مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ناشطون ومواطنون: الإفراج عن قحطان أولوية وشرط قبل خوض أي مفاوضات مع المليشيا    ريبون حريضة يوقع بالمتصدر ويحقق فوز معنوي في كاس حضرموت    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    وكيل قطاع الرياضة يشهد مهرجان عدن الأول للغوص الحر بعدن    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    مصرع عدد من الحوثيين بنيران مسلحي القبائل خلال حملة أمنية في الجوف    من هو اليمني؟    خسائر في صفوف قوات العمالقة عقب هجوم حوثي مباغت في مارب.. واندلاع اشتباكات شرسة    الكشف عن حجم المبالغ التي نهبها الحوثيين من ارصدة مسئولين وتجار مناهضين للانقلاب    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    صحيفة إماراتية تكشف عن "مؤامرة خبيثة" لضرب قبائل طوق صنعاء    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخطوة الأولى
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 19 - 02 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
بعد أيام قضيتها في الترقب والانتظار للعمل الذي سأبدأ به حياتي العملية جاءتني البشرى ذات ليلة ليخبرني خالي بأن الشيخ الكبير قد وجدلي عملاً بأحد البيوت التجارية الكبرى بكريتر والتي كان على صلة بصاحبها وليلتها لم أنم، فقد أخذت أتقلب على فراشي في قلق وخوف وأنا أضع التصورات لما عسى أن يكون صفة ذلك العمل وأصحابه.. أنا الذي كنت منذ وصولي عدن، وأنا أعيش في حلم يقظة دائم أنتقل من مكتبة لأخرى أرشف من أفانين الأدب والفكر قطرات قد لا تشفي غليلي وذهني النهم إلى المعرفة، ولكنها تحييني إلى اليوم الثاني موعدي مع هذه الكتب.. ثم ذلك التعطش إلى الفن، تلك الألوان التي سحرتني والمتمثلة في اللوحات التي أحج إليها كل يوم أقدم لها القرابين من وقتي الذي أقضيه أمامها غائباً عن الوجود ساعات طويلة.. أنا الذي كنت أخطط لنفسي عالماً خاصاً بي لا يمت للواقع الذي حولي بأي صلة، أفاجأ اليوم بأن علي أن أقطع كل صلتي بتلك الأحلام وتلك الخطط التي رسمتها بنفسي وأكرس نفسي لعملي الذي علمت أنه سيستمر من السابعة صباحاً إلى ما بعد الثامنة مساءً ولهذا شعرت كمن هوى من أعلى قمة كان متربعاً عليها إلى الأرض، صحيح أن العمل كان بغيتي ومرادي الذي غادرت بلدي وأهلي من أجله وذلك لتوفير المال اللازم لأسرتي بحضرموت التي وضعت كل آمالها علي بعد مرض والدي.. كما أنني على يقين من أن كل أحلامي التي أحلم بها لن تتحقق إلا بالمال الذي لن أناله إلا بالعمل والجهد المتواصل.
