يمثل الغموض في النص الأدبي عاملاً مهماً للتأثير في المتلقي لما يحمله من مزايا تشحذ عقله وتدفعه للتفكير والمشاركة الإيجابية الفعالة.. وبداية نتوقف أمام ما تعنيه لفظة «الغموض» في اللغة، وذلك لكونها نقطة مهمة لازمة في توضيح هذا الأمر كما يجب التفرقة بين لفظتين تبدوان متشابهتين وهما (الغموض والإبهام).أولاً: الغموض: أشارت المعاجم العربية القديمة إلى الغموض من خلال استخداماته اللغوية المختلفة، فيقول صاحب لسان العرب: «ومُغْمِضاتُ الليلِ دَياجِير ظُلَمِه وغَمُضَ يَغْمُضُ غُمُوضاً وفيه غُمُوض... والغامِضُ من الكلام خلافُ الواضح... والغامِضُ من الرجال الفاتِرُ عن الحَمْلة... ويقال للرجل الجيِّدِ الرأْي قد أَغْمَضَ النظر ابن سيده وأَغْمَضَ النظر إِذا أَحْسَنَ النظر أو جاء برأْي جيِّد وأَغْمَضَ في الرأْي أَصابَ ومسأَلة غامِضةٌ فيها نَظر ودِقّةٌ ودارٌ غامِضةٌ إِذا لم تكن على شارع.. وحَسَبٌ غامِض غير مشهور ومعنىً غامِضٌ لطِيف»(1)، فالغموض فيه لطف والمسألة الغامضة هي التي تحمل في طياتها النظر والدقة. هذا في اللغة العربية أما الإنجليزية ففي Oxford Word power فتعني كلمة (Ambiguity) «الغموض هو ما يمنح الفهم من أكثر من طريق أو تعدد احتمالات المعنى»(2)، كما يحمل مصطلح (Figure of speech) في الإنجليزية المعاصرة معنى اللغة المجازية، «وهي تعني تلك اللغة التي تمثل المستوى الفني والجمالي المتصل بالدلالات والرموز المرتبطة بالأعمال الإبداعية(3). ثانياً: الإبهام: أما عن الإبهام فيقول ابن منظور عنه: «وقال الزجاج في قوله عز وجل: «أُحِلَّتْ لكم بَهِيمة الأَنْعامِ» وإنما قيل لها بَهِيمةُ الأَنْعامِ لأَنَّ كلَّ حَيٍّ لا يَميِّز فهو بَهِيمة لأَنه أُبْهِم عن أَن يميِّز ويقال: أُبْهِم عن الكلام وطريقٌ مُبْهَمٌ إذا كان خَفِيّاً لا يَسْتَبين ويقال ضرَبه فوقع مُبْهَماً أَي مَغْشيّاً عليه لا يَنْطِق ولا يميِّز ووقع في بُهْمةٍ لا يتَّجه لها أَي خُطَّة شديدة واستَبْهَم عليهم الأَمرُ لم يدْرُوا كيف يأْتون له واسْتَبْهَم عليه الأَمر أَي استَغْلَق وتَبَهَّم أَيضاً إذا أُرْتِجَ عليه وروى ثعلب أَن ابن الأَعرابي أَنشده: أَعْيَيْتَني كلَّ العَياِء فلا أَغَرَّ ولا بَهِيم قال يُضْرَب مثلاً للأَمر إذا أَشكل لم تَتَّضِحْ جِهتَه واستقامَتُه ومعرِفته وأَنشد في مثله: تَفَرَّقَتِ المَخاضُ على يسارٍ فما يَدْرِي أَيُخْثِرُ أَم يُذِيبُ وأَمرٌ مُبْهَمِ لا مَأْتَى له واسْتَبْهَم الأَمْرُ إذا اسْتَغْلَق فهو مُسْتَبْهِم وفي حديث عليّ كان إذا نَزَل به إحْدى المُبْهَمات كَشَفَها، يُريدُ مسألةً مُعضِلةً مُشْكِلة شاقَّة، سمِّيت مُبْهَمة لأَنها أُبْهِمت عن البيان فلم يُجْعل عليها دليل، ومنه قيل لِما لا يَنْطِق بَهِيمة وفي حديث قُسٍّ: تَجْلُو دُجُنَّاتِ الدَّياجي والبُهَم، البُهَم: جمع بُهْمَة بالضم وهي مُشكلات الأُمور وكلام مُبْهَم لا يعرَف له وَجْه يؤتى منه، مأخوذ من قولهم حائط مُبْهَم إذا لم يكن فيه بابٌ. ابن السكيت: أَبْهَمَ عليّ الأَمْرَ إذا لم يَجعل له وجهاً أَعرِفُه، وإبْهامُ الأَمر أَن يَشْتَبه فلا يعرَف وجهُه وقد أَبْهَمه، وحائط مُبْهَم لا باب فيه، وبابٌ مُبْهَم مُغلَق لا يُهْتَدى لفتحِه إذا أُغْلِق»(4)، والإبهام هنا يحمل الاستغلاق عن الفهم، والتخبط لانعدام وضوح الهدف، فالإبهام أشد من الغموض لعدم وجود هدف يذهب إليه الإنسان. وقد استخدم سيبويه(ت 180ه) مصطلح اللبس في كتابه (الكتاب) للدلالة على الغموض الناشئ عن وجود لفظ يحتمل أكثر من معنى أو دلالة أو تركيب يؤدي إلى الغموض عند السامع، يقول سيبويه: «ولا يبدأ بما يكون فيه اللبس، وهو النكرة. ألا ترى أنك لو قلت: كان إنسان حليماً أو كان رجل منطلقاً، كنت تلبس، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا إنسان هكذا، فكرهوا أن يبدؤوا بما فيه اللبس ويجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبس.. وينبغي لك أن تسأل عن خبر من هو معروف عنده (يقصد السامع) كما حدثته عن خبر من هو معروف عندك بالمعروف، وهو المبدوء به»(5)، وكان سيبويه يقصد هنا بأن الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة لكي