في أحد الأيام دخل إلى مكتبي رجل يرتدي زياً شعبياً وفي يده أوراق يريد إكمال معاملةٍ ما وفي يده الأخرى سيجارة ليملئ دخانها في أرجاء المكان، دخل بوجه عابس وبدأ يوجه سيلا من الشتائم على أحد الموظفين المختصين في المكتب ويصرخ بأعلى صوته متجولاً هنا وهناك ويضرب بيديه بقوة على المكتب، استشعرت حينها وكأنه إنسان جاهل ضعيف الثقافة وغير متعلم على الإطلاق، وكانت المفاجأة حين أخرج من جيبه قلما وكتب ملاحظة على إحدى أوراقه، حينها فقط أدركت بأنه يعيش حالة من التخاصم مع الذات فترحمت كثيرا لحاله.. وتساءلتُ في نفسي ما الذي كدر صفو سلامه الداخلي بهذا الشكل لينطلق بدروه مكدراً صفو كل من يجد أمامه. قال جلا في علاه “وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” «آل عمران 159»، إذا تأملنا حال الكثيرين من حولنا لوجدنا تصرفات وسلوكيات لا واعية، وقرارات غير مدروسة، ومشكلات حياتية مستمرة، وملفات سلبية مفتوحة متراكمة مليئة بالمنغصات الحياتية. معاملة الآخرين باستعلاء والاعتقاد الخاطئ بأن الحقوق تأخذ بالقوة وأنه يجب أن يُعامل الأخرون بنوع من التكبر ليصل الشخص لمبتغاه دليل على شخصية تعاني من صورة ذاتية سلبية مكتسبه من برمجة سلبية سابقة، وبدورها كونت صورة ذهنية لمواقف سلبية في الماضي شكلت نوع من التعميم للنتائج التي حدثت في جميع المواقف التي تصادفه من نفس النوع. الانزعاج غير المبرر من تصرفات الآخرين، والغيرة من نجاحاتهم والشعور بالهزيمة أمام إنجازاتهم وتفوقهم ما هي إلا ردات فعل لا واعية تدل على انفصال دور الإدراك الذاتي لكل ما يصدر من الشخص من تصرفات وسلوكيات إيجابية أو سلبية، وعجز بمعرفة إمكانيات وقدرات لامحدودة يمتلكها الشخص، وكل ما في الأمر أنها أصبحت عادة وسلوكا متكررا لا أصل له سوى تلك البرمجة السلبية السابقة لتصبح بدورها القاضي الوحيد لأفعال وتصرفات الآخرين وسلوكياتهم وإصدار الأحكام المسبقة عنهم. إلقاء اللوم على الآخرين أو على المواقف والظروف في حال الإخفاق وبشكل متكرر يحتاج إلى التوقف طويلاً للتفكير العميق في الأحداث ومسبباتها لتعديل تلك النظرة للأمور بإيجابية بعيداً عن التعميم . الكون بأكمله يعقد صفقات حب وسلام معك ويعمل لصالحك في تحقيق ما تصبو إليه من أهداف واضحة في حياتك، ومهمتك هي الوعي الحقيقي بذاتك لتجعل ذلك القانون يعمل بتلقائية وتحقيق نتائج مذهلة، حقيقة أن هناك من يمكنه أن يدخل في حلبة صراع أو أن يخلق نوعاً من العداء معك حقيقة زائفة لا محل لها من الصحة، إنما العداء والصراع الحقيقي هو ما يوجد بداخلك أنت، صراع بينك وبين ذاتك يجعلك تعاني من التآكل الداخلي وانهزامية الذات. عزيزي القارئ تحدثت في كلماتي السابقة كثيراً عن الآخرين واعتقاداتهم وما يصدر منهم من سلوكيات وتصرفات، وذلك لمغزى واحد وهو أن الأغلبية الساحقة من الناس لديها ذلك القاضي الخفي الذي أنذر حياته يترقب الآخرين ويترصد إخفاقاتهم وزلاتهم ليجعلها شماعة يعلق عليها أخطاءه وإخفاقاته بطريقة لا تمت للإنسانية بأية صلة. إصرار الشخص أن يعيش في دائرة الآخر والتفكير فيه يفقده طاقات وقدرات هائلة، لذا عليك الآن أن تعلن لحظة الانتصار الشخصي، لحظة العيش في دائرة أنا المنجزة مع إحداث التوازن في العلاقات الاجتماعية مع الآخرين في حدود المصلحة المشتركة ، لحظة إعلان المسئولية الذاتية و إحداث الفارق الذي ينتظره المجتمع منك كرقم صعب مؤثر بإيجابية في خدمة الأمة. أرواحنا تعشق السلام ونقطة الانطلاق نحو السلام الداخلي هي ذاتها نقطة القرار القاطع للتصالح مع الذات، ولتحقيق ذلك يتطلب أن نمتلك ركنين أساسيين وهما القدرات اللازمة للتغيير كالقدرة على تقييم الذات والإدراك والوعي الذاتي، وتحمل المسئولية الذاتية ، أما الركن الثاني هو الرغبة في التصالح مع الذات ولا يمكن لأحد الركنين أن يعمل بمفرده لصالح الشخص.. الرغبة أولا ثم القدرات والمهارات اللازمة لدراسة المحيط السلبي وإمكانية تعديله تعد من الاستراتيجيات الهامة لمن يرغب في الوصول إلى درجة عالية من الراحة والاطمئنان والهدوء النفسي .هناك أبعاد أساسية تؤخذ بعين الاعتبار لمن أراد أن يصل إلى مرحلة متزنة من التصالح مع ذاته أهمها الذات وكيفية إدارتها وتحمل مسئوليتها، ثم التعامل مع الآخرين ولن نصل إلى نتيجة مرضية في الثانية إذا لم نتمكن من الأولى وكما قال علماء وخبراء في علم النفس أنه من لديه مشكلة في التعامل مع الآخرين فإنه أساسا لديه مشكلة مع ذاته لأن الأصل في الحياة هو السلام، وكما جاء في كتاب الله عز وجل “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”«الرعد11». جميلة هي الحياة حين تبتسم وتمنحنا عطاياها، كوردة ندية أجزلت بعطرها وروعتها.. جميلة هي إذا تكدر صفوها من صنع البشر وترنمت لحن حزين باشتياق لهمساتهم الضاحكة ووجوههم المشرقة المتفائلة بالمستقبل، و لمن أراد أن يعيش بسلام مع الأخرين والمجتمع المحيط عليه أولاً أن يستشعر ذلك السلام الداخلي العظيم، الذي بدوره ينتقل على هيئة ذبذبات سلام تنتشر ليعم الوسط المحيط بالهدوء والطمأنينة والسكينة، والتركيز بأنه من الممكن أن نكدر صفو السلام الداخلي لكثير ممن حولنا دون إدراك منا، لذلك أمنح ذاتك السلام لتمنحه للآخرين وبدورهم يمنحوه لك.. تصالح معها.. إنها تستحق.. إنها ذاتك ، بها ترتقي وبها تصل إلى العُلا.. امنحها قليلا من الوقت للتصالح، فتش في أرجائها لتجد كنوزك المخفيةُ عنك، لتعلن لحظة الانطلاق نحو القمة.. العالم كله ينتظرك والوقت كما القطار لا ينتظر أحدا. مدربة في التطوير والتحفيز الذاتي [email protected]