نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    أطفال يتسببون في حريق مساكن نازحين في شبوة بعد أيام من حادثة مماثلة بمارب    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    كارثة وشيكة في اليمن وحرمان الحكومة من نصف عائداتها.. صندوق النقد الدولي يدق ناقوس الخطر    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    قطوف مدهشة من روائع البلاغة القرآنية وجمال اللغة العربية    وفاة أحد مشايخ قبيلة حاشد وثلاثة من رفاقه بحادث غامض بالحديدة (صور)    بعد خطاب الرئيس الزبيدي: على قيادة الانتقالي الطلب من السعودية توضيح بنود الفصل السابع    كيف تفكر العقلية اليمنية التآمرية في عهد الأئمة والثوار الأدوات    تفاصيل قرار الرئيس الزبيدي بالترقيات العسكرية    الأكاديمي والسياسي "بن عيدان" يعزّي بوفاة الشيخ محسن بن فريد    بمنعهم طلاب الشريعة بجامعة صنعاء .. الحوثيون يتخذون خطوة تمهيدية لإستقبال طلاب الجامعات الأمريكية    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    الحوثي والحرب القادمة    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    آرسنال يُسقط بورنموث ويعزز صدارته للدوري الإنجليزي    صندوق النقد الدولي يحذر من تفاقم الوضع الهش في اليمن بفعل التوترات الإقليمية مميز    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الوطنية.. تباينات الرؤى وتوحُّد الغايات
نشر في الجمهورية يوم 28 - 09 - 2012

حينما يكون الهدف “مقدساً” ومصيرياً، فإن ذلك يقتضي أن تشترك في تحقيقه أمشاج متعددة تنصهر في طريقها لتحقيق ذلك الهدف، تباينات الأفكار ونوازع الطموحات الفردية والجماعية، هكذا ولدت الحركة الوطنية وبهذا الأسلوب شقت طريقها للوصول إلى عبق الحرية ومرافئ العيش الكريم، وربما تكتسب مراحل النضال الوطني الذي شهدته بلادنا خصوصاً منذ أوائل القرن المنصرم خصوصية وتفرداً وتجربة جديرة بالدراسة المتأنية لاسيما وأنها كما يقال لازالت ذيولها تسحب علينا حتى الآن، كما أن آثارها على المستويين الإيجابي والسلبي يلعبان دوراً بارزاً في المشهد السياسي في الأيام الحالية باعتبار ما نعيشه ثمرة لنضال متراكم وتضحيات جسيمة اجترحها المخلصون والأوفياء والصادقون من أبناء الوطن. فيما خلف أدعياء الوطنية وذوو المطامع والأهواء الذاتية تركة ثقيلة من الأعباء والمشاكل التي لا تزال ترهق كاهل الوطن وإن بدا أبطالها عقب ثورة فبراير بألوان مختلفة وأشكال مغايرة، الأمر الذي يؤكد صدق ماقيل بأن
ال “ التاريخ يعيد نفسه”.
ومع سمو هدف الحركة الوطنية والنضالية ضد الحكم البائد إمامياً واستعمارياً فإن صفحاتها البيضاء لم تخل من نقاط سوداء وأخطاء مقصودة أو غير مقصودة مثلت أعباءً إضافية أمام الثوار في مسيرتهم النضالية، إلا أن عظمة مقاصدهم وعلو غايتهم مكنهم من تحطيم كل المشاريع التآمرية وتجاوز الإجتهادات الفردية وتحقيق أهدافهم التي توجت بثورة اليمن العظيمة ال 26 من سبتمبر 1962م وال 14 من أكتوبر 1963م وما تلا ذلك من حركات وانتفاضات وثورات لتصحيح مسار الثورة آخرها ثورة ال 11 من فبراير2011م.
ومن خلال هذا العرض الموجز نهدف بالإشارة إلى جوانب من الصراعات البينية التي شهدتها الحركات التحررية وأبطال الثورة والمناضلين، مع أملنا في أن تكون محل دراسات تاريخية عميقة ومتجردة لا تغفلها مراكز الدراسات والجامعات والجهات المعنية بغية الإستفادة من الأخطاء وتجنب تكرارها مستقبلاً، ولتكتمل الصورة الحقيقية للتاريخ الوطني أمام الأجيال انطلاقا من مبدأ أن قيمة التاريخ تكمن في معرفة ما سيحدث على ضوء ما حدث.
الإمام يحيى والظلم الأسود
عقب تولي الإمام يحيى بن حميد الدين الحكم إثر بيعة تمت له في قفلة عذر1904م بعد وفاة والده المنصور بالله محمد بن يحيى حميدالدين، شهدت اليمن استمراراً لتغذية الصراعات التي جذرها الحكم الإمامي منذ العام 1893م، وعانى اليمنيون في المناطق التي يفرض عليها الإمام سيطرته أشد أنواع وصنوف الحرمان والإقصاء والتهميش والتسلط.
وارتدت تلك المعاناة عكسية بخلق شعور واسع من التذمر والسعي إلى الخلاص من هذه الزمرة المستبدة، وتبلورت مشاريع وطنية تحررية وإن بدت في أشكالها الأولى فردية، وساعد من نموها الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الإمام يحيى ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما تضمنته اتفاقية صلح دعان 9 أكتوبر1911م بينه وبين العثمانيين والتي أبرزت النزعة السلالية والطائفية التي تتضح من خلال بنود الاتفاقية، إذ يتضمن البند الأول منها أن ينتخب الإمام حكاماً لمذهب الزيدية وتبلغ الولاية بذلك، فيما أشار البند السادس إلى أنه يحق للحكومة أن تعين حاكماً للشرع من غير اليمنيين في البلاد التي يسكنها الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي والحنفي، فضلا عما احتواه الإتفاق من مصالح ذاتية عكست عقلية الإمام و أنانيته ولهثه وراء مصالحه الخاصة.
ومنذ توليه الحكم بدأت بعض الأصوات والتحركات الاحتجاجية المعارضة لفكرة الإمامة والوراثة بشكل خاص سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، أبرزها انتفاضة الزرانيق والتي استمرت لفترة طويلة وكلفت الإمام الكثير من الوقت والجهد والمال والرجال، وانتفاضة البيضاء، وانتفاضة المقاطرة بقيادة حميد الدين الخزنفار، وغيرها من الانتفاضات والاحتجاجات التي قوبلت بالعنف الشديد من الإمام يحيى.
وسعياً لإخماد الأصوات المعارضة استدعى الإمام يحيى بعض مشائخ المناطق الوسطى خصوصاً من تعز والبيضاء وأمر بإيداعهم السجن حتى مات أكثرهم ولم ينج منهم إلا من أُبعِدوا عن مناطقهم ولكنهم أعدموا بعد ذلك، وفي عام1928م سجن الإمام يحيى من قبيلة الزرانيق (800) شخص جميعهم سيقوا إلى حجة مكبلين بالسلاسل سيراً على أقدامهم لمدة أسبوع ولم يفرج عن أحد منهم حتى ماتوا جميعاً ودفنوا في حجة وأطلق عليها مقبرة الزرانيق.
ويؤكد المؤرخون أن الحركات والأصوات المناوئة للإمام يحيى استمرت فترة من الزمن على هيئة إحساس بالألم والظلم والاستعباد عكست شعوراً عاماً ولد حركة معادية لنظامه بدون امتلاكها برامج وشعارات ممنهجة.
وأشاروا إلى أن تضافر ويلات البؤس والفقر والعزلة جعل من اليمن واحدة من أكثر البلدان تخلفاً وغرقاً في ظلمات الفساد والاستبداد.
