حين انتظمت أسلوبية القرآن في ضربين اثنين انطوت تحتهما الفروع المتفرقة التي أخذت حيزاً كبيراً في التصنيف، واستقلت هذه الفروع كعلوم منفردة شغلت ذوي الألباب، وهذان الضربان هما: أسلوبية التركيب أسلوبية التأويل قلنا: لا يستغني أحدهما عن الآخر، والآخر داعم لما قبله فهما كل من كل، وعلى ضوئهما يستحيل التشعب، والنزول المتفرق، فإنهما يحتاجان إلى ترتيب على مستوى لا يليق بهما، فالتنزيل كتلة بعد كتلة ابتداءً من "الحمدلله رب العالمين"، وختاماً ب"قل أعوذ برب الناس"، وهذا غاية المقصود 1 أسلوبية التركيب والتركيب لفظاً مفرداً، ويكون مجال البحث فيه فناً من فنون البلاغة التي استقلت فيما بعد، والمستوى اللفظي قد يكون متفقاً حرفاً، وله مجال تراتبي (تراكمي) وجميعها تشترك في معنى أصلي، وهذا المستوى قد يكون متبايناً بمعنى اشتراك اللفظ واختلاف المعنى، وقد يكون توافقياً، بمعنى اشتراك في اللفظ والمعنى، وكلاهما داخلان تحت مجاز اللغة. والصنف الثاني من هذا المستوى اختلاف اللفظ واتفاق بل أقول اشتراك المعنى، وقد أدرجوه تحت علم: الترادف، وهو ما لا أميل إليه؛ إذ إن الفطن في علم اللغة لا يصعب عليه الفرق في هذا المجال، وقد تنبه لذلك كثير من العلماء كالثعالبي في كتابه: فقه اللغة، وغيره.. ولا يجمع الكل على معنى إلا فاقد الذائقة. والثاني: تركيب في الأسلوب، وهو ضرب يعنى بدراسة التركيب من عدة أوجه. 1 التركيب البلاغي وهو المعنى الذي أداه هذا التركيب. 2 التركيب النحوي: وهو التغيير الذي طرأ على هذه الصيغة. 3 التركيب اللغوي وأعني به استقلال العربية المبينة به واشتراكه مع لغات مجاورة أو قديمة جاء بها التنزيل كما استخدمت قبلاً، وأخذت جملة دون أن تتغير، أو لم تستعمل في العربية المبينة ولكنها عربية استخدمت فيما قبل وبقيت في تلك الألسنة، ومجال هذا الصنف (الوجه) توثيق الظواهر اللغوية للعربية على مر العصور. وهو الوجه الذي حار فيه كثير من السابقين، واضطروا إلى التكلف وإنزاله على لسان البدوي المعاصر دون معرفة باللغات السابقة، والمعاصرة، فقد عدوها غير عربية. ويدخل تحت هذا الوجه أساليب البلاغة، كالإنشاء بأنواعه، ولم تدعهم الحاجة إلا لسرد الأمثلة التي تدعمهم وإن كانت مصنوعة. المستوى الفردي الموحد للأصوات: لنأخذ أمثلة على المستوى اللغوي في المفردة المشتركة في الأصوات: الجنة، فقد ترد بصيغة الجمع وترد بصيغة الإفراد والتثنية. وقد ترد مستقلة وقد ترد مفسرة أو مبينة أو مضافة. {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} {اسكن أنت وزوجك الجنة} { جنتان عن يمين وشمال} { أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} { جنات عدنٍ} { من ورق الجنة} {جنة الخلد} {نتبوأ من الجنة...} { وجنة عرضها السماوات والأرض} ... وجنات تجري من تحتها الأنهار ..والكل مشترك في معنى أصلي ولكن تفاوتت المستويات اللغوية لهذه المفردة أعني هذه الأمثلة التي أوردتها لأقل مفردة في القرآن. وهي إن كانت من الاجتنان أي الاختفاء أو من الجنة بضم الجيم من المنع والوقاية، أو من أخذ الألباب وسحر العقول، فهي تظهر بمعناها في التركيب الأسلوبي فإذا تبين للباحث هذا المعنى علم أن الفرق دقيق والانفراد مخصوص، فجنة البساتين الموهوبة للبشر على هذه الأرض غير جنة آدم، وغير جنة المتقين فهذه ثلاثة معانٍ مختلفة للفظة مشتركة، فإن آدم مأمور بدخول الجنة محذر من قبل ربه، فالمقصود احتراس آدم من الأكل. مقترناً بالعطاء الكافي { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}. وهي جنة متواضعة بسيطة، بدائية تتفق مع ابتداع هذا المخلوق، مقتصرة على أشياء معدودة، قريبة مع المعرفة البادئة، {وطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة}.