وحين تقرأ قوله تعالى : “ كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة “ تهفو النفس لكشف أسرار الجمال وعلاقة الانتظام التركيبي في كل دالة من دوالها ابتداء من التشبيه والإحالة في ضمير الغيبة هم والصفة المشبهة باسم الفاعل وانتهاء بصيغة جمعت خاصتي المصدرية والمبالغة . إن التصور الذهني هو ما يقودنا إلى الإحساس الجمالي ، ناهيك عن ما يخلقه من إبداع فني من اللا شعور إلى الشعور ولهذا كان التشبيه أقرب دافع إلى التخييل وهو ما يكون أبعد شيء من التجريد ذاته، إذ إن المجرد أقرب إلى الواقع محسوساَ. لعمري كيف يجدر بقارئ لاح له معنى من هذا الجمال التركيبي لا يقف حائراَ مثلاَ أمام أداة القصر التي عمدت إلى تقديم المشبه وإخراجه من صفة العاقل إلى صيغة غير العاقل دون أية مقدمة ، أوليس ما يبعث على التجريد الوصفي هو الغرض ذاته من إيراد التشبيه المقصور غير فاصل بين المشبه والمشبه به بفاصل لفظي أو إشاري هوما يفهم على الحقيقة الوصفية من جهة التصنيف. كل معنى أوحى به لفظ «حمر» يمكن أن تستحضره هنا ولست معيباَ إن جمعت بين كل هذه المعاني لأن المتأمل لا يسعه ادعاء التأويل ، في كل ما هو جمال ، ليس من جهة الحرف منفرداَ ، بل من جهة الحركة التي أثرت على هذا الجمال بعينه. «حمر»مفردة فرضت نفسها بقوة مع ما تفردت به من ظاهرة توالي الحركات التي تبعث على الحركة المستمرة دون فاصل ، وها نحن أمام جمالين من أسرار البلاغة الأسلوبية اتحدا في الإيحاء من طريقين مختلفين. الاستنفار شيء باعث على الحث والتكرار ولكن أحياناَ يقتضي الإسرار والهمس ،وهو ما توحي به الدوال: الراء السين التاء الفاء ، على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل لها دلالتها الخاصة، إذ الدوام ملازمها والطلب نابع منها تابع لها وهي من تقوم بهذه المهمة من تلقاء نفسها ، لكن الجمال البلاغي يكمن في الأسلوب التصويري، إذ الحمر هنا تؤدي وظيفة الاستنفار وهذا المعادل الموضوعي هو ما يطلق عليه البلاغيون التشبيه التمثيلي. تمنيت لو كنت مخرجاَ سينمائياَ كنت بينت المشهد جلياَ يدهش الألباب ، حمرتركض مستنفِرة أخواتها في كل اتجاه ، وهنا تنتظم المعاني الخفية من أداة التواصل الخطابي وما يتعلق به من مستتبعات عن طريق الهمس التي يتبعها تشنيف الأذن إلى الأعلى تارة ، فالأسفل ، اليمين ، اليسار، الأمام ، الوراء تارات أخر ,مع ما للركض دون جهة محددة من إيحاء. تخيل هذا المشهد التصويري : قطيع حمرمختلفة الرؤى والوجهة لا تحب أن تنجو بنفسها وتتعب نفسها راكضة تستنفر كل واحدة الأخرى ، كل منها وجهتها غير وجهة الثانية ، لا تعلم أين المستقر ولا من أين المقصد ولا من ذلك القاصد الذي يستحق كل هذا الاهتمام ، وهذا ما تمكن الإشارة إليه «كمثل الحمار يحمل أسفاراَ » بئس مثل القوم الذين ظلموا. الأسد قد يوحي بخوف وسطوة لكنه يفتقد إلى ما قد يدل عليه لفظ «قسورة» ذلك الغريب اللفظ والدلالة معاَ ، إذ هو من حيث المصدرية مصدر الخوف الذاتي ، والقسوة والسلطان والجبروت ، ومن حيث المبالغة إليه انتهى المعنى وعليه انتهى القصر ، وهو من جهة العموم أشمل ، وأغرق في الوصف ، ومن جهة النسبة والتسبب فاسم مرّة وهو في كل الأحوال لفظ انفرد به أهل اليمن .