وظهرت العديد من التنظيمات الإصلاحية التي مثلت قواعد الانطلاق نحو التحرر والتوعية وتبلور الأفكار وساهم في ظهورها المدارس والكُتّاب التي كانت موجودة آنذاك في الشمال، إلى جانب المدارس في جنوب اليمن المحتل والتي امتد أثرها إلى الشمال ، بالإضافة إلى البعثات العسكرية المحدودة والطلاب المبتعثين إلى الخارج والتي مثلت نواة حقيقية للمعارضة والمطالبة بإصلاح نظام الحكم ومن ثم المطالبة بتغيير النظام كما بدا في المراحل
اللاحقة، ومن التنظيمات التي ظهرت جمعية فتاة الفليحي التي تأسست في صنعاء 1935م على يد أحمد المطاع وأحمد الشامي ويحيى الإرياني وعبد الله الجرافي وحسين العمري وانضم اليهم أحمد عبدالوهاب الوريث، وهيئة النضال التي تأسست في منتصف الثلاثينيات بزعامة أحمد المطاع، والمدرسة الأهلية ونادي الإصلاح بتربة ذبحان بالحجرية التي تأسست على يد الأستاذ أحمد محمد نعمان، وكذا تأسيس الكتيبة الأولى عام 1939م على يد الضابط محيي الدين العنسي والطلاب المبتعثين للقاهرة سلام فارع والجفري ولقمان، والتي قام الأستاذ محمد محمود الزبيري بتغيير اسمها إلى “ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” 1941م لدى عودته من القاهرة.
ويؤكد الباحثون والمؤرخون أن العام 1944م شهد ظهور مصطلح المعارضة كفكرة وكمبدأ عبّر عنه الزبيري والنعمان حينما فرا إلى عدن وتم خلال العام ذاته إنشاء حزب الأحرار اليمنيين، وإعلان قيام الجمعية اليمانية الكبرى بعدن 1946م صدر عنها صحيفة (صوت اليمن)، وغيرها من التنظيمات.
فشل ثورة 1948م وبداية الاختلاف
هدفت ثورة 1948م إلى قيام نظام دستوري شوروي كثمرة لتطور النضال الوطني، واعتبرت هذه الخطوة التي غابت فيها المطالبة بالتغيير الجذري للنظام مجاراة للمرحلة وظروف الأربعينيات، وقد استطاعت هذه الثورة الإطاحة بنظام الإمام يحيى في 17فبراير واستمرت حتى 8 مارس تولى فيها الحكم عبدالله أحمد الوزير، وقد ساهم في اشتعالها إبراهيم الوزير الذي لحق بالثوار إلى عدن، وجمال جميل العراقي قائد الجيش والأمن في الانقلاب، والفضيل الورتلاني الجزائري الموجه السياسي للانقلاب.
وقد فشل هذا الانقلاب بعد تحرك الأمير أحمد بن يحيى حميد الدين من تعز إلى الحديدة ثم حجة واستغلال خزينة أموال الدولة لإغراء وشراء ذمم المشائخ حتى عاد إلى صنعاء واستعاد زمام الأمور وتولى الحكم بعد ثلاثة أسابيع من الإطاحة بحكم أبيه.
وتتمثل أبرز الأخطاء لهذه الثورة في جهل الثوار في عدن بما حدث في صنعاء وعدم اتفاقهم على مقتل الإمام يحيى لعلمهم بما سيخلفه هذا الحدث من استغلال سيئ بحكم أن الإمام يحيى شيخ جليل وطاعن في السن والعادات القبلية تحرم الغدر وهو بالفعل ما استغل من قبل ولده أحمد وساهم في خلق تذمر واسع من الثوار.
ويشير الدكتور محمد عبد الجبار سلام إلى أن فشل هذه الثورة أو الحركة تمثل إلى جانب قتل الإمام يحيى غدراً في عدم أخذ من قاموا بالثورة في صنعاء للمشورة من الثوار في عدن، إلى جانب أن أسرة الوزير كانوا على قدر كبير من الغرور. ويقول الدكتور في كتابه الإعلام اليمني والقضايا السياسية والاجتماعية« أخذ ابن الوزير يوجه حملاته الكلامية بعنف شديد ضد العشائر والقبائل، وكذا التمادي في طلب النجدات من الأجنبي المستعمر، فضلا عن النزاع الذي كان على أشده من اليوم الثاني بين عائلة الوزير لمحاولة كل منهم الحصول على شيء وبأسرع فرصة”.
ولأن الانقلاب حدث والزبيري والنعمان وإبراهيم الوزير وعدد من الثوار في عدن فقد رأى البعض عدم عودتهم إلى صنعاء لأن ولي العهد سيف الإسلام أحمد بن يحيى حميد الدين كان لايزال حياً فور سفره إلى حجة، وأن عبدالله الوزير لا يختلف في حقيقة أمره عن أن يكون صورة طبق الأصل للإمام يحيى باعتبارهم من جيل واحد ومن مدرسة واحدة، وهذا يعكس عدم رضا الأحرار عن ابن الوزير.
ويشير الأستاذ الراحل عبد الله البردوني إلى أن مثقفي فترة انقلاب أو ثورة 1948م كانوا مصنفين إلى، صنف دستوري من المثقفين والشيوخ كالزبيري والنعمان، وصنف إمامي كعبدالله الوزير، وصنف ثالث كان يريد أكثر مما حدث ويرى الإنقلاب إجهاضاً لإمكانيات أحداث خلاقة.
ويقول البردوني في كتابه اليمن الجمهوري :« من آخر الثلاثينيات بدأ التذمر من استبداد الإمام يحيى وهذه ظاهرة مشرقة تبرهن على الحيوية ومحاولة التحول ، غير أن هذه الظاهرة المشرقة تفقد بعض إشراقها أو كل إشراقها بوراثية سوء استثمارها وعراقة انتمائها إلى القبيلة الفردية، لأن الوسيلة تحمل في صميمها وجه الغاية، لكي تتحول هذه الغاية إلى وسيلة تملك إبداع الغاية الأجد، فليست الوسائل بمعزل عن غاياتها، وإنما هي منها بمثابة البذور من الزروع فإذا كان التحول عن الإمام يحيى إلى الجانب الوطني الديمقراطي فإن القصد شريف أما الذين تحولوا عنه إلى الإدريسي المحتل لتهامة وإلى عبد العزيز آل سعود أو إلى مشايخ المستعمرات البريطانية في الجنوب فإن هؤلاء كانوا يشكلون خروجاً عن الوطن مهما كان بعد الغاية ، لقد كانوا يبحثون عن الساخطين على الإمام يحيى بلا تساؤل عما يملك هؤلاء الساخطون من رؤية مغايرة أو عن إمكانياتهم لامتلاك رؤية مغايرة لأن السخط وحده ثورة دائمة ولكن تحويله إلى وسيلة تغييرية يحتم رؤية الغاية من خلال الوسائل، فلا يكفي السخط على الإمام يحيى بدون نظرية تغيير وبالأخص إذا لاحظنا أن أغلب قادة ذلك التحرك أبعدوا من مناصب أو عجزوا عن الوصول إلى مناصب لأن المناصب مجرد وسائل لغايات شعبية”.
ويضيف :« سبب سقوط الإنقلاب أثران متناقضان: الحس الحركي، والخوف من الحركة .. فكما أصبح الإنقلابيون محور الحديث والنقاش من آخر الأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات كان حضور المحور الثاني وهو المنتصر على الإنقلابيين إلى جانب الإنقلابيين لأن الشعب بدأ يحس نهاية العهد الحميدي بنهاية الإمام أحمد”.
حركة 1955م وتذمر الثوار
شهدت الحركة الوطنية في الخمسينيات طورا آخر من التقدم والنشاط والتنظيم نتيجة للثورات التي اندلعت في بعض البلدان العربية أبرزها ثورة يوليو1952م في مصر والتي انعكست بظلالها على كل البلدان العربية ومنها اليمن. وتعد الخمسينيات مرحلة خصبة في النضال باعتبارها جاءت بعد الحرب العالمية
الثانية ونزوح عدد من الثوار إلى عدن التي اشتهرت بالانتعاش التجاري والاجتماعي والثقافي، حيث اتسمت الحركة الوطنية آنذاك بالشمولية لكل اليمن والهم المشترك للتخلص من الاستعمار في الجنوب والحكم الإمامي في الشمال، الأمر الذي سهل للثوار قيام العديد من التنظيمات وإصدار الصحف والمنشورات والنقابات العمالية.
