رئيس الاتحاد العام للكونغ فو يؤكد ... واجب الشركات والمؤسسات الوطنية ضروري لدعم الشباب والرياضة    أمطار رعدية على عدد من المحافظات اليمنية.. وتحذيرات من الصواعق    إعلان حوثي رسمي عن عملية عسكرية في مارب.. عقب إسقاط طائرة أمريكية    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن بقوة السلاح.. ومواطنون يتصدون لحملة سطو مماثلة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    مأساة في ذمار .. انهيار منزل على رؤوس ساكنيه بسبب الأمطار ووفاة أم وطفليها    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التخييل في الشعر
نشر في الجمهورية يوم 28 - 03 - 2011

مازالت مسألة الغموض والوضوح في الشعر تحتل مساحة لا بأس بها على صعيد التعامل مع الشعر، نقداً، أو قراءة، وتكاد لا تخلو دراسة للشعر، قديمه، وجديده، من المرور على هذه المسألة صراحة أو ضمناً.. ولعل هذه المسألة من أكثر المسائل حساسية، في أهم فن عربي هو الشعر، وربما كانت طريقة الحوار الاتهامية –في معظم الأحايين- السبب في إفساح المجال لولادة آراء نقدية –لا تستند في معظمها- إلى أساس تاريخي، له علاقة بفهم التراث العربي فهماً علمياً صحيحاً.
إننا في مرحلة أحوج ما نكون فيها إلى تأصيل نظرتنا إلى الشعر، والتعامل معه بروح العصر، دون أن نفقد من ملامحنا، التي كونها ذلك التراكم التاريخي الهائل، والمتقدم في زمنه كثيراً- ولايزال بعضه يحتفظ بهذا التقدم- في مجال الشعر، وفي طريقة النظر إليه.
القول بلا تراثية الغموض لا يفضي إلى فهم التراث الشعري العربي، كما أن القول الآخر الذي يجعل الغموض خاصية أساسية من خواص الشعر الحديث لا يؤدي إلى فهم الشعر الحديث، ذلك أن كلا الموقفين لا يستند إلى فهم صحيح للتراث أو المعاصرة.
صحيح أن الشعر الحديث يفترق عن الشعر القديم في قضايا هامة، ولكن هذا الافتراق، في رأيي –يصل إلى مسألة الغموض ولا يتطرق إليها، ذلك أن الغموض هو خيط السبحة، الذي يربط حلقات هذا الشعر التاريخية، عبر كل المراحل، وهو الصفة الملازمة له، في أي شكل ظهر فيه، لذلك يمكن القول أن الغموض خاصية جوهرية من خصائص شعرنا العربي، في كل حلقاته التاريخية، انطلاقاً من خاصية أصله، ومصدره، وهو الخيال.
الغموض حالة مقابلة للوضوح –ولا يشك في هذا أحد، ذلك أن جوهر الحياة يكمن في هذه الثنائيات الضدية(1)، لذلك فلا غرابة إذا قررنا منذ البداية، أن الغموض هو الحالة الناشئة عن المجاز في استخدام اللغة، هذا المجاز المناقض لاستخدام اللغة في النثر، فكلما كان المجاز أبعد عن النثر أو المستعمل كلما كان ذلك فناً شعرياً، ولا شك أن هذا المجاز مصدره الخيال –كما أسلفنا- والوضوح “أي النتر” مصدره العقل، ومن الخطورة بمكان أن نتعامل مع أحدهما بأدوات الآخر، رغم إقرارنا المبدئي بفاعلية مخيلة الشاعر تحت مظلة عقله، واستطراداً يمكن القول أن الفن هو في قدرة الفنان على إنشاء علاقات لغوية تخيلية “مجازية في نصه الشعري” وإلا فكيف يكون النص شعراً إذا كان نثراً؟! وهنا يجب التذكير بأن هناك أنواعاً أدبية كالقصة والرواية مثلاً يحفلان بمناخات الشعر وأجوائه ولكنهما ليسا شعراً.
إن الانطلاق من تقسيم الفلاسفة العرب المسلمين، للقوى النفسانية المدركة، أو المرتبة بحسب قدرتها على تجريد المادة يعطينا فكرة واضحة عن دور “الخيال” الذي سماه كولريدج فيما بعد الخيال الأولي أو العفوي، و“التخيل” الذي يتضمن فعلاً إرادياً عند الفلاسفة العرب المسلمين، أو “الخيال الثاني” المبدع بحسب كولريدج فيما بعد أيضاً.
