رؤية علمية أولاً: فقه المقاصد: نشأة وتاريخ المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: هي الأهداف التي جاءت الشريعة لمراعاتها-جلب المصالح ودرء المفاسد وهذا هو الفقه العظيم. وهو الذي مارسه الرسول «ص» والراشدون من بعده وسائر الصحابة .هذا الفقه المرن مارسوه دون تسميه. ففتحوا الدنيا واستوعبوا حضارة العالم المختلفة دون اصطدام. بدأ المصطلح يتجلى تحت مسميات مثل: الضرورات الكبرى, والقواعد الكبرى, والضرورات الكلية, والضرورات الخمس, القواعد الكلية. حتى القرن الرابع ظهر الفقيه العلامة أبو الحسن العامري وكان من مجايلي- جيل الفقيه-إمام الحرمين الجويني, فتبلورت الفكرة واستقرت تحت مصطلح «مقصود الشارع» وجاء الفقيه أبو حامد الغزالى-تلميذ الجويني وبعده- الفقيه الفيلسوف الرازي فتبلور المصطلح إلى «مقاصد الشريعة». انطفأت فاعلية المصطلح حتى ظهور العز بن عبد السلام – المعروف بسلطان العلماء وبائع الأمراء فجاء بكتابه الفذ الرائع كتطبيقات للفقه المقاصدي وكان عنوان الكتاب أكثر وضوحاً وبساطة وقرباً من الفهم العادي «قواعد الإحكام مصالح الأنام» وهذا الكتاب عنوان ومضمون جاء ليقول: إن الإسلام مصالح- يعني مصالح الإنسان, وكلمة مصالح تفيد في مضمونها: دفع المفاسد والأضرار عن الإنسان. اثبت هذا الفقيه العظيم أن مصالح الدنيا معلومة بالعقل والتجارب, وهذا يعني ببساطة إن الكهنوتية في الإسلام وأن الأصل في القضايا الدنيوية «الإباحة» إلا ما حرمه الدليل القطعي, كما يعني إن دائرة التحريم في ظل مقاصد الشريعة ضيقة جداً. جاء الشاطبي في القرن الثامن فوضع النظرية العامة للمقاصد بمعنى أنه قام بجمع الأدلة العقلية والنقلية التي تشير بمجموعها: إن الشريعة الإسلامية جاءت لأهداف وغايات- اسمها المقاصد, موكداً أهميه هذا الفقه, ومكانة فقيه المقاصد بين الفقهاء, وأن رأي الفقيه المقاصدي هو المعتبر عند الخلاف, ولا عبرة بالفقيه الذي يحفظ الجزئيات- الفقيه المقلد, لأنه لا يعلم أصول الاستدلال. صحيح إن الشاطبي لم يقل بهذا التفريق بين الفقهاء حرفياً, وإنما تكرر هذا التفريق من حيث معنى كلامه, أما الذي صرح حرفياً بالتفريق بين فقيه المقاصد وفقيه الجزئيات-مشيداً بمكانة فقيه المقاصد- في حدود علمي هو الفقيه «القرافي» من فقهاء القرن السادس الهجري, ثم تكررت فكرة الإشادة بفقيه المقاصد تحت عبارات أخرى كقولهم : الفقيه المقلد لا عقل له, لأنه يتبع عقل غيره بدليل وبدون دليل. الفقيهان الحنبليان المعاصران للشاطبي, وهما الفقيه-ابن تيمية, وتلميذه النابع ابن القيم, تميز الأول بالتطبيقات لاسيما في جانب المعاملات فجاء بفقه مرن جداً, وتميز ابن القيم بالتأصيل المقاصدى في أكثر كتاباته وأعظمها وأبرزها كتابه الضخم الرائع «شفاء العليل» لقد ساق مئات الأدلة انتصاراً لفقه المقاصد تحت عنوان التعليل بالحكمة – يقصد مراعات المصالح التي يراعيها التشريع الإسلامي. كاد فقه المقاصد أن يموت بعد القرن الثامن حتى جاء الفقيه الهندي «ولي الله الدهلولي» من علماء القرن الثالث عشره فخرج بكتاب قيم اسمه «حجة الله البالغة» ولكنه كان في اغلبه غامض. الشوكاني وقبله ابن الوزير والصنعاني-الأمير, والمقبلي. لم يتعرضوا لهذا الفقه واكتفوا بالتجديد على طريقة العودة المباشرة إلى نصوص القرآن والسنة هروباً من صراعات الرأي الذي افسد أكثر مما أصلح. فقهاء العصر: الشيخ القرضاوي, طه جابر العلواني, وشاطبي