هذه الأفكار كان مصدرها عقلي الواقعي الذي أخذ يرد على أهواء نفسي التي ربما كانت تسيطر عليها الأحلام المثالية ولهذا عاد ليقول لي: هاهي الخطوة الأولى التي ستوصلك إلى المال أمامك، فاغتنمها ودع تلك الأفكار الخيالية التي تعشش في صدرك لتفسد عليك فرحتك بهذا العمل الذي تفضل به عليك الشيخ الكبير، وعندما وصلت إلى هذه النقطة من أفكاري هدأ بالي وأخذت أدير دفة هواجسي لأجعلها تصب في محيط المستقبل ذلك المستقبل الذي لن يكون سعيداً إلا بقدر ما أقوم به من تضحيات وصبر وجلد في أولى مراحل حياتي، وأن هذه التضحيات سوف تؤتي ثمارها في المستقبل لتحقق لي كل ما أصبو إليه وما أحلم به وعندما نمت قرير العين وأنا أحلم وأحلم.. ولم أشعر إلا بمن يوقظني من أحلامي تلك ليقول لي: هيا إلى العمل، إنه أحمد صالح القرح الذي أوكل إليه الشيخ الكبير مهمة توصيلي إلى ذلك المكتب الذي سأعمل به.. وبعد أن صليت الصبح وتناولت إفطاري انطلقت معه والساعة لم تتعد السابعة وكان صاحبي طول الطريق يبصرني بالعمل المقدم عليه وما يجب أن أتحلى به من حسن الانضباط وإطاعة الأوامر، هذا الحديث الذي أخذ يصبه في أذني كنت غائباً عنه بهواجسي الخاصة ولكني ما إن وضعت قدمي على عتبة ذلك المكتب حتى نفضت كل تلك الهواجس عن ذهني ورفعت رأسي وأيقظت حواسي لتستقبل أول خطوة أخطوها في حياتي العملية، كان ما يقال له مكتب تجاري عبارة عن غرفة صغيرة مظلمة وكئيبة تنقسم إلى قسمين قسم صغير في حجم ثلاثة أمتار في مترين، له نافذة تطل على الشارع العام، ظلت مغلقة طول فترة عملي بذلك المكتب يحيط بهذا القسم قضبان حديدية تفصله عن بقية الغرفة، هذا القسم “المقفص” له أرائك من الخشب ترتفع عن الأرض نصف متر، وقد رصت عليها فرش ووسائد تعبق منها روائح مراهم “أبو فاس” و”أبو نمر” و”فكس” وروائح أخرى كالقرنفل والحلتيت وقد كان ذلك القفص خالياً حين وصلت وهو الجزء المخصص لصاحب ذلك المكتب وأصحابه من الشيوخ كبار السن الذين يفدون إليه ليتناولوا القهوة المر، ويتبادلون أحاديث الشباب الذي ولى، أما الجزء الآخر من الغرفة فقد حشر فيه عدد من الموظفين كبار السن كانت رؤوسهم حين دخلت منكبة على دفاتر كبيرة منهمكين في عملهم بصمت وخشوع تام يسطرون على تلك الدفاتر ما دخل وما خرج من المواد الغذائية التي يتاجر بها ذلك التاجر الهرم والتي تصل من الهند وباكستان وبعض الدول الأسيوية وحولهم أسراب من الذباب منهمك هو الأخر في النقش ببرازه على ملابسهم البيضاء وعلى صفحات تلك الدفاتر التي بين أيديهم وأحياناً على وجوههم المتغضنة والمتجهمة، زرعني صديقي وسط ذلك الجو الكئيب موصياً بي أحد الشيوخ وأخبره أن يسلمني إلى أبن صاحب العمل ليقوم بتدريبي على العمل المطلوب مني، جلست مصدوماً وأنا أرى كل ماحولي يوحي بالملل والكآبة ورحت أحدث نفسي بأنني ومنذ الساعة علي أن أصبر نفسي على البقاء في ذلك الجو الكئيب أكثر من اثني عشر ساعة وأخذت نفسي تتململ في ضيق لكنني كظمت غيظي وقد أخذ عقلي يخفف عني تلك الصورة القاتمة التي أراها أمامي ليقول لي إنه مع التعود ومع الأيام سوف تتكشف لي بعض المباهج فيه.
في الثامنة تماماً وصل أبن ذلك التاجر الذي يدير أعمال والده والمكلف بتسليمي العمل، كان رجلاً قصير القامة، نحيف الجسم، يقف مشدوداً كنصب تذكاري عليه ألبسة كثيرة تغطيه من أخمص قدميه حتى رأسه يرتدي حذاء له رقبة تغطي نصف ساقيه وتحتها شربات صوف ترتفع حتى نصف ساقيه يعلو ذلك قميص أبيض وكوت رمادي وشال من الصوف يغطي رقبته وكان يسير في خط مستقيم مثل “الريبوت” الآلي وما إن دخل حتى عرفه ذلك الموظف بي وبأنني الموظف الجديد، لم ينظر إلي ولكنني سمعت صوته الجاد يقول لي:”خذ هذه الخرقة التي كانت حينها على أحد الكراسي وامسح بها مداكي غرفة حبيبك”.
