امتلأت سورة يوسف بالإشارات والكنايات ولطائف التورية ، وما أوحت به لفظة الذئب إلا واحدة من تلك الدلالات البديعة ، أول ما أحالنا إلى استحضارها هنا تلك الآيات التي أضحت للسائلين علامات ، ولا أخفيك علماً أن أول ما يصادفنا من تلك الدلائل هي كلمة السائلين نفسها ، وما نحن في سبيل بيانه الآن مفردة ( الذئب) التي ضيّقت المجال اللغوي لدى المتلقين للكلام ولم تظهر لهم من جمالها إلا وجهاً واحًداً أو قل هو اقل من ذلك. ما صرف المفردة عن معناها الحقيقي علاقات تضمنتها السورة بأكملها ، مجمل الأمر بدأ من الكيد الذي كادوه ،وأنهم لن ينالوا السيادة والوجاهة، إلا إن تخلصوا من أخيهم ، أولم يدركوا أنهم بهذا أرادوا القضاء على أبيهم كذلك؟ أيّ وحوش هؤلاء ، ذئاب بصورة بشر، ولا أقصد المستذئبين على طريقة أفلام السينما ، وهكذا كنى أبوهم عليه السلام ، وأحال المعنى إلى أقرب مخاطب ، حيث توحي أداة التعريف( أل )الشمول ، والجنس ، وهو ما دل عليه خطابهم قبل خطاب أبيهم ، حين قالوا :(ما لك لا تأمنا)فما كان جواب أبيهم إلا أن قال لهم :( إني ليحزنني أن تذهبوا به)، وما قوله وأخاف أن يأكله الذئب ، إلا إيغال في المحاكاة والتقريع ، كيف لا ، وهو الذي جاء لهم بحيلة الذئب ، ولم يدركوا أن الذئب لا يقبل على التهام ابن آدم ، بقدر ما يعشق دمه ، ولم يكن لهم من بد لو طلب منهم أن يأتوا بجزء من أجزائه المأكولة ، لكنهم عكسوا القضية فاستأثروا بحق الذئب ، وهو الدم ، وأعطوه ما لا ينسب إليه بل يكرهه ، وهكذا بانت كذبتهم الثانية. المعنى الإحالي الذي حكته الكناية (وهنا أستأثر بالزيادة على مصطلح الإحالة، إذ قصرها اللغويون المحدثون على الكنايات الإشارية والمقاربة لكن الكناية أشمل فيدخل المظهر والمضمر). تلك لطائف تميزت بها المفردة إلا أنها بدائية ، وما أردت الإشارة إليه هو أن الإخوة انفردوا بأنفسهم (ونحن عصبة)وكفروا بنعمة النبوة (إن أبانا لفي ضلال مبين) ، وهو بداية الطمع والتسلط ،(يخل لكم وجه أبيكم)،(وتكونوا من بعده). إن الربط بين هذه المعاني ومفردة الذئب ، على ما حكاه اللغويون فيها هو أساس المعرفة الحقة ، ومن ذلك هل المعنى حقيقي فيها أو مجازي، فمن ذهب إلى الحقيقة جعل المعنى المترتب عليه إحالة ، ومن ذهب إلى المجاز جعل الإحالة في اللفظ ذاته وهو ما رجحناه للأسباب سالفة الذكر. الذئب مفردة مجازية أخذت من الذؤابة وهي الريح وإنما شبه الحيوان هذا بها لأنه يأتي من كل جانب كالريح التي تهب من كل مكان ، هذا بعض مما ذهبوا إليه ، تبياناً للشيء ربطنا العلاقة بين اللفظة والرؤيا التي رآها نبي الله يوسف(عليه السلام )فالكواكب والشمس والقمر ليست إلا كنايات عن الولاية والسلطان والولاء ، ولها إشارات في علم الفلك لكن من تمام ما لم يدركه يوسف عليه السلام إشارة الذئب ، وقد بادر الأب( عليه السلام ) إلى تمامها ( ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك). المجموعة التي تشكلت في المنام اليوسفي هي منظومة التأويل ،بقي واحد خارج عن هذه المنظومة منفرد بنفسه يرمز إلى القناعة وعدم حب التسلط ، يساير الأمور لكنه يبحث عن العدالة ، إنه الذئب الابيض أو الذنب الأبيض، وهو من تمام التأويل.