1 يتفق فقهاء المقاصد : أنه في حالة الأوضاع – فساد الدولة ، خصوصاً وما يترتب عليه من اضطراب اجتماعي، أنه والحال هذه ، فلا سبيل لانتشال المجتمع وإخراجه من هوته إلا بالعودة إلى المنهج – كليات الشريعة ، ويسمون هذا العمل ( فقه الاستطاعة ). 2 المتأمل في هذا الاتفاق بين فقهاء الأصول المقاصدية : يجد أن هذا الاتفاق ليس نظرية خيالية مجنحة كما هو الحال مع بعض الأقوال الفقهية الافتراضية، وإنما هو اتفاق صادر عن أهل الاختصاص المقاصدي وليس كل الفقهاء ، إنه اتفاق جاء من رحم التجارب التاريخية (حضارياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً) انه اتفاق ذوي الاختصاص – جاء من أعاصير التاريخ والعاصفة التي لا تحابي أحد أياً كان ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) إنه اتفاق صادر عن أصحاب النظر لمن اصطلوا بمحن التاريخ – الاضطرابات السياسية والاجتماعية والمذهبية والطائفية ...الخ. 3 هذا الاتفاق يحمل إلينا في طياته منهجاً ومفاهيم ومبادئ ، فالمنهج هو العودة إلى أصل الأصول – المقاصد العامة للشريعة – أما المفاهيم والمبادئ المستوحاة من المنهج فهي أن انتشال المجتمع الإسلامي من وضع كهذا يجب أن ينطلق من هوية الأمة والمجتمع روحياً وثقافياً وفكرياً ، وضرورة أن يكون الخلاص جماعياً لا فردياً ، فالمقاصد بمنهجها ومفاهيمها تعني برنامج خلاص جماعي ، وفي الوقت ذاته : إن تفعيل منهج المقاصد يعني تقديم خطاب وحدوي، تعاوني نهضوي ، يمر عبر أولويات ومبادئ تبدأ من إصلاح التصورات الأساسية – فكرياً ثم عملياً ، كما أن منهج المقاصد منهج مرن قادر على مواكبة حركة المجتمع ، بخلاف النصوص الجزئية فهي أولاً معالجة فردية ثم إنها تعالج وضعاً مستقراً – فهي أقرب إلى المثالية ، بل وحتى عند الاستقرار ، فالمثالية يصعب على المجتمع كله أن يصل إليها ، وإنما هي مفتوحة للقادر؛ ذلك أن الفقه الجماعي غير الفقه الفردي ، والفقه عند فساد الأوضاع غير الفقه عند استقرار الأوضاع ، والخلاص الجماعي غير الخلاص الفردي. اعتراض وتساؤل : المشكلة (أزمة خطاب) 4 البعض يقدم اعتراضاً وجيهاً مفاده : أنتم تتحدثون عن قضايا فكرية نخبوية بحتة أي ليست قضايا جماهيرية ، وأزمتنا أزمة خطاب ، وبالتالي : فأنتم في واد والجماهير الواسعة في واد آخر ، وسؤالنا : ماذا لديكم من خطاب للجماهير ، بمعنى هل تفعيل منهج : مقاصد الشريعة كفيل بتقديم خطاب للأمة، يحرك فيها أشواق الحرية والتطلعات نحو أفق إنساني وحضاري وقيمي أكثر رحابة ، وفي الوقت خطاب يلامس الهموم الإنسانية ، خطاب مبسط أقرب إلى النظرة بعيداً عن الوعظ الممل والتعقيد المخل : الجواب في محورين: المحور الأول : مبادئ الخطاب فنقول: «أ» نزجي عبارات الشكر والتقدير لمن طرحوا هذا السؤال المهم جداً. «ب» من المعلوم بداهةً أنه لا بد لأي فكر تجديدي من خطاب ومعالم ووسائل وأهداف. «ت» إن هدفنا من تفعيل منهج المقاصد وفقهها هو تحويل هذا المنهج إلى ثقافة عامة ، لأن فقه المقاصد هو خطاب للفطرة الإنسانية ( فطرة الله التي فطر الناس عليها). «ث» لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف دون حملة استنفار ثقافي فكري تربوي يستهدف كافة شرائح المجتمع كل بحسب ثقافته ، ولن يكتب النجاح لهذا الاستنفار إلا إذا رأينا وسمعنا وقرأنا وتحدثنا عبر كل وسائلنا ومنابرنا الإعلامية المتاحة ،صحافة ، تلفاز ، بلوتوث ،وتساب ، نت، فيس، مقايل، منتديات، مدارس، جامعات ، ،ويكون الخطاب مبسطاً حسب المتلقي ولا مانع أن نستحضر طريقة خطاب لينين حول الشيوعية ؟ الجواب : أن يشارك المتخصصون في السياسة في صناعة القرار السياسي ، والاقتصادي كذلك ، وإذا جاء السؤال من العامل جاء الجواب : الشيوعية هي كفالة حقوق العمال من التغول الرأسمالي الإقطاعي ، والفلاح يأتيه الجواب : الشيوعية أن تدعمك الدولة بالمضخة والحراثة ووصول الكهرباء والمدرسة والصحة إلى مزرعتك ، بهذا التبسيط الذكي في الخطاب تحركت الجماهير ضد الإقطاعي وقامت الثورة الشيوعية. 5 إذا كان لينين قد عزف على الحقوق المادية في الخطاب الشيوعي وأغفل حقوقاً أخرى فإننا نؤكد على المبادئ التالية : أولاً : خطابنا المقاصدي لا بد أن يكون خطاباً شاملاً يخاطب الروح والعقل والوجدان ، وهذا أكثر إقناعاً للمجتمع كوننا مجتمعاً مسلماً ...