي صحوها عند فجر جديد. إب 3 3/1/ 1996 هوامش: (1) واد خصيب اشتهر قديماً بنسج البرود. (2) السوق المركزي للمدينة. (3) واد خصيب يقع غرب المدينة. (4) جبل مطل على إب من جهة الشرق. (5) عبارة باللهجة اليمنية معناها: تريد القات؟ هذا هو الجيد منه. (6) مجلس القات. (7) ساعة النشوة التي يصل إليها من يتناول القات.