قد تتبادل الحواس أدوارها الإدراكية لدى الشعراء، فينفتح بعضها على الآخر ، ويكتسب منه بعض معطياته ، في إطار ما يسمى ب( تراسل الحواس ) ( 1 ) الذي يعني " أن نصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات الحواس الأخرى . فتعطي المسموعات ألواناً ، وتصيرالمشمومات أنغاماً ، وتصبح المرئيات عطرة " ( 2 ) ، وإذا كان هذا التراسل الحواسي بمعناه العام يقصد أن " ينأى الشاعر عن السياق المألوف للمفردة المعبرة عن حاسة مافينقل إليها مفردات حاسة أخرى " ( 3 ).. فإن هذا يدل، بشكل أو بآخر ، على اقتراب الصورة التراسلية من الصورة الغرائبية التي تغادر فيها الألفاظ مدلولات الأشياء ومنطقها ، فالغريب "هو ما يأتي من منطقة خارج منطقة الألفة ويسترعي النظر بوجوده خارج مقره"(4)، والغرابة تعني " نزوع الشاعر نحو إدخال قيم تعبيرية في النص تبتعد عن المألوف " ( 5 ) ، وهذا بذاته ما نجده في الصورة التراسلية التي ينأى الشاعر فيها عن السياق المألوف للمفردة ، ذلك أنها لا تقوم على العلاقة التعادلية المنطقية بين الحاسة ومدركاتها ، وبين الدال ومجال مدلوليته ، وإنما تقوم على التداعي والانثيال التلقائي للإدراك الداخلي المنبثق من اللاوعي لتتحول الصورة إلى عالم من الإدراكات الحسية التي لم يألف المتلقي إدراكها الحسي بهذه الطريقة من قبل ، ذلك أن هدف الشاعر ، وهو ينسج مثل تلك الصور الغريبة ، " هو استخدام أية وسيلة تمكنه من النفاذ إلى محتويات اللاشعور المكبوتة ، ثم يخرج هذه العناصر حسبما يتراءى لهبالصور الأقرب للوعي" ( 6 ) . ومن هنا تكون الصورة التراسلية أقرب ما يكون إلىالصورة الغرائبية غير المألوفة في ذهن المتلقي وإدراكه. و هذا النمط التصويري الذي ينهض في مضمونه على اشتباك أكثر من حاسة في نسيج الصورة؛ فإن الشاعرأحمد ضيف الله العواضي قد استغل مدياته الإيحائية المختلفة فأبدع بوساطته صورا ًطريفة شتّى بثها في دواوينه الثلاثة (إن بي رغبة للبكاء , ومقامات الدهشة ،وقصائد قصيرة) ومن تلك الصور التراسلية التي ترتكز في بنائها على أكثر من مدرك حسي ، مانجده في قصيدة (صنعاء مقامات الدهشة ) التي يرد فيها : " من أين لي لغة بلون الماء كي أتجاوز المعنى وأدخل في تفاصيل المفاجأة الأخيرة " ( 7 ). لا يخفى أن الدارس وهو يتأمل تفاصيل هذه الصورة ويترصد مدلولاتها الثانوية خلف مفرداتها كان يتوالى على فكره رأي الدكتور إحسان عباس القائل :"إن الشاعر الحديث لا يريد أن ينكراللغة ، وإلا لم يكن عربياً بكل ما يحمله هذا الوصف من مميزات لغوية ولكنه إنما يعني التحول بها إلى مستوى يحقق له ذاتيته ، ويطبع على تاريخ اللغة ختمه ،ويفرده بدور يبدو فيه وجوده معلماً شاهقاً في تيار الزمن " ( 8 ) ، حيث لاحظ مدى اقتراب مثل هذا الرأي من مدلولات الصورة المدروسة ومدياتها الإيحائية التي تريد إيصالها ،لاسيما وأن الصورة تعكس توقاً قوياً من قبل الشاعر إلى امتلاك نوع من الانهماراللغوي الذي لا توجد أمامه