احتوى القرآن الكريم على مفاهيم تنموية عدة، كالتزكية والإعمار والتنشئة والهداية والتربية والحياة الطيبة ، وقد خلق الله تعالى الإنسان من «روح وجسم» وزوّده بالعقل والمشاعر وبكل الإمكانات الظاهرة والباطنة لحمل الأمانة وخلافة الله في الأرض، كمنهج للحياة الدنيا والآخرة، ودعوته للمعرفة والتخطيط والعمل والتطوير والإصلاح..، كما أعلت السنة النبوية من مكانة الإنسان، وتنمية قدراته والمحافظة عليه؛ من خلال دعوته للمحافظة على النفس، والعمل على توفير الغذاء والكساء ، وتحقيق الأمن النفسي، والمحافظة على سلامة العقل والجسم، واتباع السلوك الإيجابي، والحث على طلب العلم والمعرفة، ومكافحة الفقر، والمحافظة على البيئة بكل مكوناتها من ماء ونبات وحيوان وهواء، وموارد طبيعية، وتنوّع حيوي. وقدم عدد من علماء الفكر التنموي الإسلامي في الماضي والحاضر إسهامات فكرية وتطبيقية في التنمية الإنسانية، شملت : مكونات الإنسان وحياته، وعقيدته، وحريته، واحتياجه للأمن بأنواعه المادي والنفسي والمعنوي والصحي، وحقه في التعبير عن رأيه، وحقه في التعلم وفي السكن، والتنقل، وقد أجملت في الجوانب الآتية: «الفكرية، المعرفية، الشخصية ، الروحية الأخلاقية، الاجتماعية، الاقتصادية».. إلخ، وتظل لكل عالم آراؤه وأفكاره الخاصة والمميزة لزمنه وخبرته.. وباستعراض تاريخي وزمني لأبرز الأفكار التنموية بعد العهد النبوي الشريف، وانتقاء شخصيات ساهمت في إثراء التنمية باعتمادها على القرآن الكريم والسنة النبوية وتجاربها الحياتية، واهتمت بالشخصية الإنسانية المتكاملة ببعديها المادي والمعنوي «الروحي»؛ للقيام بمهمة خلافة الأرض وعمارتها؛ وأداء الأمانة على الوجه الأكمل، تظهر لنا عظمة الحضارة الإسلامية فكراً وممارسة، ونبدأ رحلتنا مع الشخصية الأولى: عمر بن الخطاب «ت 23 ه»: جاء الإسلام لأجل الإنسان، وعلى قدر تطبيق العقيدة الإسلامية تكون إنسانية الإنسان، وبمراعاة الفطرة الإنسانية تكون قيمة التربية وقيمة المربي، وقد تجلت مظاهر اهتمام عمر بن الخطاب بالإنسانية في عدة أمور؛ منها: رحمته بالناس: فمن أقواله: «لا يُرحم من لا يرحم، ولا يُغفر لمن لا يغفر، ولا يُتاب على من لا يتوب، ولا يوُقى من لا يوقي”، واحترام حياة الناس وأعراضهم وأماناتهم: وفي هذا يقول: «لا يعجبنكم من الرجل طنطنته؛ ولكن من أدى الأمانة إلى من ائتمنه ؛ ومن سلم الناس من لسانه ويده»، وقصته مع عمرو بن العاص وابنه الذي ضرب المصري مشهورة، وإشباع حاجات الناس: احتراماً لإنسانيتهم؛ ويقول في ذلك : «إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض ؛ فإذا عجز ذلك عنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف»، وتعدى الأمر إلى تفقد أحوالهم وتحقيق مطالبهم ، والمساواة بين الناس فهو أساس العدل، واحترامه للدين، فحرية ذلك أمر أقره الإسلام؛ وقد احترم عمر هذا المبدأ؛ حيث يروي وسق الرومي أنه كان مملوكاً لعمر بن الخطاب ، وكان يقول له : «أسلم فإن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لي أن أستعين على أماناتهم من ليس منهم» قال: فأبيت، فقال: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..» (البقرة :256)، فلما حضرته الوفاة اعتقني؛ وقال: «اذهب حيث شئت»، ودعوته كذلك للتعلم: إذ وردت أقوال تؤكد هذا عنه؛ ومنها قوله: «تعلموا العلم؛ وتعلموا للعلم السكينة والحلم؛ وتواضعوا لمن تعلِمون ؛ وتواضعوا لمن تعلَمون منه ؛ ولا تكونوا جبابرة العلماء ؛ فلا يقوم عملكم بجهلكم»، واهتمامه بالطفولة: من خلال إحسانه إليهم، وإشباع حاجاتهم الأساسية، ورعايته لليتامى حيث كان يفرض لكل مولود مائة درهم من بيت المال للإعاشة والحياة الكريمة ؛ وذلك لأنهم يشكّلون الأساس الحقيقي لمستقبل الأمة، واهتمامه بالشباب: حيث عمل على بناء الثقة في نفوسهم ليقبلوا على تحمل المسئولية بجدارة فهم بناة المستقبل؛ إذ يقول فيهم: «انه ليعجبني الشاب الناسك؛ نظيف الثوب ؛ طيب الريح»، وقوله: «لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه؛ فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه؛ ولكن الله تعالى يضعه حيث يشاء» فكان يولي الشباب الإمارة ويفضلهم على الشيوخ إذا رأى فيهم فطنة وكفاءة على غيرهم، وحرصه على التنمية الجسدية: كان عمر قوي البنية يجيد الرياضة، مستمداً ذلك من روح الإسلام الذي يحب المؤمن القوي؛ حيث كتب إلى الآفاق في توجيه عام : «علموا أولادكم العوم والرماية؛ ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً؛ ورووُهم ما جمُل من الِشعر؛ وخير خلق المرأة المغزل»، ومن وصاياه في الصحة البدنية قوله: «إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة؛ مفسدة للجسد؛ مورثة للسقم..»، ودعوته للتنمية العقلية: حيث كان يشترط فيمن يتولى أمراً من أمور المسلمين العقل والحنكة والفطانة، إذ يقول لشريح : «إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به؛ فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسوله ؛ ولا فيما قضى به أئمة الهدى؛ فأنت بالخيار أن تجتهد رأيك ؛ وإن شئت أن تأمرني»، واهتمامه بالتنمية الخلقية: حيث يقول: «أحبكم إلينا أحسنكم أخلاقاً»؛ ويرى أن الأخلاق تكتسب وفق استعداد فطري ؛ والسلوك الخلقي يقوم على التفكير والتدبر؛ وعلى الإنسان أن يغلب الخير في أخلاقه وصفاته، وأن يتخذ له قدوة حسنة؛ والدين هو الذي يحدّد الخصال الحسنة والخصال السيئة ، كما حث على العمل وجعل منه أساس التكريم والتفضيل؛ قاصداً من ذلك عدم الاتكال على أعطيات الدولة؛ وحتى يصبح الأفراد والمجتمع منتجين ؛ وهو القائل لعامة المسلمين: «ولست معلمكم إلا بالعمل»، وكان لا يعفي أحداً من مسئولية طلب الرزق حتى القراء وهم أهل مشورته؛ حتى لا تنشأ فئة اجتماعية تكون عالة على غيرها؛ حيث يقول: «يا معشر القراء التمسوا الرزق و لا تكونوا عالة على الناسس. • دكتوراه الفلسفة في التدريب والتنمية الإنسانية.