ويؤكد المؤرخون والباحثون أن إعلان إنشاء الإتحاد اليمني عام 1951م مثلّ تغييراً جذرياً في مسار الحركة الوطنية بآفاقها الوطنية والقومية والإنسانية.
وفي منتصف الخمسينيات تباينت آراء الثوار حول جوهر التغيير في اليمن جمهورية أم ملكية أم ملكية دستورية أم نظام اشتراكي، وقد شهدت أسرة حميد الدين نزاعات داخلية غير معلنة رافقها تذمر وغليان شعبي أسفرت عن قيام حركة 1955م كرد فعل على معاقبة الإمام لجنود غاروا على ممتلكات المواطنين في الحوبان بتعز.
وفي 31 مارس عام 1955، حدث انقلاب قام به المقدم أحمد يحيى الثلايا ..وقد قام المقدم الثلايا بقيادة فرقة من الجنود لمحاصرة الإمام في قصره في مدينة تعز، وطالبوا الإمام بتسليم نفسه وهو ما حدث.
وقد اختلف قادة الانقلاب فيما بينهم على مصير الإمام، فبعضهم اقترح قتله، والبعض الآخر اقترح أن يستبدل بأخيه الأمير سيف الله عبد الله، وفي أثناء ذلك قام الإمام بفتح خزائن قصره واشترى جنود الثلايا، وفشلت هذه الحركة.
وقد تباينت آراء الثوار حول انقلاب 1955م بين التأييد والرفض، حيث احتج المؤيدون بأهمية الاستمرار بضرب صنم بصنم، إلا أن الرافضين لهذه الحركة كانت حجتهم أقوى باعتبار أن المرحلة لم تعد تستدعي المدارة، فالمد الثوري العربي ونشاط الحركة الوطنية دفعهم للبحث عن الجمهورية والإطاحة بالنظام الإمامي الذي لم يعد ذا جدوى لإصلاحه وترميمه بعد استفحال مشاكله وأضراره المحلية وسياسته الخاطئة خارجياً.
ووفقاً لصحيفة الجنوب العربي آنذاك فإن جماعات محدودة حاولت الانشقاق عن الإتحاد اليمني بعد عودتها من تعز والمعارضة لحركة الأحرار نتيجة لموقفها المؤيد للانقلاب عام 1955م حاولت تأسيس تنظيم انشقاقي، وحاولت أن تضع لها ميثاقاً وبرنامجاً إلا أنهم رغم كل هذا لم يفلحوا مطلقاً وذلك لأن مرحلة الخمسينيات تجاوزت طموحاتهم الهادفة إلى تغيير إمام بآخر.
وينقل الدكتور محمد عبد الجبار سلام في كتابه الإعلام اليمني والقضايا السياسية والاجتماعية وصف الإتحاد اليمني لهذه الجماعة بقوله :« إن هذه الجماعات المهزومة والضعيفة والتي لا تعرف روح الشعب ولا تفهم حركاته مما حدا بهم أن يفروا من الإتحاد اليمني وينسلخوا منه فور إعلان الإتحاد (الجمهورية) فقد حسب أولئك الأغبياء أن هذه الدعوة سترفضها القبائل وإذا بالتاريخ يتحداهم فيلتقي القبيلي من أقاصي اليمن بالقبيلي في أواسط اليمن على مدرج الحرية من أجل انتصار سيادة الشعب بقيادة الحكم الجمهوري”.
وبحسب الأستاذ عبدالله البردوني رحمه الله، فإن انقلاب 1955م لم تسبقه بوادر تحركيه كالذي سبق انقلاب 1948م لهذا تبدى انقلاب مارس 1955م على غير انتظار وبلا دهشة مفاجئة لأن ذلك الحدث كان يعاني إزدواجية إذ أيده بعض رجال 48م من أمثال عبد الرحمن الإرياني، ومحمد حسين عبد القادر إثر خروجهما من سجن حجة، وشجبه بعضهم من أمثال الأستاذ محمد أحمد نعمان
والأستاذ أحمد محمد الشامي والأستاذ محمد محمود الزبيري الذي ندد بالحادث وحذر منه في أحاديثه من صوت العرب في القاهرة.
وفي صيف عام 1959، عندما سافر الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين إلى روما للعلاج من التهاب المفاصل الرثياني، فبلغ البدر من مصادره في روما أن أباه يحتضر فاعتقد أنها نهاية أبيه فقام بإنشاء مجلس نيابي برئاسة القاضي أحمد السياغي، كما قام بإلقاء خطاب ناري ضد الإمام في احتفال للجيش اليمني الوليد، الأمر الذي دفع الهاشميين ليثوروا ضد البدر، فاستعان بالقبائل لإخماد ثورتهم.
إلا أن الإمام أحمد عاد إلى اليمن بعد أن أفاق من مرضه وقام بإلغاء كل ما قام به البدر من إصلاحات، وأمر باسترجاع الأموال والسلاح الذي أعطاه البدر للقبائل التي أيدته، وهرب شيوخ القبائل إلى السعودية ولكن الملك سعود بن عبد العزيز كفلهم عند الإمام أحمد، وتعامل معهم الإمام أحمد كعادته حيث أمر الإمام أحمد إبنه البدر بذبحهم ترضية لأبيه.
ويؤكد المؤرخون أن هذه الحادثة مثلت دليلاً للذين عقدوا الآمال على البدر أنه لا يختلف كثيراً عمن سبقوه.
وكان عهد الإمام أحمد عهد معارضة وثورات، وقد تعرض الإمام إلى 12 محاولة اغتيال، منها محاولة فاشلة لاغتياله وهو على فراش الموت، وقد تدهورت صحته لتأثره برصاص اللقية ورفيقيه في الحديدة في مارس عام 1961م، والذي توفي متأثراً بجراحه منها.
ويقول الباحث الأستاذ عبد الوهاب محسن صالح جلبوب :« لم تيأس المعارضة مما حدث لها فاستمرت في نشاطها ضد الإمام أحمد وأصدر الأحرار في القاهرة كتيبًا بعنوان “مطالب الشعب” حيث اعتبر هذا الكتاب مشروعًا لدستور الدولة الحديثة، وبفعل دأب الإمام على شق الصف الوطني شهدت معارضة الأحرار
المنطوية تحت مسمى الاتحاد اليمني بعض الانشقاقات، ومع تزايد زخم المعارضة قام الإمام بالانفتاح على بعض الدول العربية والدول الاشتراكية، أسفر ذلك عن توقيع عدد من الاتفاقيات وعلى الرغم من انفتاح الإمام إلا أنه لم يستطع الحد من آثارها الإيجابية التي تمثلت في المجالات العسكرية والثقافية، كما قام الإمام بإرسال بعض البعثات اليمنية للدراسة في بعض الدول فقاموا بنقل الأفكار التحررية وجلبوها معهم إلى اليمن”.
ويضيف في رسالته لنيل درجة الماجستير 2008م من معهد البحوث والدراسات العربية بجمهورية مصر:« لم تكتف اتجاهات المعارضة بالخطاب السياسي والإعلامي لمعارضة الحكم بل حاولت التخلص من الحكم الإمامي برمته سواء بالاغتيال أو الانقلاب عليه، وقامت المعارضة بعدة محاولات في أعوام 1959،
، 1960، 1961م، إلا أنها جميعًا فشلت ولعل ذلك يرجع إلى عدم التخطيط السليم، أو إلى الارتجال والعشوائية من جانب رجال المعارضة أو غير ذلك، ورغم محاولات الإخفاقات في اغتيال الإمام فقد استمر زخم المعارضة في التصاعد، فبادرت مجموعة من طلاب المدارس والكليات العسكرية الذين توفرت فيهم عوامل ومقدمات النجاح بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار وحملوا على
عاتقهم بشكل رئيسي مهمة إسقاط الحكم الإمامي، إذ قاموا بإجراء اتصالات واسعة لقوى المعارضة المختلفة سواء داخل اليمن أو بجمهورية مصر العربية”.