يصح السؤال عنه، وإذا لم يكن المبتدأ معرفة وقع الغموض في الكلام، وترتب عليه عدم فهم السامع.. على الرغم من أهمية اللغة بالنسبة للإنسان كأفضل وسيلة للدلالة على الأفكار، والتعبير عن المشاعر والرغبات فإن هناك أسباباً عدة تؤدي إلى غموض اللغة، وحدوث الإبهام عند المتلقي في فهمه للمراد من الكلام؛ ونستطيع أن نرجع أسباب الغموض في المعنى إلى هذه الأسباب: 1 الغموض من جانب المتكلم: هو ما قد يقع الشخص فيه بسبب مشكلة في جهازه الصوتي، وهو الذي يحدث فيه تداخل في مخارج الحروف عنده، أو خروج حرف مكان حرف آخر، أو أن يكون هذا الشخص يعاني من صعوبة نطق بعض الحروف مما ينتج عنه لبس في فهم المراد منه، أو الفهم عن طريق الخطأ للمعنى الذي يريده المتكلم، وربما يصل الأمر إلى الغموض التام في فهم المراد من الكلام، وهو غموض غير متعمد من قبله، أو قد يتعمد المتكلم ذلك الغموض في محاولة منه للهروب من موقف ما، أو تجاهل أو لقلق وتوتر أو خجل، ويدخل في هذا النوع من الغموض أحد فنون البلاغة وهو التورية، «ومثال ذلك ما جاء في السيرة النبوية عندما كان النبي وأصحابه في الطريق إلى بدر للقاء القافلة التي يقودها أبو سفيان بن حرب وكان حريصاً على السرية المطلقة حتى لا يعلم أبو سفيان بخروجه إليه فلقيهم أعرابي فسأل: ممن القوم؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم مورياً وصادقاً نحن من ماء، ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟» (6)، ولم يهدف الرسول في هذا الموقف الجانب البلاغي مباشرة، بل إنه استخدم إحدى سمات العربية في تجنب الكذب مع الحفاظ على أسرار جيشه. 2 غموض التركيب النحوي: قد تكون الألفاظ المستخدمة في عبارة معينة واضحة ولا تحمل غموضاً، وقد لا يتعمد الشخص المتحدث الوقوع في الغموض ولكن على الرغم من ذلك تأتي العبارات غامضة بسبب التركيب النحوي، ومثال ذلك قول أبي نواس من الوافر: أفرُ إليك منك وأين إلا إليك يفرُّ منك المستجيرُ ويمكننا تقريب هذه الفكرة من خلال هذا المثال البسيط: (كتب الطالب الواجب الذي أمره به المدرس في المدرسة)، والمعنى هنا يحمل الغموض في طياته، فلا ندري هل كتب الطالب الواجب في المدرسة، أم أن الأمر من المدرس هو الذي كان في المدرسة، فالجملة هنا تحمل الاحتمالين معاً. 3 الغموض بسبب علامات الكتابة: هو ما يحدث في وجود علامات الترقيم مثلاً، فنظام الكتابة في اللغات يختلف عن النظام الصوتي لها، فالحروف ما هي إلا وسيلة التعبير عن الأصوات ولا تختلف اللغة العربية في هذا عن غيرها، ونستطيع هنا أن نستخدم العلامات التي أعدت لقراءة القرآن الكريم مثل علامات الوقف والوصل فيقول سبحانه وتعالى:«ألَم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ»(7)، فهنا ينفتح المجال للتأويل؛ فهل لا ريب فيه تعود بالمعنى إلى الكتاب أم تعود إلى هدى للمتقين، والمعنى بالطبع يختلف بحسب ما تعود عليه الكلمات في الآية الكريمة، إذ المعنى يحتمل الأمرين كذلك، وكذلك لو قلت (حضر محمد). فهي جملة خبرية تتكون من مبتدأ وخبر، أما إذا كانت الجملة نفسها (حضر محمد؟)فمع وجود علامة الاستفهام تغيرت الجملة من خبرية إلى استفهامية، وبدون تحديد العلامة إذا قرأت هذه الجملة في رسالة فقد يحدث اللبس، فهل يقصد المرسل الإخبار عن حضور محمد أم يستفهم عن حضوره؟ 4 الغموض البلاغي: من هذا النوع من الغموض أيضاً الغموض المتولد عن الأساليب البلاغية المختلفة؛ مثل أسلوب الالتفات والتشبيه والاستعارة والمجاز والتورية والكناية وغيرها، وهو ما يخلق نوعاً من تعدد احتمالات المعنى، فضلاً عن اتساع دائرة التأويل والتفسير الناجمة عن هذا الغموض، «فالغموض بهذا المعنى يشكل جوهر الشعر، وهو نتيجة أساسية تميز النص الشعري عن غيره، وتمنحه الخصوصية الفنية والجمالية»(8). وفيه ما يطلق عليه من الألفاظ المشتركة أي التي تحمل أكثر من معنى؛ فإذا استخدمت كلمة في أكثر من معنى في السياق نفسه فإن هذا قد يؤدي إلى الغموض، ومن هذا النوع من الغموض أيضاً ما يعرف في علوم البلاغة «بالجناس»، كقوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ»(9)، فساعة الأولى بمعنى يوم القيامة، وساعة الثانية بمعنى مدة من الزمن.