يستنتج من هذا أن الفلاسفة العرب ميزوا بوضوح بين الخيال، والتخيل، فنظروا إلى “التخيل” بمعنى موقف الشاعر(2)، أي أن التخيل فعل إرادي يمارسه الشاعر الذي يختار موضوعاته –أو أن حساسيته هي التي تفرضها عليه- انطلاقاً من كونه كائناً اجتماعياً، يمارس دوره وفق هذا المعطى، فهو كالصياد الذي لا يتدخل إلا إذا نبهته رعشة حباله(3) فيعالج هذه الرعشة معالجة “تخيلية” أي “قصيدة”، وما على المتلقي بعدئذ إلا أن يعيد إنتاج الصورة الشعرية المتولدة من الخيال، من جديد، أي أن يمارس فعل “التخيل”(4).
التخيل هنا هو الخيال، ولكن في حالته الواعية، الإرادية، أي في حالة توظيف الشاعر له، الذي يظهر، في الصورة الشعرية، وما القصيدة في النهاية، إلا مجموعة هذه الصور المتراصفة والمتداخلة مع بعضها.
إن التخيل الشعري، حركة متعددة الأبعاد –في رأي حازم القرطاجني- تعتمد على المعنى، والأسلوب، واللفظ، والنظم، والوزن، لأن الألفاظ في الشعر غير منفصلة عن الوزن، لأن وزنها خاصية تنبع من كيفية إيقاع التناسب بين عناصرها، الصوتية التي تتجاوب مع تناسب المعنى(5).
صحيح أن العناصر الصوتية –في رأي حازم- سمعية خارجية، ولكن هذا لا يغير كثيراً الآن، إذ إن قراءتنا للشعر وإن كانت غير مسموعة خارجياً فهي مصوتة، ومسموعة داخلياً.
في ماذا إذن يختلف العقل عن الخيال؟
بالعودة إلى التراث الفلسفي والنقدي العربي يمكن استنتاج أربعة أمور:
أولاً: العقل يعتمد في قضاياه على البرهان، أما الشعر فليس معنياً بالبرهنة على القضايا التي يعالجها، سواء كانت داخلية أو خارجية.
ثانياً: العقل –في النهاية- معني بصدق أو كذب قضيته، أما الشعر فيؤخذ من حيث هو كلام مخيل(6). والعلاقة بين مفردات قضاياه التي يعالجها احتمالية غير مؤكدة الوقوع أو الوجود حسياً، لكن يمكن وجود ما يشبهها.
من الضروري هنا الفصل بين مسألتي: الصدق والكذب، إن ما يبدو للمتلقي كذباً أو غير صادق، ليس الكذب بالمعنى العقلي الأنطولوجي، لقد سبق لقدامة أن رأى الفرق الواضح بين الكذب والمبالغة “الحالة الضرورية في الشعر” لأن الكذب أن تدعي ما ليس موجوداً في الحقيقة، أما المبالغة فهي ضرب من التجاوز في التصوير(7) نافيا‌ً بذلك القيمة النقدية التي رددت أو تردد “أعذب الشعر أكذبه”، لذلك فإن الشاعر لا يكذب، بمعنى آخر أن المسائل المستقبلية –وهي الجوهرية في فعل الشاعر- لا علاقة لها بالكذب، بل بالأحلام، والطموحات.
ثالثاً: المسائل العلمية –الناتجة عن العقل- وضعية، محايدة مفارقة الجوانب الذاتية، ولا أرى أننا بحاجة لإثبات أهمية، وعظمة الجوانب الذاتية في الشعر، وتتعامل –أي المسائل العلمية- مع المفاهيم والتصورات باعتبارها مقولات مفارقة للمستويات الحسية.
رابعاً: إن المعرفة التخيلية أو التخييلية، لا يمكن أن تنفصل عن الحس، في الوقت الذي تكون فيه المعرفة العقلية مبرأة من الحس، بمعنى أن المخيلة والعقل يجردان، ولكن تجريد الأولى جزئي، لكي يتمكن المتلقي من إعادة إنتاج الصورة الشعرية الصادرة عن مخيلة الشاعر(8)، أي تجريد ممكن، أما تجريد الثاني، فكلي، وبريء من المادة ولواحقها(9)، لا قيمة للكلمة إلا باعتبارها محض علامة فحسب، تساوي في القيمة، الرمز الرياضي، أو العلاقة الجبرية، وعلى العكس من ذلك لغة الشعر حيث تصبح العلاقة بين الكلمة والشيء علاقة معقدة، تتجاوز فيها الكلمة مستوى العلاقة داخل تشكيل لغوي متميز بفاعلية سياقه، يمنحها تعدداً في الدلالة، وثراء في الإشارة(10).