العصر- أحمد الريسوني, وغيرهم أسهموا في تجلية هذا الفقه وإحيائه بل إن القرضاوي ادخله في المنهج الجامعي. ثانياً: تجديد المقاصد وثبة جبارة وعقل مغاربي من المعلوم إن فارس «نظرية المقاصد» هو الشاطبي رحمه الله حيث قدم موسوعته المعروفة تحت عنوان «الموافقات» في أربعة مجلدات وبالتالي فهو أول جامع ودارس وباحث وضع «نظرية المقاصد» وهو مغربي من رجال القرن الثامن الهجري. وإذا تأملنا في العصر الحديث سنجد اغلب الباحثين في فقهه المقاصد-بلغة العصر, ومناقشة مستجدات العصر في رسائلهم الجامعية أو بحوثهم العادية سنجد اغلبهم مغاربة. السبب يعود لاعتبارات وعوامل لا داعي لاستعراضها. فارس مغاربي معاصر د طه عبد الرحمن أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون- فرنسا, وجامعة محمد الخامس بالمغرب . هذا الرجل في نظري ونظر الكثير ممن قرأوا له: يسلمون له انه يعتبر مدرسة كاملة في الفلسفة والفكر الإسلامي, وله سلسلة كتب – أحد عشر كتاباً ناقش فيها قضايا فلسفية عدة مقارناً بين فلسفة رؤية الحياة في الحضارة الغربية المعاصرة وبين الرؤية الإسلامية, وتتسم مناقشاته بالهدوء وطول النفس والتشريع الجزئي العميق. غير أنه لم يتعرض لفقه المقاصد إلا بنسبه 1% مفاجأة د طه عبد الرحمن. في مجلة «قضايا إسلامية معاصرة» العدد الثامن عشر وتحديداً عام(1422)ه -2002م ومن صفحته 208-232, قدم لنا مفاجأة. تحت عنوان (رؤية علمية لتجديد فقه المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. المفاجأة جاءت من ثلاث زوايا. الزاوية الأولى إن الرجل معتز. بتراث الإسلام كليات وجزئيات, ويدافع عنه بكل ما أوتي من علم. وقد تعرض كثيراً ناقداً لدعاة تجديد المنهج وغربلة التراث . بمعنى أن د. طه غارق في جزئيات التراث, ولم يتمكن من الوصول- حد فهمي إلى دائرة فقه المقاصد. الزاوية الثانية: وهي الأخطر في نظري: أنه دعي لتجديد فقه المقاصد , علماً بأنه ضد دعوات تجديد المنهج والمقاصد هي صميم المنهج . الزاوية الثالثة أن كثيراً من الفقهاء يرفضون فكرة تجديد أصول الفقه وكان د. الترابي حامل لواء تجديد أصول الفقه قد تلقى سيلاً من النقد جراء قوله هذا وبعضهم قالو فيه مالم يقله مالك في الخمر – حد المثل السائر بين الفقهاء. علماً بأن الترابي قال: يتم محاكمة وتجديد قواعد أصول الفقه إلى مقاصد الشريعة, ذلك أن المقاصد هي أصل أصول الفقه, وأصول الفقه خادمة للمقاصد هذا من جهة. ومن جهة ثانية: إن الفقهاء المتخصصين في المقاصد في حدود علمي لم يقل احد منهم بتجديد فقه المقاصد. نعم قالو بإضافة بعض القيم الإنسانية إلى المقاصد الكبرى, مثل قيمة (الحرية) فقالوا - المقاصد الكبرى – الضرورية- حماية الدين, حماية النفس, والعرض, العقل, المال, والحرية. وتكرر قول الفقيه القرضاوي (الحرية قبل الشريعة) وقال فقهاء : يجب إضافة العدل والمساواة, إلى المقاصد الكبرى.. وتوسع ابن تيمية في العدد إلى(22)مفردة, وفي نظري هو تفصيل يدخل تحت المقاصد الكبرى الست الآنفة الذكر. والسؤال المطروح: إذا كان حصل للترابي ما حصل بشأن تجديد أصول الفقه, فما نصيب د. طه عبد الرحمن؟. ثالثاً: د. طه ورؤيته الجديدة من المعلوم إن فقهاء المقاصد قسموا مقاصد الشريعة إلى ثلاث مراتب, مرتبة الضروريات المتمثلة في حماية الدين والنفس, والعرض والعقل والمال. والحرية- حسب فقهاء معاصرين. المرتبة الثانية الحاجيات- الخادمة للضروريات – التي هي وسائل.. لأن غياب بعض الحاجيات لا يؤدي إلى حرج شديد. المرتبة الثالثة التحسينيات- الكماليات بلغة العصر. الإمام الشاطبي وهو الفارس في هذا الميدان, كان قد ضرب أمثلة لكل المراتب الثلاث وجاء عند مرتبة التحسينيات فأدخل الأخلاق في إطار المرتبة الثالثة – قائلاً : ومكارم الأخلاق من الأمور التحسينية ماهي الرؤية التي جاء بها د. طه عبد الرحمن؟ أ. قام بتتبع التعريف والتصريف اللغوي لمفردة (مقصد)وأطال بعض الشيء وتوصل إلى المعنى العادي البسيط الفطري الواضح: إن القصد يعني النية, والنية محلها القلب, والقلب هو بيت التقوى, والتقوى هو أعظم القيم في منع الإنسان من أي تصرف خطأ, ومنع التصرف الخاطئ يأتي من القلب العامر بالتقوى, وإذا: فإن أول مرتبة من مراتب المقاصد ليست هي حماية الضروريات, وإنما هي القيم والأخلاق, فالتقوى قيمة.. يترسخ من خلالها قيمة الأخلاق, وبالتالي فالأخلاق هنا- أي القيم أعظم قيد, وأعظم كابح لتصرفات الإنسان ونزواته وغرائزه . وصل إلى خلاصة مفادها: إن مرتبة الضروريات الكبرى مؤطرة بالقيم, وبالتالي: فالقيم هي أساس المقاصد وهي إطارها وهي المرتبة الأولى- الحاكمة لكل مراتب المقاصد. ج. ودليل آخر استند إليه د. طه وهو(تحريم الحيل الفقهية)تحريماً قاطعاً ؛ كونها تقوم على هدم مقاصد الدين بطريقة ملتوية, ظاهرها أنها دين وهي العكس, هذا الحيل مردودة بل مرفوضة عند فقهاء المقاصد. والسبب المؤدي إلى فعلها هو غياب التقوى- القيم, مثال زواج التحليل وزواج المتعة, والزواج المؤقت, حيث يقول القائلون بالحيل - تزوّج, ولا تعلن انك تريد تحليلاً أو متعة, أو مؤقتاً, معتبرين إن الحكم القانوني الشرعي مداره على الظاهر وان النيات والمقاصد لا علاقة لها بمثل هذه العقود, وكذلك عقد بيع كذاب - على سلع ليس المقصود شراؤها ولا واردة أبداً بين الطرفين حيث يأتي شخص يريد فلوساً من آخر إلى زمن محدود, لكن الغني يريد (ربا) فيلجأ إلى إدخال سلعة وهمية فيبيعها ثم يشتريها بثمن أنقص- ويسمى بيع العينة, وهو ربا 100 %مثل هذه الحيل في العقود الآنفة وغيرها صادرة عن قلوب خاربة من القيم, ومثلها القتل السياسي تحت مسمى البدعة والإكراه على الدين, واستحلال الأعراض والأموال الخ... كلها ناجمة عن قلوب لاتقوى قيم فيها, لا إيمانية ولا خلقية ولا اجتماعية. د. مستند آخر في القرآن :[ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم] وهذا في نظري مستند متين وشواهده في القرآن كثيرة. دين القيمة, الدين القيم, فطرة الله التي فطر الناس عليها. ه . وعزّز وجهة نظره التجديدية بالحديث [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]. دوافع د. طه إلى هذا التجديد في نظري هي إن الدكتور طه. لديه كتاب ضمن سلسلته وعنوانه (سؤال الأخلاق) ناقش فيه كبار فلاسفة الغرب الحديث, وسياسة الغرب الذرائعية - الوصول إلى المصالح بأية طريقة كانت - فلا قيود أبداً أمام المصلحة, فالغاية تجعل الوسيلة مشروعة مهما كانت محرمة ، فالغاية أهم ومن هنا نجد صمت الغرب عموماً أمام المجازر التي تفعلها إسرائيل في فلسطين أو الزعماء في بلادنا العربية والإسلامية. وإذن فالغرب لا قيم لديه ولا أخلاق, وان ادعى ذلك, فالوقع يثبت العكس. الخلاصة أرى إن د. طه قد حالفه التوفيق بنسبة 100 %. من حيث الفكرة, لكنه مطالب بمزيد من بلوره الفكرة وضرب الأمثلة. فالرؤية قوية, وموضوعها حيوي جدا ًجداً وإنا لمنتظرون.