ثم امسح أمياز المكتب وعندما يصل حبيبك اطلع فوق وهات القهوة لتصبها له ولأصحابه وانتظرني لأننا سنذهب سوياً إلىالبنك لأعرفك على بعض الموظفين هناك.
قال ذلك وخرج دون أن يلتفت حتى خيل لي أنه فعلاً مصنوع من الحديد الذي لا ينثني، أخذت تلك القطعة من القماش وباشرت عملي، دخلت أولاً غرفة صاحب العمل التي أسميتها غرفة التحنيط وذلك لما يفوح منها من تلك الروائح التي ربما وأن أولئك الشيوخ “العواجيز” يغرقون أجسادهم في عدد من المراهم طول ليلهم ليطردوا عنهم أمراض الرومايتزم التي تخلخل عظامهم النخرة، عملت في همة ونشاط طارداً جيوش الذباب والتراب التي كانت تغطي كل مافي الغرفة من كراسي وأمياز ودفاتر وإن كان في نيتي أن أمسح عن تلك الوجوه المكشرة ما علق بها من تجهم، وفيما أنا كذلك إذ بعدد من الشيوخ يتقاطرون إلى الدخول إلى غرفة التحنيط تلك وقد اتكأ البعض منهم على عصا والتحف البعض الأخر شالاًَ من الصوف غطى به رأسه ورقبته وأخذ أحدهم يكح ويرسل في الهواء زخات من البلغم الثقيل، تبعهم بعد دقائق صاحب المحل وهو رجل عجوز قد بلغ من العمر عتياً كان متوسط الطول نحيف الجسم، يلبس قميصاً خفيفاً من الململ وشال يغطي رأسه وما إن جلس في مكانه المخصص له حتى نهض أصحابه يبوسون أطراف أصابع يده، بعد برهة من جلوسه وصل الأبن الأصغر له، وهو رجل ممتلئ الجسم، جميل الصورة، يحمل وجهاً مدوراً يفيض بالطيبة والسماحة، وسرعان ما انفتح قلبي له، وقد وجدت فيه واحة بشرية أستظل بها وسط ذلك الخليط من القسمات الجادة والوجوه الكالحة ابتسم عندما رآني وذكرني بأن أذهب إلى الطابق الأعلى لإحضار القهوة وصبها وتوزيعها على تلك الموميات التي بغرفة التحنيط، تحركت في حياء لأرتقي السلم وأنا لا أدري كيف أتصرف ولكن ما إن وطئت قدمي نهاية السلم حتى وجدت أمامي امرأة شابة سمراء مليحة الوجه ولها عينان عسليتان جميلتان ترتدي درعاً لحجياً ومدت لي بيدها اليمنى إبريق القهوة وبالأخرى الفناجين، إنها الشغالة التي قيل لي إنها تربت منذ صغرها في ذلك البيت والتي يقع على عاتقها كل شغل البيت من كنس وطبخ وغسيل وغير ذلك، وهي تسلمني القهوة ابتسمت لي في ألفة أحسست حينها أننا نعرف بعضاً من سنين ثم أخذت تبادلني بعض الكلمات تعرفت منها على أسمي وبعض المعلومات عني ثم فجأة تغيرت لهجتها إلى الجد لتقول في حسم:هيا.. هيا انزل بسرعة قبل أن يسأل حبيبك.. عن القهوة نزلت وجلست لأصب القهوة ولعل يدي ارتبكت فارتطمت بعض فناجين القهوة ببعض وهنا سمعت صوتاً فيه الكثير من العتاب والتأنيب يقول: يا عيال باتكسروا علينا الفناجين، كان ذلك الإنذار قد صدر من صاحب العمل الذي شق عليه أن يخسر قيمة فنجان لا يزيد ثمنه عن نصف شلن وهو في رأيه خسارة كبيرة، إنه صوت ضمير ذلك البخيل الحريص على ماله وبسرعة لملمت تلك الفناجين في حرص وأنا أربت عليها بيدي وأخذت أصب عليها تلك القهوة التي هي في سواد الحبر الشيني وتناولت آخر فنجان رفعته إلى شفتي لأستطعم تلك القهوة فإذا بها شديدة المرارة، بلعت تلك الرشفة على مضض وأنا في عجب من أمر هؤلاء الشيوخ الذين يبدأون يومهم بذلك السم الأسود بدلاً من أن يبدأوه بعصير البرتقال لكي ينعش تلك الأجساد النخرة؟ لكنني هززت رأسي قائلاً لنفسي: إن منطقي غير منطقهم، صحيح أنهم أغنياء ولكنهم فقراء النفوس والإحساس بعد أن احتسوا ذلك السم، جمعت الفناجين في رفق وأعدتها إلى قواعدها سالمة.
