قد لا يكون الكثير منا يعيش في هذا الوطن بحبوحة الاسترخاء والرخاء الاجتماعي والعيش المستقر ومثل هذا لم يكن حاصلاً فقط عندنا نحن اليمنيين بل توجد مثل هذه المفارقات الاجتماعية في كل دول العالم ومنها الدول العظمى وهذه قدرة وميزة إلهية يضعها الخالق سبحانه وتعالى بين عباده فهو من يقسم الأرزاق بحسب الشرائح التي يضعها هو لحكمة يراها... ولو أعطى مثلاً نعمة الرزق كل عباده بالتساوي فقد يحدث صراع لأن ليس هناك من قد يقبل على نفسه أن يأتي ليعمل عند من هو بنفس درجته المادية كونه يمتلك مثله من المال وكلٍ سوف يترفع على الآخر وسوف يرفض أن يكون عاملاً معه ليصطدم الجميع بالمثل الشعبي القائل (أنا أمير وأنت أمير ومن سوف ينزق الحمير).. لهذا في مجتمعنا اليمني خصوصاً والعالم عامة نجد أن بيننا من هم يعيشون على خط الفقر ولا يجدون ما يسد رمق جوعهم خاصة إذا كانوا ممن ذكرهم القرآن (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف). لكن ليس من حق زارعي الفتن أن يستغلوا شغف وتوجع مثل هذه الشريحة ليوهموهم بأن الفرج بين أيديهم وأن قطع الغمة وطرد الفقر مرهون بهم فهم من يحملون الفانوس السحري لتغيير الوضع الاجتماعي لهذه الشريحة الفقيرة وما على فقرائها سوى السير خلفهم.. ومن هنا نجد أن أية اضطرابات أو مشاكل تنزل على هذا البلد أو ذاك تكون القلة القليلة منها - أي المشاكل ناتجة لمطالب شرعية فعلاً بينما الكثير من هذه الاضطرابات والمشاكل تكون نابعة من هدف تحريضي يقف خلفه الشيطان وأعوانه لتفتيت الكتلة الشعبية وتمزيق عرى وروابط الدولة مع شعبها كون الشيطان لا تعجبه دولة التوحد والترابط والتآخي وتشابك أصابع الأيدي بل يحب أن يكون متواجداً داخل جسد هذه الدولة ويحب أكثر أن يكون حاضراً داخل جسم الفرد نفسه ويجري في عروقه مجرى الدم لكي يفسد كل أعماله وأفعاله. ومن هناك يستطيع إبليس أن يسيطر على كل فرد ممن يعيشون على خط الفقر ممن يستجيبون لدعوات المحبين لتمزيق الوطن وبالأخص إذا كانوا يعانون من ضعف الوازع الديني .. أما من يكون قوياً بإيمانه فيفضل أن يموت وهو رابط حجر على بطنه ولا يتعمد لإيذاء وطنه بأن يقوم بإحراق هذه المؤسسة أو تحطيم جدار هذا المبنى ونهب ممتلكات هذه الإدارة أو قتل رجل الأمن الذي يسهر لأجلنا.. لهذا ليس من حقنا ولا من حق أي جماعة أو طرف أن نستغل مواجع البعض من أبناء الشعب ونستغل الفقر المدقع الذي يخيم على رؤوس الكثير من الأسر اليمنية ونستغل البطالة التي يعانيها الشباب.. وندلف من وسط هذه المواجع والآفات لنبرز منها برؤوسنا كرؤوس الشياطين والعياذ بالله مستغلين صراخ هؤلاء ومستجيبين لبكائهم بابتساماتهم الشبيهة بحنان الأم أو الأب بينما لسان حالهم يقول هؤلاء هم (الطُعم) وهم عود الثقاب الذي سوف نشعل بهم فتيل الفتنة النائمة داخل هذا الوطن وهؤلاء هم الدروع البشرية التي نحتمي بها إذا ما أردنا