يشتغل مصطلح «التشكيل» بمضمونه الجمالي والتعبيري عادةً في حقل الفنون الجميلة، وفي فن «الرسم» خصوصاً، إلى الدرجة التي أصبح فيها مفهومه دالاً على فن الرسم أو يساويه في أكثر الأحيان..وإذ أخذت فعالية التداخل بين الفنون الآن بعداً واسعاً وعميقاً ودينامياً، فإن ترحيل الكثير من المصطلحات والمفاهيم والصيغ والأساليب التي تعمل في فن من الفنون إلى حقول فنون أخرى أصبح من الأمور الميسورة والضرورية والسريعة التحقق، وصارت عملية الأخذ والاستعارة والاكتساب والترحيل والتضافر والتلقي والاستيعاب والتمثّل والتشغيل والدمج من الأمور الماثلة والطبيعية في ظل هذا المناخ، وهو يحقق الصورة الأكثر حضوراً وصيرورة لجدوى هذا التداخل وقيمته ومعناه. تكاد تجمع كلّ المعاجم اللغوية العربية التي تتناول هذا المصطلح - لغةً - بالعودة إلى جذره اللغوي «شكّل: تشكيل»، على أن معنى الفعل يتصّل بالجانب التصوّري والتمثيلي «تشكّل: تصوّر وتمثّل»(1)، وأسهم المستوى الاصطلاحي - بعد ذلك - في استكمال صيرورة الفعل بهذا المعنى، والارتفاع به نحو بلوغ حدّه التصويري والتعبيري الأقصى. لا شك في أن البعد البصري في المفهوم يكاد يهيمن على فضاء حركة المعنى ودلالاته في المصطلح، وحين يُرحّل المصطلح هنا إلى فضاء النص الأدبي فإنه يسهم أولاً في تحرير النص المكتوب والمقيّد من خطيته، ونقله إلى موقع التناول البصري بوصفه مستوى جديداً مرشّحاً للقراءة يضاف إلى المستوى التأملي الذهني المتداول، ويحرّض مجتمع التلقي على السعي لاستكشاف وتمثّل وقراءة البعد البصري في النص المكتوب. إذا ما عدنا في بحثنا الاصطلاحي إلى الجذور المفهومية ل«التشكيل» في الثقافة الأدبية المكتوبة، سنجد أن المرجعية الأساس التي يمكننا من خلالها تحرّي حضور نوعي ما لهذا المصطلح تكمن في الثنائية التقليدية «ثنائية الشكل والمضمون»، التي هيمنت فترة طويلة على فعالية رصد حركة إشكالية المعنى النصّي في المدوّنة النقدية القديمة. في المدوّنة النقدية الحديثة، حيث حصل التقدّم الثقافي والرؤيوي والمنهجي الكبير والواسع والعميق، الذي نقل النظريات والمصطلحات والمفاهيم والتعريفات إلى منطقة إدراك وتلقٍ جديدة، استبدلت ب«ثنائية الشكل والمضمون» التقليدية ثنائية جديدة هي «ثنائية التشكيل والرؤيا»، إذ تحوّل «الشكل» بمعناه المجرّد والبسيط والأحادي إلى «التشكيل» بمعناه المركّب والمعقّد والمتعدد، وتحوّل «المضمون» بمعناه المباشر والكمّي والقصدي إلى «الرؤيا» بمعناها الحلمي والنوعي واللاقصدي، على النحو الذي يجيب فيه الفضاء الجديد لثنائية «التشكيل والرؤيا» عن أسئلة المنهج الحديث برؤيته الشاملة ذات المنحى الإشكالي الشديد الكثافة والخصوبة والتحدّي. إذن بوسعنا القول في هذا الإطار، واستناداً إلى هذه المرجعية المفهومية والاصطلاحية إن «التشكيل» هو «الشكل» - في وضعية صيرورة وتمثّل دائم ومتموّج للرؤيا، وحراك دينامي حيّ حتى في منطقة التلقي. تتوافر في مصطلح «التشكيل» خاصيات المرونة والرحابة والدينامية في الطبقتين السطحية والعميقة للمصطلح، فهو لا يتلبّث في منطقة معينة ومحددة من النص، بل يتمظهر في كل منطقة وزاوية وبطانة وظلّ منه يمكنها أن تسهم في إنتاج حساسية التصوير والتمثّل، ويكون على هذا الأساس مصطلحاً (فوق نصّي أو ما بعد نصّي)، أي أنه يمثّل النص في حالة تشبّعه الفني وامتلائه الجمالي، الغائرة في فضاء القراءة والمتفتّحة بين يدي التداول. إن مفهوم «الرؤيا» المصاحب ل«التشكيل» في منطقة عمل الثنائية، ينطوي على إمكانات كثيفة وعميقة وخصبة ذات حراك وتموّج دائم، لا يستوعبها مفهوم الشكل (الثابت) بمنطقِهِ الذي يحيل على الحدود والأطر والثوابت الأسلوبية والدلالية، لذا فليس بوسع «الرؤيا» في هذا السياق التوجه إلى مفهوم «المضمون» من أجل التفاعل معه لإيجاد النص، كما هي الحال في مفهوم الشكل الذي يناسب تماماً مفهوم المضمون، على النحو الذي يبحث له عن مكافئ مفهومي جديد يناسبه ويضاهيه ويعادله ويرتقي إلى