وتخلص دراسة الأستاذ عبد الوهاب محسن الموسومة ب “ حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام أحمد 1948-1962م» إلى أن المعارضة قد مرت بعدة مراحل: مرحلة المعارضة التنويرية التي بدأت في منتصف الثلاثينيات والتي مهدت لقيام حركة شبه منظمة، ومرحلة المعارضة السياسية المنظمة التي بدأت بتأسيس حزب الأحرار، وإصدار جريدة صوت اليمن في عدن برئاسة الزبيري،
ومرحلة ثورة 1948م التي أدت إلى اغتيال الإمام يحيى، وانتهت بفشل الثورة وسقوط صنعاء بيد الإمام أحمد، والقبائل الموالية له، وكذا مرحلة نشاط المعارضة بعد ثورة 1948 رغم ما أصاب المعارضة من قتل وسجن وتشريد، وتمثل ذلك في تأسيس الاتحاد اليمني في القاهرة وعدن، ومرحلة استفادة الأحرار من الخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة، مما أدى إلى اندلاع حركة 1955م، إضافة
إلى مرحلة غياب التنسيق السياسي والعسكري وتفكك الجبهة الداخلية لعناصر المعارضة ومحاولة إعادة ترتيب صفوفها، بعد الضربات الموجعة أثناء حركة 1955م، ومرحلة نشاط المعارضة بعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار الذي استطاعت به المعارضة أن تسقط الحكم الإمامي وتعلن قيام النظام الجمهوري الحلم الذي طالما داعب خيال الأحرار والثوار اليمنيين لفترة ليست بالقليلة”.
ثورة سبتمبر ونضج الحركة الوطنية مع بداية الستينيات
اتسمت الحركة الوطنية بالنضج والنشاط الذي لا يهدأ رغم انقسام صفوفها لأسباب أيديلوجية وسياسية واجتماعية، فضلا عن العوامل الخارجية وأبرزها الصراع المصري السعودي وغيرها من العوامل.
وكنتاج لما قام به الأحرار منذ بداية العشرينيات من مساعِ للتخلص من النظام البائد وللتجربة التي اكتسبوها في هذه المسيرة الشاقة فقد اتحدت معالم هدفهم صوب قلب نظام الحكم الملكي واستبداله بالنظام الجمهوري كمطلب ملح وضرورة لا يمكن الإستغناء عنها.
ورسم الثوار خطة لتنفيذ هذه المهمة أشار إليها الدكتور البيضاني في “ثورة اليمن ودور مصر كما يراه البيضاني» مبيناً أنه تم وضع خطة الانقلاب في مدينة جرمش بألمانيا عندما اجتمع البيضاني وعبد الغني مطهر، ثم بعد ذلك سافر البيضاني إلى القاهرة لعرض الخطة على المسؤولين المصريين هناك وكان
من ضمنهم أنور السادات، صلاح نصر مدير المخابرات العامة ونائبه علي سليمان والرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان يصاحب البيضاني في بعض هذه اللقاءات محمد قائد سيف الذي شارك في انقلاب سنة 1948 الذي قاده عبد الله الوزير .. فيما تختلف بعض الروايات عن هذه الرواية وكل يدعي شرف التخطيط لهذه الثورة التي اشترك الجميع في التخطيط والتنفيذ لها.
وفي 19 سبتمبر عام 1962توفي الإمام أحمد وخلفه ابنه الإمام البدر، وكان قرار تعيين عبد الله السلال قائداً للحرس الملكي من أولى القرارات التي اتخذها الإمام، واختلف ضباط الجيش إذا كان هذا هو الوقت المناسب للقيام بالانقلاب أو الانتظار حتى عودة الأمير الحسن من الخارج للقبض عليهما معاً في وقت واحد.
وتمت ثورة سبتمبر بكافة تفاصيلها وخططها فكانت أعظم حدث تاريخي وأول ثورة في الجزيرة العربية ،غيرت النظام السياسي من نظام إمامي ملكي إلى نظام جمهوري.
ويشير الدكتور عبدالحميد عبدالله حسين البكري في دراسته الموسومة ب “ الصراع الجمهوري الملكي في اليمن وأبعاده العربية والدولية 1962م-1970م”، إلى أن هذا الحدث لاقى صدىً واسعاً على المستويين الإقليمي والدولي ، وتباينت المواقف بين مؤيد ومعارض ، ورغم أن الثورة اليمنية كحدث قد نجحت وسيطرت على معظم المدن اليمنية ، لكن نجاة الإمام محمد البدر، وبعض أمراء الأسرة المالكة، ولجوئم إلى المملكة العربية السعودية ، وطلبهم منها العون والمساعدة في استعادة عرشهم ، حَوَّل الموقف في اليمن إلى صراع عسكري وسياسي داخلي ، بدأت أحداثه منذ الأسبوع الأول للثورة بين أتباع النظام الجمهوري المعلن يوم السابع والعشرين من أيلول / سبتمبر عام 1962، الساعين إلى بسط نفوذهم على أرجاء اليمن، وأمراء أسرة حميد الدين الملكية الساعين إلى استعادة عرشهم الذي فقدوه في اليوم نفسه ، وقد استمر الصراع طوال المدة ما بين عامي 1962 و1970م.
ويضيف :«لسوء حظ اليمن أن ثورته وما تبعها من صراع داخلي حدثت في زمن يعيش فيه العالم العربي والدولي حالة حرب باردة ، من علاماتها سياسة الاستقطاب والحرب بالوكالة ، الأمر الذي أثر في الصراع في اليمن بين الجمهوريين والملكيين وحوَّله من صراع محلي داخلي إلى صراع إقليمي - دولي ، شاركت فيه قوى إقليمية ودولية بشكل مباشر أو غير مباشر ، مما أججَّه وأطال مدته”.
صراع الجمهوريين الجمهوريين
ووفقا للباحثين والأكاديميين فإن هذا الصراع الإقليمي لم يلق بظلاله على صراع الجمهوريين بالملكيين فحسب وإنما امتد أثره ليخلق جانباً من الصراع فيما بين الجمهوريين أنفسهم، إلا أن هذه التباينات لم تفتك بعنفوان الثورة بقدر ما زادت من حدتها وقوّت عضلاتها.
ويؤكد الأستاذ الراحل عبدالله البردوني أن تواصل الحروب زادت من قوة عضلات الثورة والثوار فتسلحت بالمبادئ الوطنية إلى جانب السلاح وعندما تأكدت خطورة هذه المبادئ تنوعت وجوه المحاربين وشكل الإنتهازيون من الجمهوريين متاريس داخلية ضد الثوار الوطنيين، والتقى الإنتهازيون والبائدون في نقطة واحدة وهي القضاء على الثوار المبدئيين، وكان التهادن بين الإنتهازيين الجمهوريين وبين الملكيين شبه تحالف ضد الثوريين لأنهم عقبة في وجه التصالح.