أن نحارب هذا الوطن ونضعف قواه ونهزم معنوياته وكل هذا لكي نغيب ونطمس من أفكار هذا الشعب حكمة (الإيمان يمان والحكمة يمانية) التي لا نريدها لهذا الشعب.. إلا أن وقفتنا هنا نحن المحبين لهذا الوطن يجب أن تكون وقفة مصالحة ومصارحة ومرتبطة بثقافة وأفكار مثقفي وأدباء وعلماء وفناني هذا الوطن الذين سبقوا وجود مثل هذه الفتن ليدعوا ويناشدوا هذا الشعب بأن يتخلى عن العنف ويلجأ إلى الحوار ويبتعد عن الحقد ويدرس المحبة ويزرع السكينة والأمان.. فلماذا لا نكون كما قال الشاعر عبد الولي محمد الحاج وردد الفنان الكبير أيوب طارش فنان كل الشرائح الاجتماعية ردد بحنجرته الذهبية تلك الأبيات التي تقول: شد الرحيل الحزن وعمت الأفراح من صعدة حتى عدن لما صباحك لاح يهناك ياذي يزن يهناك يا وضاح من بعد طول الحزن صنعاء مضت تجتاح عهد الأسى والمحن والحاكم السفاح نعم إنها كلمات تطبب المواجع وتقع على الجرح كما يوضع البنسلين عليه وتبعث انشراح الصدور وتزيل الغمة والكرب كونها تنادي بالفرح والسعادة وتهنئ هذا الوطن وأبناءه بزوال ورحيل الحزن إلى غير رجعة ورحيل عهد الإمامة والتسلط الرجعي ليواصل الشاعر عبد الولي محمد الحاج بنثر تفاؤله واشتياقه للقادم وزمن المستقبل مناشداً ومحاوراً فجر أيلول الذي أشرق بنور الحرية حيث قال: من حين حررتنا وأنهيت الاستبداد أيلول طاب الغناء والرقص والإنشاد والخير منا دنا يا روعة الأعياد على قمم أرضنا والبيد والأنجاد أرحب ولك عهدنا في الذكرى والميلاد بأن نصون الحمى ونصنع الأمجاد وبهذه الكلمات استشعرنا أن الشاعر عبد الولي محمد الحاج كان ملحاً بندائه ومناداته لفجر الحرية وشاكراً له ما قام به من تحرر للشعب وطي صفحة الاستبداد الرجعي حتى أنعكس هذا العمل النضالي على تدفق وتكاثر الخير الوفير الذي دنا نحو الشعب ولمس ثماره الطيبة التي جعلت أعياد الوطن تزهو بنور خير أيلول حتى أن الشاعر طرح بالأخير العهد والقسم لتلك الذكرى السبتمبرية بأنه سوف يحميه ويصونه ويصنع لأجله أمجاد الشعب التي سوف تبقى بارزة وناقوسا يرن في عالم النسيان كلما قربت ذكرى ميلاد ذلك المولود السبتمبري. وإذا ما توقفنا عند فرحة وتباشير الشاعر الكبير علي بن علي صبرة الذي سكب تفاؤله وترحيبه بالضوء القادم والمشع الذي أرسل خيوط ضوئه مع بزوغ يوم السادس والعشرين من سبتمبر ونثرت السماء شهبها المتلألئة على أرضنا اليمنية فيما كانت الأشجار والجداول تسكب النداء قطرات لؤلؤية تشع منها ألوان الطيف الزاهية ليتوقف أمامها شاعرنا المتوثب بالحماس صانعاً هذه الأبيات التي تقول بعضها: أنثري الشهب حولنا يا سماءُ واسكبي الضوء والنداء يا ذكاءُ عاد أيلول كالصباح جديداً سحقت في طريقه الظلماءُ يبعث الحب والسلام ويبني نعم بانٍ لنا ونعم البناءُ ليأتي شاعرنا الملهم علي بن علي صبرة من خلال إيمانه القوي المرتبط بعمق الوازع الديني الذي جعله يفرد سطور