بعد أداء ذلك الطقس الأول طلب مني أحد الموظفين “العواجيز” أن أقترب منه ليعلمني نسخ الرسائل وما إن اقتربت منه إذا بي أمام آلة غريبة تشبه إلى حد كبير حجرتي “الرحى” التي تطحن عليها جدتي البر إلا أن هذه الآلة مصنوعة من الحديد يعلوها مقبض اسطواني الشكل جعل ذلك الموظف يديره بكلتا يديه حتى انفصلت الأسطوانة العليا عن السفلى عند ذلك وضع على السفلى عدداً من الأوراق الرقيقة جداً ووضع فوق تلك الأوراق رسالة كتبت بخط أسود ثقيل ثم بسط على الجميع قطعة قماش كار مبللة بالماء، وعاد ليدير مقبض الآلة لتلتئم الأسطوانتان العليا فوق السفلى ثم أخرج تلك الأوراق الرقيقة وقد انطبعت الرسالة على كل الأوراق.. وهذه هي الطريقة القديمة لنسخ الرسائل والوثائق إلى عدة نسخ، إنها بمثابة “الكوبي” الذي كان سائداً قبل أن تصلنا آلة التصوير الحديثة، كانت العملية التي أجريت أمامي بسيطة وسهلة وسرعان ما تعلمتها في الحال وقمت بعد تلك العملية بنسخ عدة ورسائل أخرى بنفس الطريقة التي رأيتها.
في حوالي الساعة العاشرة وصل ذلك الرجل “الريبوت” ليأخذني معه إلى البنك وكان يصحبنا بالسيارة إلى جانب السائقش رجل كبير السن ولكنه متين وقوي الجسم وقد قيل لي فيما بعد إنه كان لاعباً شهيراً فيما مضى، وصلنا البنك لنستلم ثمانمائة ألف شلن مقابل تحويل لا أدري من أين، وكان مثل ذلك المبلغ في ذلك الحين ثروة كبيرة.. مثل هذه المبالغ كثيراً ما كانت تصلهم عن طريق البنك فيسارعون باستلامها ولا تطمئن قلوبهم حتى يودعوها خزائنهم.. بل ومن المستحيل أن يبيت أي مبلغ خارج ذلك المكتب وهكذا عدنا بتلك الكتل من الأوراق النقدية لندخلها إلى غرفة تقع على الجانب الجنوبي من ذلك المكتب، كانت الغرفة من الداخل مظلمة وليس لها منفذ آخر غير الباب الذي دخلنا منه والذي أغلق علينا كانت تفوح منها رائحة عطنة، هي مزيج من رائحة البنكتوت الملوث بالعرق وبراز الصراصير التي تمتلئ بها تلك الغرفة وما إن أضيئت بالأنوار الكهربائية حتى ظهر لي كل ما بداخل تلك الغرفة، كانت كل جدرانها الأربعة ماعدا الباب طبعاً قد التصقت بها عدد من الخزائن الحديدية الضخمة يزيد ارتفاعها عن قامتي بنصف متر تقريباً، فتح أبن ذلك التاجر إحداها ووضع المبلغ بداخلها إلى جانب المبالغ الأخرى المرصوصة وأغلقها ثم اتجه إلى أخرى وفتحها فإذا بها مليئة بأكياس من القماش الأبيض متنوعة الأحجام أخرج منها كيساً ووضعه على الأرض تحت أقدامنا وطلب منا أن نجلس فجلسنا وبعد أن فتح فم ذلك الكيس الذي كان مربوطاً بخيط قوي من نوع قماش الكيس إذا بي أرى بداخله قطعاً نقدية لم أر لها مثيلاً من قبل ولكنني شبهتها بالعملة النحاسية المعروفة عندنا بحضرموت وهي “البيسة” الهندية التي كانت سائدة عندنا قبل أن تصل إلينا الشلنات الأفريقية.. إلا أن هذه القطع لها بريق يخطف الأبصار، بعد ذلك عرفت أن هذا القطع هي ما يقال له “الجنية الذهبي” “أبو خيل” أخذنا نعرف من ذلك الكيس جاعلين كل مائة قطعة في كيس صغير، لتعود تلك الأكياس مرة أخرى إلى تلك الخزينة في صفوف مرتبة وبعد أن أشبعنا أعيينا بذلك البريق الأحمر وشنفنا أسماعنا برنين تلك القطع انتقل الرجل إلى الوصلة الثالثة من عرضه المسرحي.