وعليه فالخطاب المطلوب لا بد أن يرتقي من خلال المقاصد بالخطاب من الخلاص الفردي إلى مقاصد الدين في الخلاص الجماعي من مقاصد الفقه الشرعي المنفصل عن العقيدة إلى مقاصد الشريعة والعقيدة ، من مقاصد الآخرة إلى مقاصد الدنيا والآخرة مع تأكيدنا أنه لا فرق بين الدنيا والآخرة في ثقافتنا. إننا نملك ثقافة إسلامية تقول الدنيا وسيلة والآخرة غاية ، وللوسيلة حكم الغاية . خطاب ينقلنا من التطبيقات الفقهية التي ولدت في فضاء له ثقافته ومحيطه ومشكلاته ، إلى خطاب تتجلى فيه همومنا ومشكلاتنا وما يحفل به واقعنا من تحديات ، من خطاب يحدثنا عن أقوال عالجت مشاكل القرون الغابرة، إلى خطاب يواكب الحياة ويستجيب لمتطلباتنا زماناً ومكاناً . نريد خطاباً لا يقف عند النخبة وذوي الاختصاص وإنما خطاب مقاصدي مبسط يصل إلى أغلب العامة حتى يتحول لدى الغالبية إلى ثقافة وقيم راسخة تكون بمثابة سلاح بيد الأمة في طريق نهضتها ويحافظ على هويتها ويعزز انتماءها لدينا وأمتها في عصر العولمة الكاسحة ، نريد خطاباً ينقل المجتمع من شرعة الفرد – المكرسة للاستبداد إلى خطاب يجعل الأمة هي الأصل في الولاية على نفسها . خطاباً ينقل الأمة إلى فضاءات الحرية كون الحرية هي المعراج الحضاري كما هو معلوم لدى الأمم التي تاقت بل توصلت إلى آمالها وتطلعاتها الحضارية والانعتاق من آسار التخلف. خطاباً ينقل المجتمع من الولاء للأشخاص إلى الولاء للمبادئ ( من كان يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات) ..(وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم ...) خطاباً ينقل المجتمع والجيش من الولاء للحاكم إلى الولاء للأمة والقيم واحترام إرادة الأمة. خطاباً مرتكزه الخطاب الجماعي الوارد في القرآن والسنة بصيغته الجماعية. هذه خطوط عريضة لمبادئ الخطاب المنشود مؤكدين على أننا إذا ظللنا معتمدين الخطاب الفردي فإننا سنصل إلى الاختلال نفسه الذي أضر بعملية الاجتهاد الفقهي في عصور التقليد حيث تعطل الاتجاه الباحث عن حاجة المجتمع ، فاتجهت الحياة إلى الانفصال وأصبح الدين عند النخبة السياسية والعامة : طقوس دفن الموتى. المحور الثاني : مجالات ومحاور الخطاب المنشود فنقول : محاور الخطاب كالتالي : 1 يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسانية. 2 يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل. 3 يدعو للروحانية ولا يهمل المادية . 4 يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع. 5 يدعو للجد والاستقامة ولا ينسى اللهو والترفيه. 6 يتبنى العالمية ولا ينسى المحلية. 7 يعتني بالعبادات والشعائر ولا ينسى القيم والأخلاق. 8 يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة. 9 يستشرف المستقبل ولا يتنكر للماضي. 10 يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة . 11 يدعو للاجتهاد والتجديد ولا يتعدى الثوابت – مقاصد الشرع وهوية الأمة. 12 ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع. 13 ينصف المرأة ولا يجور على الرجل. 14 يعتز بالعقيدة ويرسخ العدل والحب والتسامح. 15 يصون الحريات ولا يفرط بالقيم السليمة للمجتمع. وهذه المجالات الخمسة عشر ذكرها القرضاوي وقد أدخلت تعديلات طفيفة على بعض البنود. إضافة تفصيلات وإيضاحات ثالثاً : أضفت أحد عشر محوراً إلى ما سبق وهي ليست جديدة بقدر ما هي تفاصيل وإيضاحات وهي : 1 خطاب يشدد على الأخذ بالسنن – الأسباب – ولا يغفل التوكل على الله. 2 يركز على المتغيرات ويربطها بالثوابت. 3 يوجه الخطاب للمجموع ولا يهمل الفرد. 4 يدعو للوحدة والجماعية ولا يسحق حرية الفرد. 5 يربي على المبادئ ولا يقدس الأشخاص. 6 يحث على المبادرة ويرفض التواكل. 7 يعزز حرية التفكير والتعبير ويرفض الفوضى. 8 يلتزم بالمنهجية في التراث ويستفيد من تطبيقاته. 9 يؤمن بالنقد ولا يجانب الموضوعية. 10 يحترم التخصص ولا ينكر وجود نوابغ وموسوعيين. 11 يستحضر الكليات الشرعية ويحاكم إليها الجزئيات. كانت تلكم هي ملامح ومبادئ ومحاور ومجالات الخطاب المنشود خلال المرحلة القادمة . وقد أوردناها قبل أن نتحدث عن أسباب غياب المقاصد وهدفنا هو إعطاء صورة للقارئ بأن منهج المقاصد ليس عملاً ورقياً في أروقة الجامعات ولا دهاليزها وإنما هو خطاب فكر ووجدان وثقافة وسلوك عملي جماهيري في الأعم الأغلب كما هو خطاب للفرد في إطار المجموع إنه خطاب يرمي إلى انتشال المجتمع المسلم من هذا الوضع الذي لا يحسد عليه. يتبع في الحلقة القادمة ...