تلك القصيدة فوق ساحته الوطنية وجعلها من خلال مفرداتها توحي وكأنها رافعة يديها نحو السماء داعية للمولى عز وجل بأن يجعل البقاء والصمود لهذا البلد ويجعل المجد عنواناً للثورة والولاء والمحبة لشعبه العظيم وهذا ما رسمه الشاعر علي بن علي صبرة في البيت الثانية عشرة لنفس القصيدة حيث قال: للبلاد البقاء وللثورة المجد وللشعب واللواء الولاءُ وإذا ما تحسسنا عن واقع وحدتنا اليمنية وجسينا نبض الشارع الأدبي والفني متسائلين عن حال شعبنا المتوحد وهل تجمعهم الألفة والمحبة والتقارب أم أن التباعد والتنافر هما العنوان الأبرز داخل مجتمعنا اليمني..لهذا وجدنا الإجابة عن تساؤلنا لدى الشاعر الكبير المرحوم إبراهيم الحضراني الذي كان قلبه ينبض بالمحبة لهذا الوطن في قصيدته الموسومة (لقاء الأحبة) والذي يقول في بعض أبياتها: دان ألا دان با نسمر على نغمة الدان عانقي يا جبال ريمة شماريخ شمسان وأنت يا وادي القرية تفسح ببيحان قالوا الأمس في صعدة حصل حفل طنان والتقينا الجميع في عرس حسنة وحسان ومن ثم ينتقل الشاعر إبراهيم الحضراني نحو المقطع الأخير بعد أن اظهر لنا كيف كان العناق والمحبة بين جبال ووديان اليمن المتناثرة على طول وعرض هذه الأرض ..من ريمة شمالاً إلى جبل شمسان جنوباً ونحو صعدة وإلى بيحان والحوطة ومأرب ومن سيئون إلى صنعاء حيث قال: لحبائب سقى الباري ديار الحبائب بين سيئون والحوطة وصنعاء ومأرب قد جُمع بالهناء والسعد شمل الأقارب خل بالخل يتهنى وصاحب لصاحب والأمور سابرة والخير من كل جانب والعسل دوعني والبُر من قاع جهران دان ألا دان با نسمر على نغمة ألدان وإذا عدنا نحو وحدتنا اليمنية التي كشفت النقاب عن وجهها في الثاني والعشرين من مايو 1990م فسوف نجد أن هذا التاريخ أتى ليؤكد ويوثق الحق الوحدوي بينما اليمن كانت موحدة بأبنائها من قديم الزمن لم يفصل بينهم سوى تلك البراميل والمتاريس الحدودية بينما قيمهم وآرائهم وأحاسيسهم كانت موحدة.. والدليل أن الأدباء والشعراء كانوا يتغنون بكلماتهم عن الوحدة اليمنية قبل تحقيقها, فهذا الشاعر عباس الديلمي الذي قال في قصيدته المغناة بلسان فنان اليمن الكبير أيوب طارش: موكب التحرير ألفت القلوبا وتوحدنا شمالاً وجنوبا وفتحنا لسِنا العلم الدروبا فلتعيشي يا بلادي في علوٍ وسدادِ وادحري كيد الأعادي ومثالاً لتوقعات عباس الديلمي الشعرية كان هناك أيضاً الكثير من الشعراء قد تغنوا بالوحدة اليمنية قبل مولدها ويحاكونها وكأنها كانت حاضرة بينهم من خلال وضع المفردات الشعرية التي تحمل لون ودلالة المخاطبة.. فيما كان الرمز المخاطب أو الطرف الموجه إليه مفردات القصيدة هي الوحدة اليمنية ومعنى ذلك أنك تخاطب حاضراً أمامك.. وهذا دليل لإيمان الشعراء وتفاؤلهم بوجود الوحدة اليمنية وأن لم تكن يومها حاضرة فإنها حتماً سوف تأتي... وفعلاً أتت وسوف نتمسك بها ونحميها كما نحمي حدقات أعيننا...