ويتحدث البردوني في موضع آخر عن جانب من الخلاف عقب الثورة فيقول :« بعد قيام حكم الثورة تبرجت الهويات وتسابقت المطامح ، وأوقفت الجدل على نوعية الجمهورية مقاتلة فلول الإمامة ونضال الاستعمار في الشطر الجنوبي، ولما أصبحت الحرب اعتيادية ومأمونة الخطر على النظام الجمهوري تبازغ جدل جديد ملائم لطراوة الحدث الثوري وطفولة تجربته فاعتبر المحرومون أن الثورة ثورتهم ورأوا في نفس الوقت مئات الوجوه المستغلة تشغل مناصب قيادية وإدارية ومالية ...». ويروي البردوني المقال الذي نشرته إحدى الصحف بتعز بعنوان« الثوار عن أصالة .. والثوار بالعدوى” ركزت فيه عن الذين ألبسوا أردية الثورة وحلوا محل الثوار الحقيقيين حتى وصلت هذه الحدة الساخطة إلى إلغاء الفرق بين الملكية والجمهورية مادام الاختلاف في تعدد الأسامي وواحدية المسمى!!
وبحسب البردوني فإنه وتحت هذا التأثير الساخن انبعث الجدل القديم منتزعاً جدته من المرحلة فطالب المعتدلون بجمهورية عادلة بدون تحديد لأي عدل ونوعه وإنما أرجعت بقاء الوجود الملكي وكثرة المنضمين إليه إلى نوع القائمين على ذروة الحكم الجمهوري، وإلى رداءة قادتهم في المناطق مع أن بعض الداعين إلى الجمهورية العادلة من “الحاكمين”، وشكل الأستاذ الزبيري
معارضة لذلك الوضع مرتئياً أن تلك الحروب انتفاضات شعبية وليست هجوماً ملكياً.
ويقول:« من هنا تبين نشوب الصراع بين تنظيمين قوميين على الساحة اليمنية، كامتداد لوجوده في القاهرة وبغداد، في تلك الفترة التقى المحافظون وبعض اليساريين ضد الناصرية جيشاً وحكماً، وزاد من حدة ذلك الخلاف مقتل(كنيدي) عام 1964م المؤيد للوجود الناصري في اليمن ، وميل (جونسون) إلى مطالب القوى الرجعية بالمنطقة ضد جمهورية اليمن الفتية ومؤازريها، وخلق النقيض نقيضه بالضرورة كسببين متلازمين لتعاكسهما، وهنا استجد الصراع القديم الجديد، الاعتدال والتطرف فإذا التطرف الذي نادى بانتظار الظروف الأصلح للثورة يقف إلى جانب الثورة ونظامها الجمهوري وإذا بالاعتدال الخمسيني ينادي بالتصالح مع المحاربين ضد الثورة وتوالت المؤتمرات الشعبية في الداخل والخارج باحثة عن حقن الدماء وسلامة شكل النظام مهما كان نوعه ومها كان مقدار التنازل معه ...”. ويضيف: “ كان قتال حصار صنعاء ودحره في آخر الستينيات يجمع الجمهوريين ولو مؤقتاً وحينما مال ميزان النصر إلى القوى الثورية تفاقمت الأزمة، خاف الثوار من تراجع الحاكمين وخاف الحاكمون من طموح المنتصرين، وكان التوتر الحربي والتآمر المتربص يطبخ مأدبته على نار هادئة ، كان قمة نضجها يوم 23 اغسطس 1968م وكان طرفا الصراع الحركيين والنظام، وكانت جماعة البعث إلى جانب النظام ومجارية للثوار على حين انزوى الناصريون تحت تأثير مرارة حزيران أثار هذا أعنف جدل حول اقتتال الجيش الواحد قبل أن يكمل مهمته القتالية في كل المواقع لأن صنعاء كانت ماتزال محاصرة من ثلاثة جوانب، ودل عام 1970م على إمكانية التواطؤ بين الحكام والمحاصرين لصنعاء وآية ذلك جمهرة الملكيين ومواجهة الثوار بعدة أشكال كالنفي والسجن وتعيين البعض كسفراء ومضايقة دائمة للبعض ولم تتوقف تلك الإجراءات عند الحركيين وإنما امتدت إلى سائر التنظيمات الثورية لكيلا يشغلوا الميدان الذي خلا من الحركيين بصنعاء وكان هذا تحت مبدأ منع الحزبية كلياً...».
وتابع:« كانت الثورة المصرية قد حظرت الأحزاب القديمة وشكلت أحزاباً جديدة وانتقلت من تشكيل إلى تشكيل وأرادت نقل هذا الواقع حرفياً من القاهرة إلى صنعاء فتشكل الاتحاد الشعبي الثوري بصنعاء 1966م ودل هذا التشكيل على حذر القيادة المصرية من الحزبيين و المحاربين القبليين، فاعتمدت في تشكيل الاتحاد الشعبي على المناطق الوسطى وبالأخص منطقة رداع بدلا غير كامل لأبناء الحجرية فأفرز هذا الواقع تنامياً من عام 1963م إلى خروج بعض الجمهوريين عن الجمهورية، فدعا الزبيري إلى مؤتمر عمران ولما أخفقت قرارات مؤتمر عمران ترأس الزبيري المعارضة الصريحة من برط من نهاية1964م إلى استشهاده في أبريل 1965م، وظل الاستاذ النعمان بصنعاء كجسر اتصال بين كل المواقع، ولعل فكرة الاتحاد اليمني قد انبعثت بكل تقاليدها غير انها لم تتحقق في لجة الحرب، فارتفعت دعوة السلام من قبل الاتحاد اليمني لكي يحل الحوار العقلي محل هدير السلاح وظلت الدعوة تتردد بدون تمييز بين حرب وطنية وحرب استعمارية وبدون تمييز بين الوجوه الدفاعية والوجوه العدوانية فتألبت الريبة حول دعوة الاتحاد إلى حد اتهامه بإلغاء النظام الجمهوري وإبداله بنظام دولة إسلامية ..”. ويقول الدكتور عبدالله أبو الغيث في موضوعه اليمن الجمهوري ..نصف قرن من الصراع (مأرب برس) 7 سبتمبر 2012م :« استمرت المعارك الطاحنة بين القوى الجمهورية والملكية في مناطق شمال الشمال حتى حصار السبعين يوماً الذي تعرضت له مدينة صنعاء من قبل القوات الملكية (أواخر عام 67 مطلع 68م) حيث مثل اندحار حصارها نقطة اليأس لها ولأنصارها الخارجيين من إعادة فرض النظام الامامي وبدأوا بالتعامل مع النظام الجمهوري كأمر واقع. لكن توقف الصراع مع الإماميين سرعان ما فجر الصراع داخل الصف الجمهوري بين القوى اليسارية والقوى التقليدية، الذي اتخذ بعداً طائفياً في أحداث أغسطس 68وفجر جروحاً لم تندمل إلى اليوم”.
وبالعودة إلى الأحداث التي تلت اندلاع ثورة سبتمبر فإن الثوار احتاروا في زعيمين الأول عبدالله يحيى السلال أمير حرس البدر ومدير كلية الطيران والثاني حمود رشدي قائد سلاح المدفعية فوقع الاختيار على الأول لقربه من طبقات الشعب.
وكما قيل فإن كل ثورة تنهي مهماتها بإذاعة أول بيان فيها أما ثورة سبتمبر اليمنية فإن إعلان أول بيان لها كان بداية حرب ثورية نتيجة فرار البدر وغيرها من العوامل.
وبحسب المصادر التاريخية فإن الدكتور البيضاني نائب رئيس الجمهورية لم يُشارك رؤية عبد الناصر على الرغم من أنه كان يريد خلق جمهورية على أرض اليمن ولكن بدون انتهاج الخط الناصري، وهو الخط الذي اختاره عبد الله السلال وقد حدثت منافسه بين الاثنين انتهت لصالح السلال.
ويروي الدكتور البيضاني في كتابه «أوجاع اليمن» بعض أخطاء الثورة في عدم استجابة الثوار لاقتراحه بتشكيل مجلس الدفاع الأعلى يتكون من شيوخ الضمان برتبة وزراء لكسب ولائهم فلم يتفاعل معها البعض خصوصا الدكتور عبد الغني علي وزير الخزانة الذي أنكر وجود قائمة شيوخ الضمان لديه تأثراً بميوله الماركسية التي ترفض إشراك العلماء والشيوخ في الحكم.