حواجز أو موانع تحول بينه وبين ما يريد أن يعبر عنه ،نوع تعبيري تفتح أمامه بوابات البوح واختلاجات الذات وارتعاشات اللاشعور ، نوع كتابي تتحول معه الكتابة إلى خبرة معرفية بالعالم المراد تصويره أو التعبير عنه ،وذلك على أمل أن تشق تلك اللغة في ذات المتلقي طرقاً تصل إليه من خلالها بصوت أعمق وأغرب من العادي والمألوف ، فهي لغة شفافة صافية تنبثق من القلب وتصل مباشرة في كامل طزاجتها وليونتها إلى القلب متجاوزة مسألة النحو والقواعد والدال والمدلول لتتحول إلى لغة المشاعر والأحاسيس الفياضة التي تحاكي ، على نحو ما ، لغة النصوص الأولى التي كانت الكتابة فيها حرة ومتمردة على أي تجنيس أو تصنيف . ولأن الشاعريرغب في امتلاك تلك اللغة المصممة لمداهمة جميع الحواس واختراق جميع أساليب الكتابة المستهلكة في الاستقبال والتلقي ، جاءت الصورة بهذا البناء الذي اشترك في إنتاجه وصيرورته أكثر من حاسة في وقت واحد ، ف (اللغة) التي تدرك ، غالباً ، بوساطة حاسة السمع ، قد أراد الشاعر أن يكسبها طابعاً بصرياً وذوقياً معاً حينما اشترط في وجودها أن تكون (بلون الماء) ، فالماء ، وإن كان غير ذي لون أو طعم أو رائحة ، قد عمّق الإحساس بأن الشاعر يريد تلوين مالا يتلون على أمل أن يكون إدراكه أكثر وضوحاًوتميزه بأكثر من حاسة ليصير تلقيه أكثر قبولاً ولدى أكثر من متلق . إذاً فثمة تراسل حواسي يكتنف صورة هذه اللغة التي بلون الماء ، وهذا التراسل الحواسي يشير في تشكيله بهذه الصورة إلى أحد أمرين : أولهما أن يكون تراسلاً مقصوداً جاء ليتلاءم ومنطق السؤال (من أين لي) الذي " يترك أفق البحث والمعرفة مفتوحاً وأنه لا يقدم يقيناً ، فالسؤال هو الفكر لأنه قلق وشك " ( 9 ) ، ليحمل في طياته بذور الشك في تحقق امتلاك تلك اللغة كونها واقعاً ملموساً. وأما الثاني أن يكون التراسل قد أتى عفو الخاطر نتيجة طبيعية لتشظيات المخيلة وجنوحها إلىالتحليق والطيران في مدارج الوجد الشعري الذي يترجم توق الذات للوصول إلى الصفاء والنقاء والطهر الذي يفضي بها إلى غواية اكتشاف لغة بكر صافية تنطلق من القلب لتصل مباشرة إلى القلب دون وسيط أو رقيب أو خفاء أو غموض ، عزز ذلك التأويل أن الشاعريأمل بامتلاكه تلك اللغة أن يكشف عن تفاصيل ملامح مدينته الأثيرة (صنعاء) وأن يعبر عن تفاصيلها كما تتراءى في ذاته ويستشعرها فتنتقل إلى المتلقي بالصورة نفسها التي ترتسم في ذاته، وهو في ذلك يأمل أن تنتسب متعة الاكتشاف إليه وليس إلى غيره من الذوات التي تقف عاجزة أمام مرايا المكان ( صنعاء ) وهي تنعكس أمامها في مشاهد ربمالم تلاحظ جمالها وبهائها من قبل ، فتأتي هذه اللغة لتكشف عن مشاهد جديدة تفاجأ بها الذوات الرائية التي شُلت مخيلتها عن رؤية تلك المشاهد التي ربما تتراءى أمامها كل يوم ولكنها لم تتذوق جمالها وتكتشف قوة سحرها مثلما اكتشفها الشاعر وأدرك وجودها. من هنا يمكن القول إن هذا التراسل الحواسي الذي اكتنف صورة ( اللغة ) المدركة