اِعصار الأمس كان من القوة درجة ً اِقتلع بها كل ملامح المدينة التي ألِفت سكون الساعات القليلة المتقطعة بين كل اِعصار وآخر على مدار العام الممطر ، بما في ذلك أحزا ن الناس الهاربين في جوف منازلِهم المُحصّنة ضد الموت ، وقت يقضون مهدَدين به أصعب لحظات . اِلا أن احدا منهم لم يفكر ابدا ً بأن سكان الحارتين المتقابلتين منذ الأزل يستوون صغاراً تحت وقع الأعاصير ومهرجان الفوضى المرحة تقتلع الأشجار وترفس في طريقها واجهات المحلات الزجاجية وتطرق أبواب البيوت ونوافذها ، تقلب سيارة هنا وتعصف بحبل غسيل هناك .. الموت حين يتساوى الجميع أمام جلالته ، حتى الحارتان تتداخل معالمهما ببعضها وتختلط الأغراض التائهة يومها التالي لتعود السراويل المهترئة من بعض السطوح مقابل عودة الآنية النحاسية من البعض الآخر اليها.. وبينما ظل المذياع يردد في الداخل .. رياح شمالية شرقية ... كان هو المراهق الوحيد في كِلتا الحارتين المُشكِّلََتين بلد الاعاصير ، ومن نوافذ ما قبل الآعاصير في أعالي الناطحات التي فوق مستوى الموت ظل من بين السحب البيضاء المسافرة بهدوء السلاحف تحته يترقب بزوغها من السطح الأرضي الأسود تنشر ستة عشر عاما من الاعاصير وسراويل مهترئة لاِخوة صغار مبكرين في السواد، ثم ، وككل عصر هادئ ، تقعد - تدري- انه يراقبها فتجلس الى مبخرةٍ ادمنت كل الدخان منها يتراكم بعينيها ،اللتين تراقبان الناس يعيدون تقسيم العالم بسرعة كعادتهم إثر كل إعصار ، قبل ان يتكاثف بعينيه في الاعالي فيصير سحاب .. وبينما ظل التلفاز يردد في الداخل .. رياح جنوبية غربية .. كانت هي الخادمة في المنازل السوداء الفقيرة الوحيدة في كل حارات الاعاصير ، والأجمل المشتهاة بعينيه منذ أكثر من عشرين عاماً من الخفاء في السماء .. التقاها وما يزال في احلامه ، حاملة دخان مبخرة عصرها الشميس والقصاصات الغريبة المحترقة ، وربما فاجأها على رصيف حين توقف بكل اِصفرار سيارته ( البورش ) ليشتري سجائر ، وربما التقى نهديها النابتين للتو ذات خروج موفق من البقالة ذاتها يوم آخر ، وربما ذات مصعد عرف روائحها التي اخذته من سحاب الى سحاب حتى استحال اِعصار خشيته تماماً ، فاغلقت في وجهه كل عينيها الهاربتين وشبابيك منزلهم الرخيص وبابه الوحيد وباب سطحه الأرضي الهش . ... ولمّا اطلقتْ في الفضاء المهشم صمتاً تعرفه ، بقايا تأملاتِها ورماد قصاصات من مبخرتها العتيقة – حمَلتْها ودخلت ْ، وقد أشارتْ لاْحدهم على مرأى منه في الأعالي من بين السحاب ، رآها عنوة تحث بالهدوء الذي يسبق كل شئ ، خطواتها ، ولأنه عرف وجهتها ، لم يعرف لمن كانت تلك الاشارة الغامضة بأن اِنزل من برجك في السماء .. فإذا به يدلف الى البقالة ، يمرّر يده المرتعشة أرضاً في البضائع وعينيه المغرورقتين حباً في كل مفاتنها القريبة .. يداها بهما بعض حروق ٍ بائسة وبقايا رماد ، ناولت البقّال قصاصة واخذت منه اخرى ، لكن عينيها كانتا تومضان بما لايدريه ، حين مرتا فيه ، وخرجت في الاجواء شبه المعتمة دائما قبل كل غروب في بلد الاعاصير ، هرولت مع المهرولين العائدين ، ليدرك هو انه قد تأخر عن شئ ما، ضنّه الأوب السريع صعوداً الى برجه ، قبل اِندلاع اعصار اليوم الجديد.