كانت أرضية تلك الغرفة هذه المرة بكاملها مسرحاً لوصلته تلك فما هي إلا لحظات حتى انشقت الأرض من تحتنا حيث قام ذلك الرجل الرياضي برفع غطاء خشبي من على أرضية تلك الغرفة لنرى أمامنا حفرة واسعة رصت بداخلها عدد من الشوالات في هيئة صرر في حجم كرة القدم مرتين رفع منها عشرة أكياس وفتح أحدها ليتدفق منها نقد من نوع أخر.. نقد فضي في حجم راحة يدي.. إنه الريال الفضي “ماري تريزا” وكنا نسمي الريال الواحد في حضرموت “قرش” وأخذنا نعد كل مائة ريال ونضعه في كيس صغير، وبعد أن أكملنا العدد المطلوب عادت هذه الأكياس إلى مثواها الأخير.
كانت هذه الغرفة تذكرني بمغارة علي بابا والأربعين حرامي.. عندما خرجنا لأرى أمامي الابن الأصغر وكأنه ينتظرني فما إن رآني حتى تلقاني في بشاشة وانزوى بي بعيداً عن أعين أولئك الموظفين العجائز وقال لي هامساً وهو يسلمني ظرفاً مليئاً بالمال: أذهب الآن إلى المسجد المجاور وأعط هذا المبلغ من ترى عليه شدة الفقر من المساكين المتواجدين هناك: تسلمت منه المبلغ وأنا أنظر إلى وجهه الذي يشع نوراً هادئاً، ذلك الوجه الذي أرى أنه الوجه الإنساني الوحيد من بين تلك المجموعة التي تحمل وجوهاً عابسة.. تسللت خلسة من بين الجميع إلى خارج المكتب وأنا أخفي ذلك الظرف تحت قميصي مخافة أن تفوح رائحة ذلك المبلغ وتصل إلى أنف ذلك التاجر البخيل فيحول بيني وبين فعل الخير الذي كنت مسروراً بالقيام به، دخلت المسجد لأجده خالياً إلا من شيخ طاعن في السن قد أستند إلى أحد الأعمدة ورفع يديه يلهج بدعاء حار لربما كان يشكو فقره وعجزه لله حتى أنه لم يفطن ليدي وهي تضع ذلك المبلغ وسط كفيه، وما إن أحس بذلك حتى هاجت عيناه بالدموع شكراً لله الذي أسرع لنجدته، خرجت من المسجد وشعور طاغ يملأ كياني بالفرح، شعور بأني شاركت في مد يد المساعدة لشخص فقير وحين أزف موعد الغداء سمعت صوت الشغالة اللحجية وهي تناديني من الطابق الأعلى، ذهبت إلى الركن المعروف على السلم لتسلمني صحناً مليئاً بالأرز الأبيض يحيط به من الأسفل سائل الملوخية حتى خيل إلي أنني أمام مجسم لجبال الهملايا المتوجة بالثلج وضعت ذلك الصحن أمام السائق الرياضي ورجل آخر لعله أحد أقربائهم وجلست بينهم وأخذنا نأكل ولربما لفرط جوعنا نسينا أننا نأكل من دون “سمك” وحين تخلخلت كتلة الجليد التي أمامنا سمعت صوت الشغالة وهي تناديني من جديد وحينها عدت بأربع قطع صغيرة من السمك المقلي ولما رأى الرياضي الدهشة علي قال: هذه هي عادتهم كل يوم فلتتعود عليها.
