تعودتُ منذ زمن بعيد على هذا الوضع ، ولم أكن أكترث بكل العقبات التي كانت تواجهني، في البداية كنت أشعر بالخوف والتردد، خاصة أني كنت طفلة صغيرة، لكن أمي كانت تشجعني، وتحفَّظني بعض العبارات التي ألقيها على آذان المحسنين على أبواب المساجد، وأمام صفوف المصلين، وكلمات مؤثرة أخرى أخاطب بها أصحاب المحلات التجارية الكبرى والمسافرين في السيارات الواقفة في «الفرزة»، منهم من يجود علي ببعض النقود ومنهم من يتعجب من كلماتي البليغة فيبتسم في وجهي، مرت السنوات وبدأت تظهر علي علامات البلوغ، فرأت أمي أنه لابد لي من لبس البرقع ليستر جمالي، ويدعو الناس إلى التعاطف معي.. مات أبي وترك لنا بيتاً نأوي إليه وراتباً شهرياً يكفينا، بل ويزيد عن حاجاتنا الأساسية، كنت بحاجة إلى أن أبقى في بيتي وأذهب إلى مدرستي كبقية أترابي، لكن جشع أمي وحبها الجنوني للمال دفع بي إلى الطرقات والأبواب، وأورثني المذلة والمهانة والضياع، ليس هناك شارع في المدينة إلا ووطئته قدماي الحافيتان، ولا سوق إلا وتجولت على محلاته طلباً للمساعدة، كم هي عبارات الاستجداء وكلمات الإلحاح التي كررتها حتى مجها سمعي وملها لساني، كم هي الأساطير والأكاذيب التي أرويها للناس حتى يشفقوا علي، كنت وأمي نشرب الماء من برادات الشوارع، ونتناول طعامنا في مداخل المقاهي، أحسد صديقاتي اللواتي يذهبن إلى المدارس، كان منظرهن وهن يتنادين ويتضاحكن عند الشروق، يملأ قلبي بالحسرات، كانت لحظات إيابهن وهن يحملن حقائبهن ويرفعن أصواتهن بالأناشيد الجميلة تهز وجداني، ياليتني كنت معكن، ليتني أحفظ نشيدكن، ليتني أرى مدرستكن ومعلماتكن. لقد فرضت على أمي مساراً في الحياة، رسمه لها خوفها من الفقر فقذفت بي إلى التيه والحيرة، إلى صناعة الأحزان واختلاق المصائب وتزييف الدموع، لم نكن بحاجة إلى السير في هذا الطريق، كيف لو علم أبي الذي كان يخشى على من هبة البرد، وضوء الشمس وضجيج السيارات، كيف لو رأى ابنته البكر «جواهر» وهي تخط المدينة ذهاباً وإياباً، في حر الصيف وشدة البرد، كيف لو رأى طفلته المدللة «جواهر» وهي تقيل في ظل جدران الفنادق والعمارات وتحت مظلات السيارات، إنها سنوات مريرة، وذكرى مؤلمة، لو لم ينقذنا منها «دموع الشيخ عبد القادر» ربما هوت بنا إلى المجهول، لم أكن أتصور أن للعاطفة فيضاً وعطاء تتقاصر عنه أيدي الباذلين وجيوب المترفين.. جلسنا في الجانب الداخلي لباب المسجد، بعد انتهاء الصلاة وقفت أمي تشرح للناس فقرنا وعوزنا والأمراض المستعصية التي تحتاج إلى المال الكثير، والديون التي ركبتنا من جراء تلك الأمراض إلى آخر تلك الأكاذيب التي تستدر عطف المحسنين. في تلك الليلة قالت للناس: إن الوقوف بين أيديكم مذلة, والسكوت عن حال ابنتي الشابة جريمة، هذه فتاة يتيمة وفقيرة ومريضة، إنها لا تحتاج منكم الكثير، فقط تحتاج إلى من يتبرع لها بالدم ومن يدفع لنا ثمن الفحوصات لهذا الدم، أكملت حديثها فجلست، فاتكأتُ على كتفها حتى يشعر الناس بشدة مرضي، لم نكن بحاجة إلى الدم وكان المقصود