كما يشير إلى الجدل الذي دار بخصوص إعدام الموالين للإمام وكيل الاتهامات بين الثوار وكلٌ يدعي البراءة من ذلك، ونُقل عن جمال عبد الناصر استيائه من هذا التصرف وتصريحه بأنه لا يستطيع مساندة ثورة تبدأ دموية لحظة مولدها فأبلغوه الثوار بأن ماحدث لم يكن ضمن خطة الثورة ولا منهجها.
وفي كتاب التاريخ السري للثورة اليمنية ص 163 يشير اللواء عبدالله جزيلان إلى أنه أبلغ جمال عبد الناصر في قصر القبة بأن جلوس السلال الذي كان رئيساً للحرس الملكي على مقعد رئيس الجمهورية يعطي الأعداء أمضى سلاح للدعاية ضد الثورة.. الأمر الذي أثار استياء ناصر فأرسل السادات إلى اليمن ليطلع الثوار على ما سمع ويحذرهم من قيام بعض الثوار بإثارة الشعبضد قادة الثورة.
وإذا ما أردنا التعمق أكثر في طبقة الصراع الجمهوري الجمهوري فإن ذلك يستدعي الوقوف أمام الصراع المصري السعودي الذي بلغ أشده بعد حصار الوفد المصري في مؤتمر للجامعة العربية في لبنان 1961م فزادت حدة الصراع في المنطقة وكانت اليمن الساحة الملائمة لتصفية الحسابات بين الطرفين، وبرر لذلك أيضا الاتفاقية بين اليمن ومصر عقب اندلاع الثورة وتحديداً في أكتوبر1962م والتي بموجبها يصبح أي اعتداء على أي دولة منهما أو على قواتهما اعتداء على الدولة الأخرى وتألف مجلس أعلى ومجلس حربي بينهما لتنسيق خططهما الحربية وبدأت القوات المصرية تتدفق إلى اليمن عبر ميناء الحديدة.
5 نوفمبر والدعوة الإتزانية
يروي المؤرخون أن حركة 5 نوفمبر والانقلاب على السلال أثناء زيارته لبغداد أضعف من موقف الجمهوريين وأثار شكوك الدول الداعمة للجمهوريين في قدرتهم على الصمود، وقد تشكلت بعد الإطاحة بالسلال حكومة كان بعض أفرادها خارج اليمن أو خرجوا منها بعد تعيينهم.
وأوضحوا أن السلال بعد خمس سنوات من رئاسته بدأت تتقوى حركة 5 نوفمبر1967م وأرادت أن نتهج الاعتدال وتجتنب الدموية كلياً حتى دفاعياً فدبر رجالها للسلال زيارة لمصر والعراق فأحس السلال أن تلك الزيارة إبعاد له فقال لمودعيه: “أهم من رئاسة الجمهورية الحفاظ على الجمهورية” وكأنه يرى كل ما سوف يقع بعده.
ويشير البردوني إلى أن الزبيري كان في مطلع 1965م يستكثر الحديث عن الإرياني حتى وصفه بضمير الأمة، الأمر الذي أثار حفيظة رفيقهما النعمان الذي أصدر كتابه (الأطراف المعنية في اليمن) اتهم فيه التسلط الزيدي واستغلاله للمناطق الوسطى تحت أي راية والعمل على امتداد هذا التسلط تحت راية الجمهورية، ويقول:« باستشهاد الزبيري تنوعت المعارضة بأطماع النعمان الفريق العمري برئاسة الجمهورية في ظل غياب السلال بمصر وتبدى النعمان والعمري كفصيلة داخل المعارضة، في حين لم يكن الإرياني واضح الاتجاه في المعارضة وإنما كان على علاقة وثيقة بالسلال وعلاقة احتياطية بالمعارضة، ودخلت الحركة طور تطبيق دعوتها التعقلية والإتزانية والتصالحية فأبرزت الاعتدال في كل شيء فلم تنل السلال بأي تهجم ولم تتحفظ إلا على ثلاثة من رجال عهده، وكادت توقف الدعاية ضد الملكيين وأشياعهم فسمت انقلابها بحركة بيضاء، وحافظت على الجمهورية وتصالحت مع محاربيها،
وتشكل مجلس جمهوري من أربعة أعضاء عبد الرحمن الإرياني والفريق حسن العمري وأحمد محمد نعمان و محمد علي عثمان، وتمكن الإرياني بعد ذلك من إقصاء العمري منتهزاً فرصة قتله المواطن الحرازي فأبعده إلى القاهرة ثم أزاح الشامي سفيرا بباريس بحجة تزايد الغضب الشعبي على التصالح مع الملكيين، فيما توفي محمد علي عثمان في تعز 1973م ولم يبق سوى النعمان.
ويتحدث المناضل اللواء الركن يحيى مصلح مهدي عن انقلاب 5 نوفمبر لصحيفة 26 سبتمبر العدد (1371) قائلاً: “ نحن كنا مسجونين في القاهرة والقيادة السياسية ومجموعة من العسكريين والمدنيين ومنهم الاستاذ أحمد محمد نعمان، وأمين نعمان، وعلي سيف الخولاني، ومحمد الخاوي واللواء حسين شرف الكبسي وابراهيم الحمدي وحسين المسوري، واللواء محمد الآنسي الذي كان قائد الاشارة، والمرحوم يحيى المتوكل -رحمه الله- واللواء أحمد الناصر واللواء علي قاسم المؤيد وآخرون، وكنا مجموعة من الضباط في القاهرة.. وكان حينها الصف الجمهوري ممزقاً.. وبدأت الفكرة لحركة 5نوفمبر في القاهرة.. بينما الشيخ سنان والشيخ عبدالله ينسبان انها خلقت في غرفة النوم حق الشيخ عبدالله.. وربما يكونان فكرا هكذا، لكن نحن اتفقنا في القاهرة على قيام هذه الحركة، وخرج اللواء حسين شرف الكبسي الى هنا للعمل في هذا الاتجاه وعندما وصلنا الى الحديدة وبعدها الى صنعاء، نفذنا ما تم الاتفاق عليه، وكانت الفكرة هي ضرورة قيام الحركة، والسلال أصلاً كان يعلم بقيام الحركة قبل سفره من الحديدة.. وحقيقة أنا كلفت- بعد عودتنا من القاهرة الى الحديدة- من قبل القاضي عبدالسلام صبرة بأن اقوم بإقناع اللواء عبدالله الضبي الذي كان حينها محافظاً لمحافظة الحديدة بضرورة قيام الحركة، وعندما اخبرته بذلك قال لي الضبي: أن الرئيس السلال الرجل الذي أنقذ رأسي من سجن الرادع بعد أن كان المصريون سيقتلونني، لأنه بمجرد أن علم بسجن(الضبي) وصل الى باب سجن «الرادع» واخرجه من السجن، ولذلك فهو طلب ان يرافق السلال الى خارج الوطن، وفعلاً رافقه الى بغداد، ومن ثم عاد الى الوطن، ولكن بعد أن كان الشيخ سنان قد حل محله محافظاً للحديدة”.
ويقول الدكتور عبد الولي الشميري في كتابه ألف ساعة حرب: «أن التسيب الإداري وانفلات زمام الأمور التي من شأنها تعزيز قوة الدولة في نظام صنعاء بقيادة الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني الذي ما استطاع رغم تطلعه لبناء دولة مركزية قوية أن يفرض هيبة الدولة، أو يقف أمام الهيمنة القبلية والمصلحية على مقاليد الأمور وإدارة شئون المحافظات فلا القانون سائد، ولا السياسة العامة للدولة تسير أوضاع البلاد ويتضح ذلك من خلال إدارة المحافظات واختيار المحافظين لتمثل إقطاعات محلية قد تؤدي إلى نجاح تام أو تدهور تام، كما كان الاهتمام ببناء الجيش ضعيفاً، وكان التركيز على التكوين العسكري للقبلية كبيراً تحسباً لقيام أي هجوم جنوبي من النظام الماركسي”.