بعد ذلك الغداء أخذنا نتبادل أطراف الحديث فيما بيننا حتى أذن لصلاة العصر صليت وعدت لأزاول نفس طقوس فترة الصباح ماعدا الفقرة الخاصة بمغارة علي بابا.
في حوالي الثامنة والنصف وعندما هممت بالانصراف لأعود إلى سكني ناداني الرجل المتخشب وسلمني قطعة نقدية من فئة النصف شلن وقال لي: خذ هذا من حبيبك.. لعشائك وإفطارك قال ذلك في جد ولربما في زهو وكأنه يسلمني ثروة طائلة، أمسكت بالنصف شلن وأنا أدقق النظر إليه وأقول لنفسي إن هذا هو المبلغ الوحيد الذي أراه اليوم خرج من ذلك المكتب الذي يحتوي على عشرات الملايين ولربما المليارات وانصرفت وأنا أفكر في الآمال الكبيرة التي كنت أسعى إلى تحقيقها من خلال ذلك العمل والذي قيل لي بأنني سوف أجني منه المال الكثير.. أين هذا من النصف شلن الذي أقبضه كل ليلة لأصرف منه ثمن وجبتين كاملتين؟ أي مستقبل ينتظرني من عمل يبدأ بهذه البداية الغريبة؟ كانت هذه الخواطر تتواتر على ذهني وأنا أخطو خارج ذلك القبو الكئيب لأنتسم الليل المشبع بروائح شارع الزعفران العتيق التي تفوح من مطابخه ومطاعمه ومعامل الحلوى فيه وروائح أخرى تنفثها نوافذ بيوته مشكلة من روائح عوج الصندل والفل والكادي الذي تضعه ربات الصون والعفاف على رؤوسهن وهن يستقبلن ليلة سعيدة من ليالي عدن التي نظل ساهرة حتى وقت متأخر من الليل.. وحينها كنت قد وصلت أمام مطعم الحباني الذي يبيع الفول.. دخلت ويدي تتحسس نصف الشلن القابع في تواضعه داخل جيب قميصي لأطلب بآنتين فول وأنه روتي واحتفظت بالآنتين المتبقيتين لإفطاري في اليوم التالي التي ستكون مبرمجة كالتالي: قرص خمير بآنة وفنجان شاي بالآنة الأخرى وهكذا تروني حليت أول معضلة وقفت أمامي في أولى خطواتي للمستقبل الباهر الذي قيل لي إنني مقبل عليه، بعد ذلك العشاء عدت إلى مسكني بسفينة نوح لأحدثهم عن “الفيلم السينمائي” الذي شاهدته والذي كان بعنوان “مغارة علي بابا” وقد التف حولي الجميع مابين مصدق ومكذب وأنا أروي لهم ما رأيته وما شاهدته من كنوز الذهب والفضة في تلك المغارة فيرى البعض منهم حرارة الصدق في حديثي فيصدقني ويرى البعض الشيوخ فيما أرويه خيال الطفل الذي لاتزال أفكاره تحلق في حكايات الف ليلة وليلة بينما يرى البعض الآخر ممن كان على دراية وعلم بأموال ذلك التاجر المكدسة في خزائنه أنني على حق فيما قمت به من تشبيه محكم بين خزائن ذلك التاجر ومغارة علي بابا، وهكذا مضت حكاياتي مع ذلك التاجر لتستمر ثلاثين ليلة وليلة وبعدها توقفت شهرزاد عن الكلام المباح لأعلن توقفي عن الاستمرار بذلك العمل لأبدأ حكايات ليال أخرى في عمل أخر جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.