هو ثمن الفحوصات، انصرف المصلون ولم نحصل على شيء يذكر، فقررت أمي البقاء في المسجد إلى صلاة العشاء لتكرر المحاولة ثانية، تكرر المشهد في صلاة العشاء، وتكررت النتيجة، بدأ المسجد يخلو من المصلين، حتى لم يبق فيه غير إمام المسجد «الشيخ عبدالقادر»، حيث تأخر يصلي ويذكر الله ويقرأ في كتاب كان بجانبه، أغلق كتابه وحمل نعليه في يده اليسرى، ثم اتجه إلى الباب منصرفاً، عندها خاطبته أمي: يا شيخ نحن في حاجة إلى المساعدة، هذه ابنتي الشابة مريضة وتحتاج إلى الدم وثمن الفحوصات، وأنا أرملة، عضَّنا الفقر وغصَّنا الجوع، وحطَّمنا المرض، فإلى من نشكو حالنا، ليس لنا بعد الله أحد نلجأ إليه، وقد بذلنا أنفسنا وأهرقنا ماء وجوهنا، وتعرضنا للهوان، فهل أسلم ابنتي هذه للموت ليلتهم شبابها وإلى القبر ليفتت عظامها، لو كان أبوها حياً لكانت الآن ترقد في أبهى المستشفيات وتتلقى أرقى أشكال الرعاية، بل ربما إنها ما تعرضت لهذه الأمراض التي تزحف عليها بسبب سوء التغذية وانعدام الوقاية.. ومازالت تفيض عليه من هذه الكلمات حتى جلس على كرسي قبالة أمي، كنت أتأمل فيه من وراء برقعي، يلبس ثوباً أبيض وعمامة بيضاء ووجهاً أبيض، أما لحيته فكانت سوداء خالطها قليل من البياض، وفي جبهته أثر السجود، يشع وجهه نقاء وطهراً وصدقاً، رأيت عينيه تترقرقان بالدمع وهو يصغي إلى أكاذيب أمي، شعرت أن أمواجاً من عواطفه تجيش في صدره فتتدفق نحونا أنهاراً فتغمرنا بحنانها، أخذتْ دائرة وجهه تتمايل أمام عيني الزائغتين، هيئ لي إنه أبي، أخذت في البكاء حتى رحمني، ظن أني أبكي لحاجتي وآلام مرضي، أما أنا فلست أدري أأبكي لمتاهتي؟ أم أبكي أبي الراحل؟ أم إشفاقاً على أمي وتماديها في الخداع؟ أم على هذا الوجه الملائكي البريء المخدوع؟ قال الشيخ: لا عليك يا ابنتي، سأذهب معك إلى المستشفى، وأتبرع لك بدمي وأدفع أجرة الفحوصات، رجائي لا تبكي، سأعطيك ما تحتاجين إليه. اختلطت صرختي ببكائي حينما قلت: لا أيها الشيخ الصالح، أنا لست مريضة، أنا ضائعة ضيعتني أمي، حرمتني من طفولتي، كسّرت ألعابي ووأدت أحلامي، أنا لا أريد دماً، أريد أن أعيش كما تعيش الفتيات من أمثالي أريد مدرسة، أريد أن أفرح بالعيد، أريد أن أطبخ وآكل في بيتي، أريد أن تكون لي صديقات يزرنني إلى غرفتي، لا أريد أحداً أن يناديني بالشحاتة، أريد أن أفرح بخطيبي وأن احتفل بعرسي، وأشم أبنائي، أريد أن تتوقف أمي عن خداعها وتسولها، لقد أرادت لنا الربح فخسرنا الحياة ومعانيها الجميلة. أيها الشيخ، إما أن تكف أمي عن السير في دربها هذا وإما أن تأخذني إليك وتضمني إلى بناتك لآخذ حظي من السعادة وأودع ليل الشقاء، سئمت من المشي في الطرقات والوقوف على أبواب المساجد ومد كفي للمارة. ارتعشت أمي حتى غشي عليها، فاحتضنتُها وقلت: سامحيني يا أمي إن أسأت إليك، لعلك معذورة في خوفك من الفقر والعوز، لكنك غير معذورة حينما تسحقين وردتك الجميلة، وتبعثرين رحيقها، وتلقينها مزعاً في قارعة الطريق. وكانت تلك آخر ليلة مددنا فيها أيدينا للناس.