ووفقا للباحثين والمؤرخين فقد زاد تسلط المستغلين من تجار وشيوخ وساسة محترفين لنظام الإرياني .
ويؤكد الأستاذ البردوني في كتابه “اليمن الجمهوري” أن صراع النقائض المتبادلة كاد أن يصل مداه وكاد المجلس الجمهوري أن يتبدى إسماً فتركزت الملاحظات على العهد كله وكان أول شرخ في ذلك العهد من داخله هو إعلان مشروع القوات المسلحة للتصحيح المالي والإداري الذي صدر 1971م كأول اعتراف بالفساد وترتب على ذلك تحجيم للمجلس الجمهوري وفي عام 1974م لاحظت أعمدة الحكم جهد الإرياني لمحاولته الانفراد بالسلطة ورأت عليه شواهد ملموسة ومنها تقويته حرسه الخاص وتشكيل غالبيتهم من منطقة إريان إلى جانب بعض الاحتكاك مع الذين صالحهم من الجيران والأصدقاء، ولما أحس الإرياني اختلال الظروف استدعى رئيس مجلس الشورى عبدالله بن حسين الأحمر ومحافظ الحديدة سنان أبو لحوم وأحمد علي المطري، وتم تقديم استقالة جماعية إلى القوات المسلحة صاحبة المشروع التصحيحي.
وبحسب البردوني فإن استقالة بعض الشيوخ إلى جانب المجلس الجمهوري ألحق الإرياني العقاب بالمتآمرين عليه دون أن يدري ويدروا.
وقال:«في يوم 14 حزيران 1974م ودّع الإرياني عهد الرئاسة وأرض الوطن محاطاً بالتكريم وبالوداع الرسمي وكأنه راحل لمهمة رسمية لا خارج من ذروة الحكم، حتى شبهه البعض بعمرو بن العاص (ولاّج خرّاج) فكما ودعت تعز الإرياني رسمياً استقبلته دمشق استقبال الرؤساء وبتوديعه واستقباله انطوت صفحة الجمهورية الثانية”.
الحركة التصحيحية 13 يونيو وميلاد النهضة
في 13 يونيو 1974م شكل الحمدي مجلس قيادة يضم عدداً من القادة منهم عبدالله عبد العالم قائد سلاح المظلات وعلي ابو لحوم قائد الاحتياطي العام ومحمد أبو لحوم قائد اللواء السادس مدرع ومجاهد أبو شوارب قائد الجيش الشعبي وعلى الضبعي نائب رئيس الأركان ... ووفقا للمؤرخين والباحثين فقد كانت هذه الحركة اضطراراً سياسياً لا ضرورة شعبية.
ويشير البردوني إلى أنه ونتيجة لثقل بيت أبو لحوم مشيخياً وسياسياً شكل صهرهم محسن العيني أول حكومة في الجمهورية الثالثة، إذ أصابه ما أصاب المجلس الجمهوري من قبله من تناقض العضوية نتيجة الطموح والتشبث فلم يكد يمر عام حتى أقصى الحمدي مجاهد أبو شوارب وآل أبي لحوم ورئيس الأركان علي الضبعاني فأضحى مجلس القيادة من عضوين هما عبدالله عبد العالم وأحمد الغشمي، وكان الإقصاء يبرر نفسه بزعم تعدد الولاءات وهو يضاهي مراكز القوى عند “السادات”.
ويقول البردوني في حديثه عن الجمهورية الثالثة في كتاب اليمن الجمهوري :«من بداية 1975م انفرد الحمدي بالسلطة مقصياً أركان نوفمبر وسبتمبر معاً، فأهاج شعبية واسعة المدى لأن أكثر السبتمبريين ماعوا في عهد التصالح وأغلب النوفمبريين تلاشوا في معركة المصالح فلم يحرق الحمدي غير محروقين سلفاً ومع هذا تسبب في فتح النار على نفسه لأنه حاول أن يبدو أكثر من حقيقته فحول مشروع التصحيح إلى لجان تصحيح تراءت كتنظيم سياسي ....ومع هذا بدأت لجان التصحيح كتنظيم مخيف لاختلاطه من كل الوجوه والاتجاهات وثبت عدم وجوده يوم لقي الحمدي مقتله في 11 أكتوبر1977م.
ويقول الدكتور عبد الولي الشميري في كتابه «ألف ساعة حرب»: حاول الرئيس المقدم إبراهيم محمد الحمدي البحث عن تيار تنظيمي يركب موجته الإعلامية وينشر من خلاله عناصر صيته جماهيرياً ... فأنشأ مكتباً للتوجيه والإرشاد الإسلامي ومكنه من ميزانية مالية وإمكانات مادية وجعل على رأسه الشيخ عبدالمجيد الزنداني وأعلن الهيئة العلمية اليمنية برئاسة القاضي أحمد محبوب، وتولى القاضي العلامة يحيى بن لطف الفسيل رئاسة المعاهد العلمية، وظل الفسيل ممدوحه الأوحد حياً وميتاً، ثم بدأ يبحث عن تيار جديد فلم يكن هناك أقدر من الحزب الناصري”.
وأضاف “ وجدت الطمأنينة طريقها إلى قلب المقدم الحمدي ليعمل على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ليضمن لنفسه قيادة مسيرتها مطمئناً للتفاهم السري مع عبد الفتاح إسماعيل وجناحه الماركسي المتطرف، وتمتع بعلاقات طيبة مع الغرب، ومر في فترة الزهو والزخم المالي السعودي مع حكم الملك خالد بن عبد العزيز الذي استثمرت السعودية خلال توليه الحكم كل جهود التنقيب البترولي للعصور السابقة له مع قلة في الالتزامات المالية الخارجية، وشهد اليمن معها طفرة مادية زاهية كان سببها تدفق الهجرة اليمنية إلى السعودية بملايين المغتربين الذين كانوا يمثلون نسبة 65 % من الحركة اليومية في الأسواق السعودية في مختلف المهن والأعمال بكل سهولة ويسر”.ومن أبرز ما شهده عهد الرئيس الراحل الشهيد إبراهيم الحمدي ما أشار إليه الدكتور الشميري إلى أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر خرج من صنعاء إلى مدينة خمر مغاضباً بعد حل مجلس الشورى وتعليق الدستور وإحساسه بروح الجفاء والعنجهية من قبل الرئيس الحمدي ولحقته القوى القبيلة وفي طليعتها العميد مجاهد أبو شوارب إلى عضوية مجلس القيادة ثم موفد إلى موسكو ثم تم تنحيته من مجلس القيادة الذي نُحي عن محافظة حجة، كما نُحي الشيخ سنان أبو لحوم وأسرته محمد وعلي ودرهم من مواقع سياسية وعسكرية هامة.
وبحسب الشميري فقد ظلت حركة التربص به قائمة وظلت قبيلة حاشد وأجزاء كبيرة من قبائل أخرى لا تدين بالسلطة الأمنية التي يوليّها الرئيس الحمدي إلا في شكل فلتات حينية وكانت لهجة التحدي والتهديد والوعيد متبادلة بين الجانبين وثارت بسببها مشاكل وخلافات غير أنها لا تتفاقم إلى حد الحرب سوى بعض التحرشات والتأهب والإعداد للمواجهة.
وكان استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي وأخيه عبدالله الحمدي يوم الثلاثاء11 أكتوبر1977م قبيل سفره إلى عدن لترتيب أوضاع الوحدة، في منزل أحمد حسين الغشمي حيثما دُعي إلى وليمة غداء حضرها كبار المسؤولين، وكما يشير إليها الكاتب هاني الخير في كتابه «أشهر الاغتيالات السياسية» فإنها حادثة تحمل غموضاً وأسراراً سياسية حيث لم تتضح معالمها حتى الآن.