غالباً بوساطة السمع ، التي يرغب الشاعر في امتلاكها قد أسهم في الكشف عما يعتمل في ذاته لحظة وقوفه في (مقامات الدهشة ) ليبوح بما تكنه ذاته من مشاعر فياضة تجاه الرمز المكاني الخالد (صنعاء) . وفي القصيدة نفسها ، قصيدة (صنعاء مقامات الدهشة) ، نجد صورة تراسلية أخرى تمازجت فيها الحواس وتخالطت ، حيث يرد فيها: " فأقول : يا الله إني عاشقٌُ متفردٌٌ أحببت أن أتذوق الأسماء " ( 10 ). إذا كان للناس فيما يعشقون مذاهب ، كما تواتر في الذاكرة الجمعية العربية ، فإن الصورة المرصودة،بالرغم من قصرها ، قد استطاعت أن تعكس طقساً عشقياً لأحد هؤلاء العشاق المتفردين في عشقهم وشغفهم غير المحدود بمن يعشقون ويحبون . فلكي يثبت هذا العاشق تفرده وتميزه عن بقية العشاق (إني عاشقٌ متفردٌ ) أتى بهذه الصورة التي تداخلت فيها الحواس وتمازجت إلى درجة أن (الأسماء ) التي يمكن سماعها بوساطة الأذن ، أو رؤيتها كتابةًبوساطة العين ، أو إدراكها كمعان بوساطة الذهن ، قد انزاح مجالها الإدراكي لدى هذا العاشق إلى حاسة الذوق الموكل إليها تمييز الطعوم المختلفة للأشياء . وهذا التراسل يفضي إلى أن هذا العاشق لا يريد أن تتوقف متعته بترديد ( الأسماء ) التي لاتطابق اسم مكانه الأثير عند الحواس المذكورة آنفاً ، بل هو يريد من تلك الحواس أن تتواشج فيما بينها وتشتبك مستثيرة شبكة الإدراكات الحسية المرتبطة بكل حاسة لتنصهرجميعها مشكلةً صورة متجددة للمكان المعشوق (صنعاء ) الذي ينعكس وجه العاشق على مراياه . وبذلك نستطيع القول إن الصورة التراسلية قد استطاعت نقل أحاسيس (العاشق) ومشاعره الفياضة صوب مكانه الأثير (صنعاء) مبرهنة على تفرده في عشقه له ليصبح لديه كل اسم غير اسم المكان ( مالحاً ) لا يستسيغه ، وكل عشق لمكان غيره لا ينبغي أن يكون أو يستساغ. وأما قصيدة ( النداء الأخير ) فتعكس إحدى شذراتها صورة تراسلية طريفة تتآزر في تشكيلها أكثر من حاسة مشكّلةً مدياتها الإيحائية المختلفة إذ نجد :" ربما تسقط الآن رائحة الجند / كي نستعيد الطفولة / كي يخرج الآن زبد الحزن من صوت القصيدة / كي نعرف الآن معنى النجوم البعيدة " ( 11 ). يشكل المخيال الشعري في هذه الصورة تداخلاً حواسياً لانستطيع الجزم معه بنسبة الصورة إلى حاسة بعينها دون أن نجد للحاسة الأخرى الحضور والتأثير نفسيهما ، ف( رائحة الجند )التي ترقب الذات / الذوات سقوطها قد كشفت أبعاد ذلك التداخل والاشتباك الحواسي الذي يشترك في تشكيله حضور حاستي البصر والسمع (تسقط) مع حاسة الشم ( رائحة ) مساهمة في الكشف عن العوالم الداخلية للذات / الذوات التي ترقب وتتطلع إلى حدوث سقوط مدوٍّ لتلك الرائحة بأكثر من حاسة ، ذلك أن مثل هذا الاقتران التصويري بين الحواس لايعكس على الإطلاق ، كما يقول (كالر فسلر) : " حركات منطقية للتفكير ، إنها حلم الشاعر حيث تتضام الأشياء ، لا لأنها تختلف فيما بينها أو تنحد ، بل لأنها تجتمع في الفكر والشعور في وحدة عاطفية " ( 12 ) ، تعكس