مستوى حساسيته، ولا يجد ذلك بطبيعة الحال إلا في «التشكيل». إذا ما حاولنا تطبيق ذلك (أي علاقة الرؤيا بالتشكيل) على اللوحة الفنية في فن الرسم فسنجد أن «التشكيل يتلبّس الرؤيا»، فتتحرك الخطوط والكتل والألوان على سطح اللوحة وفي أعماقها في فعالية حراك سيميائية خارج مربّع اللوحة، وتصبح فضاءً جمالياً رحباً ومفتوحاً وثريّاً على صعيد الكينونة النصيّة، وقابلاً ومهيأً بأعلى مستويات الكفاءة لاستقبال رغبة القراءة وشهوة التأويل على صعيد التواصل والتداول وإنتاج المعنى. يتألف «التشكيل» من شبكة عناصر ومكوّنات وأدوات تحتشد في سياق تكويني مؤتلف لبناء فضاء المصطلح، و«تتمثل عناصر النجاح التشكيلي في (الاندماج)، (التوازن)، (الذروة)، وحين يتم التشكيل بنوعيه الواعي والتلقائي لا بدّ من تحقيق عنصر الاندماج والتماسك»، الذي يمنح النص قوّته الجمالية والفنية في التشكيل والتعبير والتصوير. «التشكيل» بهذا المعنى يدلّ على الرسم بوصفه نصاً إبداعياً بصرياً يتضمّن خطاباً متحدياً ومحفزاً ومثيراً للتأويل، وهذا المعنى الإشكالي بالذات هو الذي أخذه الأدب وسخّره لوصف نصه الأدبي في حالة استكماله بعد حلول الرؤيا فيه، وبعد أن يتمّ السماح لتقانات الرؤيا بلوغ أعلى مراحل تعبيرها بأعلى طاقة حرية ممكنة ومتاحة ومناسبة وضرورية. ثمة ما يمكن أن نصطلح عليه فنياً وجمالياً في هذا السياق ب«التشكيل العام» الذي يقارب المجال (النصّي الأجناسي) في درجته الكلية الشاملة، وثمة ما يتمفصل على أساس الأجناس والأشكال النصيّة فنصطلح به على «التشكيل الشعري» و«التشكيل السردي» و«التشكيل الدرامي» و«التشكيل السيرذاتي» ...إلخ، وثمة ما يدخل في سياق التشكيل الخاص (التشكيل النصّي للعناصر)، فنصطلح على «تشكيل الشخصية» و«تشكيل الزمن» و«تشكيل المكان» و«تشكيل الحدث» ...إلخ أيضاً، بحيث تتحقق فكرة الشمول والتنوع والتعدد والتشعّب في فضاء المصطلح. يعدّ مصطلح التشكيل بمفهوماته المتعددة والمتنوعة والمتشعبة على هذا الأساس أحد العناصر الأساسية في تكوين الخطاب الأدبي بمتنه النصّي، ولا بدّ من إدراكه وفهمه وتحليله إذا ما أردنا فحص الخطاب في مجاله النصّي ومعاينته نقدياً، وربما لا تصلح أية فاعلية نقدية ولا يكتب لها النجاح إن تجاوزت في منهجها النظر العميق والحيوي في فضاء التشكيل ومظاهره وحالاته، بوصفه مجالاً حيوياً عميقاً للنظر والتحليل والكشف عن خاصية الفاعلية الجمالية التي يكون الخطاب الأدبي بنصّه المدوّن قد حققها. حظي مصطلح «التشكيل» في دائرة المنهجيات الحديثة المشتغلة إجرائياً في حاضنة النصوص بأهمية خاصة واحتفاء استثنائي نوعي، إذ تعاملت معه بوصفه الوجه الاصطلاحي الحقيقي المنتج لجمالية الخطاب الأدبي، وقررت في الكثير من مقولاتها أن لا سبيل إلى إدراك النص واختراق فجواته وتحليل نظمه، من دون الاشتغال على منطقة التشكيل الحيوية والكثيفة، وقراءة أنموذج «التشكيل» الفني والكشف عن طبقات اشتغاله الجمالية. إن الأنموذج النصّي في الأشكال الفنية عموماً والأجناس الأدبية على نحو أخصّ هو في ظلّ هذا المنظور «تشكيل قبل أن يكون جمالاً»(2)، بما يتكشّف عنه فضاء التشكيل وأدواته الفاعلة من قدرات خلاّقة في إنتاج جماليات، تموّن فيها النص في كلّ مراحل بنيته وتشكيله، من البنية، إلى الخطاب، إلى النص، وصولاً إلى التشكيل. يتألف «التشكيل» من شبكة عناصر ومكوّنات وأدوات تحتشد في سياق تكويني مؤتلف لبناء فضاء المصطلح، و«تتمثل عناصر النجاح التشكيلي في (الاندماج)، (التوازن)، (الذروة)، وحين يتم التشكيل بنوعيه الواعي والتلقائي لا بدّ من تحقيق عنصر الاندماج والتماسك»(3)، الذي يمنح النص قوّته الجمالية والفنية في التشكيل والتعبير والتصوير. يشتغل «التشكيل» بوصفه مصطلحاً أدبياً في مجال فن الشعر على نطاق واسع، ويتمظهر على هذا الأساس مصطلح «التشكيل الشعري» تمظهراً كبيراً في الاستعمال النقدي، وهو يصف الحراك الفني والجمالي والسيميائي داخل بنية القصيدة وخارجها وحولها وفي فضائها.