شقّ الجرادة طريقه في عالم الشعر وأصبح علماً من اعلامه واستطاع بعبقريته ان يصل الى أعلى المراتب ويتبوأ مكانة مرموقة في الوسط الشعري والأدبي في اليمن .. بل ان بعض النقاد وضعه في مصاف شعراء العربية الكبار كالمتنبي وشوقي .. فللإثنين ميزة اختصّا بها وهي ميزة « الشاعر العالم » ويأتي الجرادة ليكون ثالث ثلاثة في هذا المضمار ..ويعترف كاتب هذه السطور بأن الجرادة الشاعر اليمني الوحيد الذي يدفعه بشكل قسري للعودة الى المعجم لفك معاني بعض المفردات القوية المنتقاة بعناية واقتدار من صلب المعجم.. ذلك ان الجرادة بثقافته الواسعة غاص في عمق التاريخ وانتزع من اعماقه درراً نفيسة صاغها عقوداً متلألئة وبرّاقة من الشعر الفصيح والجرادة كثيراً ما يذكّرنا بالمتنبي الشاعر الحكيم ..فشعر الجرادة ينضح بالحِكم الانسانية التي يضمّنها معظم قصائده , فتجري على ألسن الناس وتبرز في سلوكهم وتعاملهم في كثير من شئون الحياة .. ولكي يتأكد القارىء من صدق ما أوردناه يمكنه العودة إلى واحد فقط من دواوينه الشعرية لتترسّخ هذه الحقيقة في ذهنه .. ويبدو أننا الآن بحاجة للتجوال في فراديس هذا الشاعر لنرى كيف كان شعر الجرادة فيضاً من القيم والمعاني الإنسانية النبيلة التي تتجلّى في هذه القصيدة أو تلك فيقول في البيت التالي: وإذا تعوّدت العيونُ على القذى تغدو الجحيم أمامهن جِنانا وفي قصيدة (عمري) يقول : لم يعد طور الصبا سنّي وأحسبني تناسخت فيَّ أعصارٌ وأجيالُ بعض الرجال شيوخٌ في شبابهمُ وبعضهم في غمار الشيب أطفالُ بمعنى إنه قد يكون الإنسان صغير السن لكن لشدة ما يلاقيه من عقبات فإنه من جراء ذلك كأنه شخص عركته الحياة وتقدّمت به السن كثيراً .. ولذلك تجد كثيرين من الناس الكبار في السن لاهمَّ لهم في الحياة وليس هناك ما يعكّر صفو عيشهم وبالمقابل تجد صغاراً في السن حوّلتهم هموم الحياة ومتاعبها ومسئولياتها إلى كهول كأنهم يعيشون عمراً غير عمرهم .. يقول في قصيدة ((الشاعر)) : ألا إنّ هذا الدهر مهما تقلّبتْ على ناظري أحداثُه ونوائبُهْ ومهما طما بي في محيطٍ من الأسى يُغالبني تيّاره وأغالبُهْ ومهما رمى بي في بطون مجاهلٍ يضل بها الساري وتضوي ركائبُهْ فلم يستطع تحطيم قلبٍ مُجنّحٍ الى مستوى الأفلاك تسمو رغائبُهْ كفى إنني حرٌّ يعيش لقلبه فما تتدنى للصغار رغائبُهْ إلى أن يقول : وما المال إلا غصة ومرارة إذا ضمّه من مصدر الغشّ كاسبُهْ وملخّص الأبيات السابقة هو : إن الانسان الصلب والشامخ , قوي الارادة والعزيمة لا يستطيع الدهر – مهما كان قاسياً – أن يُلين طموحه او يثبّط من معنوياته أو يقلل من إصراره الجامح الذي يتحدّى الصعاب والملمات ..الإنسان الذي لا يعرف اليأس والقنوط ولايستسلم لصغائر الاشياء هو الانسان الحقيقي المعتد بذاته والمعتز بنفسه .. كما ان المال الذي يكسبه الإنسان بطرق غير مشروعة , فمهما نما وتكاثر إلا انه مصدر قلق على صاحبه , فيظل اسير القلق والاضطراب لا يعرف الاستقرار والاطمئنان في حياته .. وهذه صرخة يطلقها الشاعر لعلّ من يسمعها يتعظ ويأخذ العبرة .. فليس هناك أجمل من مال حلال يجمعه الانسان بجهده وعرقه وصدقه وإخلاصه ..والحياة مليئة بنماذج كثيرة من الناس الذين يلهثون وراء المال ويسلكون في سبيل الحصول عليه طرقاً مشبوهة.. فبئس هؤلاء الناس وبئس ما يجمعون. وفي قصيدة(( بعد الفراق ))يقول : أنا والدُجى والهوى والشجونْ وطيفكِ والحب والذكرياتْ وجودٌ .. ولكنّه حالمٌ وماضٍ ولكنه فوق آتْ وكونٌ ولكنه صامتٌ و يا ربّ صمت يروع اللغاتْ فالقارىء للأبيات السابقة سيقف عند عجز البيت الثالث يتأمل حكمة بليغة.. فربّ صمت فيه تأمل وتأنٍ وتفكّر ورويّة , فهو في فحواه ومضمونه أكبر من كل الكلمات وأبلغ من كل اللغات. ويقول في قصيدة أخرى : مضى الأُلى حسبوا الدنيا لهم خُلقتْ وأصبحوا عِظة الآتي بمن ذهبا النفي والموت قتلا بعض ما كسبوا وإنما يجتني الانسانُ ما كسبا إلى أن يقول: واحرص على عامل الوقت الثمين فإنْ أملت ميزانه في كفّك اضطربا وفي قصيدة (في رثاء العقاد) : لستُ أرثيكَ رُبّ ميتٍ من الناس يكون الرثاء أوفى ثوابه ويقول : يولد العبقري حياً ويبقى فوق معنى الحياة بعد ذهابه ويقول في نفس القصيدة أيضاً: آه ما أتفه الحياة إذا ما فقد المرء عندها إيمانه وطني يا أرقّ ترنيمة هزّتْ فؤادي وأيقظت وجدانه وفي قصيدة( مطلع النور) : وسخي النفس تُهدي كفُّه لُبد المال وحمر النعمِ ينفق الفيء على الصحب ولا يصطفي أسرته بالدرهمِ وهكذا فإن المتتبّع لشعر الجرادة سيجد نماذج وفيرة تزخر بالحكمة المستخلصة من واقع الحياة..والتي نحتاجها كثيراً في هذا الزمن الرديء, الذي تقطّعت فيه الصلات والعلاقات.. وغابت فيه الكثيرمن القيم الإنسانية النبيلة [email protected]