الرغبات الداخلية وتترجمها ، حيث إن (رائحة الجند ) لو شهدت الذوات سقوطها فسوف يتحقق لها ما صبو إليه ، فالذوات ستستعيد براءتها بعودتها إلى حضن ( الطفولة ) ، وصوت القصيدة سوف يتبرأ من كل ما علق به من ( زبد الحزن ) ، كما سيتحقق لها أيضاً إمكانية التواصل مع النجوم البعيدة ) المتلألئة في الأفق لتهديها إلى الوجهة الصحيحة التي تحقق فيها كل ما تأمل في تحققه. ومما تقدم يستطيع المتلقي أن يدرك كيف أفاد الشاعر أحمد العواضي في بناء بعض صوره من تقنيةالتراسل الحواسي الذي تشترك في بناء صوره أكثر من حاسة ليبرهن بأنه قد استطاعت طويعها لترفد مديات الصور إيحائياً ودلالياً وتعلي من شاعريتها ، لاسيما وأن ذلك التراسل يسهم في إثارة أكثر من إحساس في وقت واحد ، مما يدفع المتلقي إلى التفاعل معها وتسليط أضوائه الكاشفة عليها أكثر من مرة وبأكثر من تقنية قرائية نظراً لما تمتلكه من قدرات على التأثير والإمتاع ونظراً لغرابتها وانعدام مألوفيتها في ذهنه . ومما تقدم يمكن القول إن الشاعر أحمد العواضي في تشكيله للصور التراسلية ،لم يقف عند حدود المفردات الحسية على أنها قيم شكلية تمثل إضافة بلاغية للمعنى المحسوس بالمفهوم التقليدي بل إن تلك المفردات قد شكلت بتنافرها وتشابكها جزءاً أساساً في بناءالصورة الشعرية الحسية ، لتغدو تلك المفردات انعكاسات وتبادلات في الواقع النفسي والواقع الشعري في القصيدة. وذلك ما اتضح بشكل أكثر جلاءً في الصور التي مثلت تداخلاً للحواس وتشاركاً فيما بينها ، ليتجلى بوساطتها أن الشاعر يصب اهتمامه في تشكيل صوره على ما هو أبعد من العلاقات الجزئية بين الصور الحسية ومفرداتها المحدودة ؛ ليصل إلى ما يعبر عن داخله هو وإحساساته ؛ لتتمخض عن معجم لغوي حواسي خاص يتواءم ومنطق التجربة ورؤى الذات وانفعالاتها . ( 1 ) ينظر: الصورة الاستعارية في الشعر العربي الحديث ، ص 117 ، وأيضاً : الأصابع في موقدالشعر، مقدمة مقترحة لقراءة القصيدة ، حاتم الصكر ، دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد 1986 ، ص 86 ومابعدها. ( 2 ) في الرؤيا الشعرية المعاصرة ، أحمد نصيف الجنابي ، وزارة الإعلام الجمهورية العراقية ،د ت ، ص 22 . ( 3 ) الصورةالبيانية في شعر عمر أبي ريشة ، ص 136 . ( 4 ) الأدوالغرابة دراسات بنيوية في الأدب العربي ، عبد الفتاح كيليطو ، دار الط يعة ، طب 3، بيروت 1997 ، ص 60 . ( 5 ) ظاهرةالشعر المعاصر في المغرب ، ص 231 . ( 6 ) الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة ، د.شاكر عبد الحميد ، الهيئةالمصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1992 ، ص 85 . ( 7 ) مقامات الدهشة ، ص 25 . ( 8 ) اتجاهات الشعرالعربي المعاصر ، ص 140 . ( 9 ) الشعريةالعربية ، أدونيس ، ص 73 . ( 10 ) مقامات الدهشة ، ص 31 . ( 11 ) إن بي رغبة للبكاء ، ص 17 . ( 12 ) نقلاًعن : الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، ص 143 .