إن فصلنا بين الخيال والعقل –وهو فصل غير قطعي- لا يلغي مشروعية التساؤل عن وجود خيال علمي، ولكنه يختلف عن الخيال الشعري، في أن الأول سابق لتحققه، وعملية تحققه على الصعيد الحسي، المادي، يلغيه خيالاً، إذ لا حاجة للإنسان لإعادة تخيله من جديد.
أما الخيال الثاني فسابق، ولاحق، -إذا اعتبرنا القصيدة صيغة تحققية للخيال- مع الأخذ بعين الاعتبار أن الخيال الشعري غير مطلوب منه تحقيق نفسه كالخيال العلمي: ليس المطلوب مشاهدة تلفت القلب، لأن ذلك غير ممكن- بل تخيله.
الغموض في الشعر حالة ملازمة له –ويجب أن تكون كذلك- لأن المعاني وإن كانت تقتضي الإعراب عنها، والتصريح عن مفهوماتها، فقد يقصد في كثير من المواضيع إغماضها، وإغلاق أبواب الكلام دونها، في رأي حازم القرطاجني(11).
كيف يمارس الشاعر إغماض معانيه في شعره؟
سؤال على جانب كبير من الأهمية، معني بنتائج عمل المخيلة عبر أهم نتائجها، وهو الصورة الشعرية.
من البدهي القول أن الشعر مجاز، ولقد سبق لابن رشد أن أعجب بهذين البيتين:
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
لقوله “أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وسالت بأعناق المطي الأباطح” بدل قوله “تحدثنا ومشينا”. وإشارته أيضاً لهذا البيت:
تبت يدي إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
لقوله “بعيدة مهوى القرط” بدل قوله “طويلة العنق” وذلك لمجازية المعنى في كلا الشاهدين.
والواقع أن بيتاً كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
ليس شعراً إلا لدخول “تلفت القلب” ذلك أن كل ما عداها “نثر” بلغة عصرنا، فأصبح شعراً لدخول المخيلة فيه من جهة أن القلب لا يتلفت إلا في مخيلتنا، فبدخولها تحولت العلاقات اللغوية داخل البيت الشعري إلى مستوى آخر غير نثري، كقول أحدهم:
فلا تتركي نفسي شعاعاً كأنها
من الحزن قد كادت عليك تذوب
وكقول أحدهم أيضاً:
وليس الذي يجري من العين ماؤها
ولكنها نفس تذوب فتقطر
والعلاقة الخيالية في البيتين واضحة من حيث اعتبار المعنوي مادياً يذوب خلافاً للواقع المحسوس.
إننا لا نستطيع “بعقلنا” تفسير هذه الحالة “ذوبان النفس” ولكننا نستطيع تخيلها بالتأكيد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إعادة تخيل الصورة ليس قبضاً لها، ولكنه شعور بفهمها دون إمكانية شرحها. أو توضيحها، وهذه مسألة هامة في نتاج الخيال بصفة عامة.
ربما كانت هذه الحالة هي السبب في نفور بعضهم من الشعر الغامض، ذلك أن من ينفر منه، يهجس دائماً بالقبض على الأشياء دون أن تفلت منه، وسبب ذلك –في رأيي- يعود إلى أننا نحاول أحياناً فهم الشعر بأدوات العقل، التناسب الدقيق بين الألفاظ، والمعاني، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ..إلخ. فهل يصح هذا في الخيال؟ إن الاسم المستعار كلما كان قدمه أثبت في مكانه، وكان موضعه في الكلام أضن به وأشد محاماة عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر، وتصرح بالتشبيه، فأمر التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلم له أظهر وأتم(12).
والشاعر في سعيه الدائم إلى الحالة الفنية المطلوبة في الشعر –أي الشعر بمثابته مجازاً، صورة شعرية- فإن الصورة الشعرية “لنعترف” لا يمكن أن تخدم الموقف الفني، إذا لم يكن الموقف الحياتي، الاجتماعي، الفلسفي واضحاً لدى الشاعر سلفاً، بمعنى آخر: الصورة الشعرية بمثابتها مجازاً أي شعراً لا يمكن أن تكون مفيدة، أو حتى شعراً‍ إلا إذا جاءت في سياق رؤيا الشاعر المرجعية.