وتولى بعده رئاسة مجلس القيادة ورئاسة الجمهورية أحمد حسين الغشمي للفترة11 أكتوبر 1977م حتى 24 يونيو 1978م حيث أزهقت روحه حقيبة ملغومة أو لغم زرع بمكتبه بعد فترة لم تتجاوز عام في الحكم واجه خلالها تمرداً من عضو مجلس القيادة وقائد قوات المظلات عبدالله عبد العالم الذي فر إلى مسقط رأسه في الحجرية بتعز في مايو1978م احتجاجاً على قرار مجلس الشعب التأسيسي بتاريخ 22 أبريل الذي حدد رئاسة الدولة في شخص رئيس الجمهورية فقط أحمد حسين الغشمي وهو القائد العام للقوات المسلحة، حيث اتُهِم بقتله عبدالعالم وتعذيبه لوساطة من مشائخ الشافعية حتى تصدى له بحسب الدكتور الشميري الرائد علي عبدالله صالح قائد لواء تعز ليفر عبد العالم ومجموعة من الضباط إلى عدن .. ثم تولى رئاسة الجمهورية بعد ذلك عبدالكريم العرشي باعتباره رئيسا لمجلس الشعب التأسيسي لمدة أربعين يوم خلال الفترة 24 يونيو 1978 حتى 17 يوليو 1978م وهو تاريخ انتخاب علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية. وكان مجلس الشعب التأسيسي آنذاك يضم رئيس المجلس عبد الكريم العرشي وعضوية عبد العزيز عبد الغني رئيس الوزراء والمقدم علي الشيبة رئيس هيئة الأركان العامة والرائد علي عبدالله صالح قائد لواء تعز.
وكانت أول مواجهة اصطدم بها علي عبدالله صالح انقلاب أو انتفاضة 15أكتوبر1978م التي قام بها الناصريون وتمكن من إخمادها بفعل تحالفه مع الإسلاميين والضباط المحسوبين عليهم وأبرزهم اللواء علي محسن الأحمر، كما استطاع إخماد فتنة الشطرين التي نشبت في 1979م وانسحبت القوة التابعة للجنوب من البيضاء وضواحيها وقعطبة ودمت ليتم بعدها التوقيع على اتفاقية الكويت بين صالح وعبد الفتاح اسماعيل، كما استطاع بتحالفه المتين مع الإسلاميين القضاء على الجبهة في المناطق الوسطى 1982م وهو ذات العام الذي اجتمعت فيه القوى الوطنية لتشكل حزب المؤتمر الشعبي العام وصياغة الميثاق الوطني، ومثلت إعادة تحقيق الوحدة الوطنية في 22 مايو 1990م أبرز الإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح بفعل التضحية والوطنية التي أبداها أبناء الجنوب قيادة وشعباً ليتولى علي سالم البيض نائباً لرئيس الجمهورية، إلا أن المودة لم تدم طويلاً حتى انفجرت حرب 1994م والتي لا نزال نجني مخلفاتها حتى الآن، وعاشت الوحدة على حساب موت الوحدويين الذين عانوا الأمرين خلال السنوات التي أعقبت هذه الحرب حيث أقصيت معظم الكفاءات الوطنية خصوصا في الجنوب وسلبت الأراضي ومورست أخطاء فادحة بحق اليمنيين كما تم استهداف الحزب الاشتراكي اليمني واغتياله سياسياً ومصادرة ممتلكاته ومقراته ولم يلتقط أنفاسه سوى بعد أن تشكل تكتل اللقاء المشترك الذي ضم عدداً من الأحزاب الأكبر تنظيماً وقاعدة جماهيرية أبرزها حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي استغنى عنه صالح واعترف بأنه استخدمه ككرت انتهت صلاحيته، وكذا حزب الحق والاشتراكي والناصري واتحاد القوى الشعبية والبعث ..ونتيجة لسوء الإدارة التي أعقب حرب94م فقد وصلت البلاد إلى مستويات
متدهورة ومتدنية اقتصادياً، كما انهكت كاهل الدولة ست حروب مع الحوثيين في شمال الشمال ابتدأت في يونيو 2004م، وكذا نشاط الحراك السلمي في 2006م في المحافظات الجنوبية، فضلا عن خطر القاعدة الذي تنامت وتكاثرت في عدد من المناطق اليمنية.
ونتيجة لاستمرار هذه الممارسات الخاطئة والوصول إلى طرق مسدودة بين المعارضة والسلطة، إلى جانب اندلاع ثورات عربية في عدد من البلدان العربية فقد تفجرت ثورة شبابية شعبية سلمية في اليمن في 11 من فبراير2011م أطاحت بنظام صالح، وتهدف في مجملها إلى تصحيح مسار الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر وتحقيق أهدافها المتعثرة، والسعي إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة وإنقاذ الوطن من مستنقع الفساد الذي غرق فيه وبلغ حداً لا يطاق .
إذ تشكل ثورة فبراير أهمية خاصة بفعل نضج الوعي السياسي لدى الشباب واحتكاكهم بالعالم من حولهم ومخاوفهم من تسلط القوى القبلية والعشائرية والعسكرية على السلطة السياسية الذي سبب في غياب الديمقراطية الحقيقية، وكذا بحثهم عن الخروج من حالة التخلف بطرق مثلى للوصول إلى بر الأمان وتجاوز حالة التدهور الاقتصادي المتنامي وإعادة القوى المستنيرة إلى الصدارة لتسهم في قيادة المجتمع وتوجيهه، وأجمع الثوار بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم على المطالبة ببناء دولة مدنية حديثة وبناء يمن جديد الأمر الذي يؤكد نمو الحس الوطني وزيادته مع نمو الحركة الاجتماعية واتساع النشاط الثقافي والاحتكاك بالحضارات الأخرى بفضل انتشار الوسائل والوسائط الإعلامية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي.
ونتيجة لموقع اليمن الجغرافي المتميز فقد سعت الدول المجاورة والإقليمية والدولية إلى تجنيبه ويلات الصراع، كما كان للحكمة اليمنية حضور كبير ومشرف لدى قبول كافة الأطراف بالتسوية السياسية ممثلة بالمبادرة الخليجية التي أنهت حكم الرئيس علي عبدالله صالح بطريقة حضارية وانتخاب الأخ الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً توافقياً في فبراير2012م.
ورغم عظمة الثورة في شعبيتها وسلميتها إلا أن انقسام القوى الثورية جسد حقيقة أن “التاريخ يعيد نفسه” خصوصا في ظل تنامي الصراع داخل صفوف الثوار والتباين بدى جلياً في الرؤية وانقسامها على نفسها وإن اتحدت في الهدف بالإطاحة بنظام علي عبدالله صالح ..الأمر الذي يترك أكثر من تساؤل بكيفية تجاوز هذه الصراعات التي أرهقت كاهل الحركة الوطنية طيلة مسيرتها
النضالية وأعاقت وصول اليمن إلى حيث ينبغي أن يكون في القرن الحادي والعشرين، ولازلنا نعيش فصول مشاهد صراع الأحرار فيما بينهم سواء كان ظاهراً أوعائماً، وبروز نزعات طائفية لم تشهدها اليمن من قبل، وكذا تمترس كل طرف خلف مواقفه وأفكاره، وشيوع ثقافة الكراهية التي يعول الشعب على ذوبانها بنجاح مؤتمر الحوار الوطني، ولن يتحقق ذلك سوى بتكاتف كل الفرقاء والتيارات لتغليب مصلحة الوطن فوق كل المصالح الذاتية والعمل معاً للنهوض بالوطن وفاءً لدماء الشهداء .. فالوطن للجميع وبالجميع، والأيام كفيلة بأن تكشف الثوار الأصليين والثوار بالعدوى .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.