هذا لا يمنع من وجود صور شعرية كثيرة يعاني المتلقي –الذي تتعدد نماذجه بتعدد مستويات ثقافية- خلال إعادة تخيلها من جديد، على الرغم من هذه المعاناة لا تعني عدم التواصل مع الشاعر، لكنها لا بد من أن تتبلور في مخيلته بقدر جهده، وثقافته.
أمشي على فرح الهواء جماجم
تمشي على قدمي
وأصوات مكسرة،
وتمشي في ثيابي
ذرية القتلى..
أعلقها على شجر
تعلق بي،
وأمشي
يمشي معي شجري،
ويتبعني ترابي(13)..
ذلك أن الصورة بقدر ما تكون مركبة يكون الرجوع إلى الظاهر صعباً، وأمر التخييل فيه أقوى وأتم، فلو حاولنا إيجاد معادل حسي واقعي لحالة المشي على الهواء مثلاً، أو كيفية مشي ذرية القتلى في ثيابه، لما استطعنا إيجاد ذلك إلا في مخيلتنا.
إنها أغنيتي
سوسنةٌ..
يمامة
رغيف خبز
وقمر.(14)
فالأغنية هنا، وهي طرف معنوي، أعطاها الشاعر أربعة أطراف مادية حسية معادلة لها.
ومع ذلك فليست كل الصور مؤلفة من هذين الطرفين، المعنوي، والحسي، ولكنها يمكن أن تؤلف أو تصاغ من طرفين ماديين، أو معنويين، ولكن العلاقة بينهما مجازية، احتمالية غير متوقعة ولا يمكن أن يلتقيا إلا في خيالي الشاعر والملتقي:
كان عصفور يزق النبع بالقبلة
والنبع سرير من شجر(15)
نستطيع أن نقبض هنا على الأطراف المادية “الحسية” التي تتألف منها هذه الصورة.
إننا نصادف نوعين من الصور، الأول بين أطرافه علاقة من مستوى واحد هي ما يمكن تسميتها “الصور البسيطة” أما النوع الثاني فيتميز بتعدد العلاقات داخل النسق الشعري الواحد، أي ما يمكن أن ندعوه “الصور المركبة”:
شجرة غارقة بالماء واليخضور
داخلة بين الندى والأفق، وانتشار
غيمة من الطيور
في كل صبح تلتقي به على ضفاف
قلبه المسحور(16)
وبرغم أهمية ما نسميه النثر ووظيفته فإن كمية الشعر في القصيدة لا تأتي إلا من كمية المخيلة فيها.
ينتج الغموض إذن عن الخيال الذي يمارس فعله عبر مستويين:
الأول: مستوى العلاقات غير المتوقعة سلفاً من قبل المتلقي، والتي لا يمكن أن تكون عقلية أو منطقية.
الثاني: عبر ما يسميه الفلاسفة والنقاد العرب “المحاكاة” التي لا يمكن أن تكون مجرد نقل حرفي للواقع أو العالم، وإنما هي صياغة لموقف المبدع من الواقع أو العالم، أي تشكيل لمعطياته في المخيلة، إلى الدرجة التي تجعل المتلقي، كأنه يواجه ما لم يعرفه من قبل(20) لا شك أن معرفة غير المعروف من قبل بالنسبة للمتلقي سبب أساسي من أسباب المتعة الفنية، ولكنها ليست السبب الوحيد، إذ إن هناك سبباً آخر مهم هو أن الشاعر يهجس في شعره بما هو أكثر أصالة وجذرية في حياة الناس “الحزن، وقلق الوجود” مثلاً من حيث أنها مشاعر “جوانية”:
كأنا خلقنا للنوى وكأنما
حرام على الأيام أن نتجمعا
وأيضاً:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وأيضاً “قلق الوجود”:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملحوم
طبعاً، يمكن الاستشهاد بكثير من الأبيات الأخرى التي تتضمن حالة تراجيدية مأساوية، ولو حاولنا أ ن ننظر، أو نتعامل مع الأبيات السابقة بمثابتها فناً لما أمكننا ذلك إذ لا فن فيها أي لا صورة شعرية ولكنها مع ذلك تحقق لنا متعة ولو أنها سهلة المنال، خالية من المجاهدة التي يرتبها علينا الفن والتعامل معه، سببها قدرة الشاعر على التعبير عن هذه “الجوانية” المشتركة بين الناس جميعاً، والتي ستفضي إلى إحساس غامر بأن الشاعر يتحدث نيابة عنا وبطريقة أفضل من طريقتنا.
هدف المحاكاة هنا إذن تخليص الواقع المعاش من شوائبه لنحل محلها ما يجب أن يكون، وهذا متعة في حد ذاته، فالشاعر يطمح باستمرار إلى معايشة عالم مكتمل، والواقع بالنسبة إليه ليس إلا هذا العالم غير المكتمل، فماذا يفعل إذن؟ إنه يأخذ مفردات هذا الواقع ثم يعيد صياغتها في مخيلته، وانطلاقاً من العلاقة الوثيقة بين الخيال والحلم، فإن الشاعر يظل حالماً باستمرار بعالم لا مثيل له إلا في مخيلته هو، ولهذا فإنه كائن مستقبلي دائماً، يرى الحاضر غير مكتمل، وباعتبار أن المستقبل سيصبح واقعاً في لحظة تاريخية ما، فسيصبح غير مكتمل أيضاً، ولأن العلاقة ستبقى هكذا دائماً، فإن الشاعر لا يكف عن تشييد علمه عبر رؤاه. وخيباته المستمرة في وجود عالم واقعي غير ناقص، لهذا يظل الشاعر خاسراً لحالة الاندماج في الواقع، منفصلاً عنه، تاركاً مسافة يظل من خلالها يرى الواقع بكل تفاصيله، لكي يستطيع لملمة مفرداته، من أجل بناء عالم –في مخيلته- بديل لهذا العالم غير المكتمل، وبالتالي غير الجميل أيضاً. إن العالم والحياة، والواقع ليس في نظر الشاعر إلا نثراً، ولكنه بمثابة فنان يحوله إلى شعر، من علاقات منطقية، واقعية، محددة الأبعاد، ومدركة بالحواس، إلى عالم مجازي، متخيل تشكل ذات الشاعر، -انطلاقاً من كونه الصائغ والمبدع- محوره، ونقطة ارتكازه الأساسية، وعامل توازنه الداخلي.
الشاعر خلال إعادة صياغته للعالم، يبدع كلاً متكاملاً، وهذا هو الفرق الأساسي بينه وبين العالم، إنه يركب، بينما يتناول العالم الأشياء جزءاً فجزءاً.
سيظل الفنان –والشاعر فنان- يركب ويعيد صياغة الأشياء في محاولة مستمرة منه لكي تصبح جميلة، وشاعرية، وتلك مهمته الدائمة.
الحواشي:
(1) يمكن العودة إلى كتاب المفكر العربي محمد أركون –الفكر العربي- بخصوص هذه المسألة.
(2) د. إلفت كمال الروبي –نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين- دار التنوير بيروت ط1 1982 ص19 وما بعدها.
(3) د. مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلس، بيروت ط2 1981 ص 38.
(4) عباس إبراهيم، مقدمة في الصورة الشعرية –دراسة- مجلة الثقافة العربية- العدد السادس 1984 –طرابلس- ليبيا.
(5) د. جابر عصفور. مفهوم الشعر، دار التنوير، بيروت ط2 1982 ص244.
(6) المصدر السابق ص 213.
(7) المصدر السابق ص106.
(8) عباس إبراهيم المصدر السابق.
(9) د. ألفت كمال الروبي- مصدر سابق ص 52.
(10) د. جابر عصفور –مفهوم الشعر- ص216 مصدر سابق.
(11) المصدر السابق ص 213.
(12) د. تامر سلوم، نظرية اللغة والجمال في النقد العربي –دار الحوار، اللاذقية ط1 1983 ص 171 نقلاً عن الجرجاني، أسرار البلاغة ص 2950.
(13) محمد عمران، اسم الماء والهواء، وزارة الثقافة، دمشق، ط1 1986 ص 90.
(14) عبدالقادر الحصني، الشجرة وعشق آخر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ط1 1980 ص90.
(15) ممدوح السكاف، انهيارات –اتحاد الكتاب العرب، دمشق ط1 1985.
(16) عبدالكريم الناعم، احتراق عباد الشمس، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1 1984 ص63.
(17) محمد علي شمس الدين، قصيدة الطواف حول المنزل، جريدة تشرين 10 /10 /1988.
(18) د. جابر عصفور، مفهوم الشعر، مصدر سابق ص 207.
(19) مصطفى خضر، رماد الكائن الشعري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1 1985 ص96.
(20) جابر عصفور –مفهوم الشعر، ص 200-مصدر سابق.
(21) د. مصطفى ناصف- مصدر سابق ص192.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.