سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حين عَجزت «كَسارة جوز الهند» عن قهر الذئاب الحُمر .. تَحولت «ردفان» إلى متحف مفتوح لجماجم الإنجليز..؟! مَقتل «لبوزة».. نواة الكفاح المسلح الذي أجبر المحتل على المغادرة
من الوهلة الأولى لاندلاع ثورة سبتمبر الخالدة، هب أبناء الجنوب كغيرهم لمساندتها، وكان «لبوزة» الاسم الأشهر في تاريخنا النضالي في الصفوف الأولى للمواجهة.. وبقرار اتخذ من صنعاء اشتعلت جبال ردفان بالثورة.. حملات عسكرية مسنودة بالطائرات والدبابات والسيارات المصفحة قام بها المحتل الإنجليزي لإخمادها، باءت جميعها بالفشل، وبالفعل كانت «ثورة ردفان» نواة الكفاح المسلح والقاصمة التي أجبرت المحتل على المغادرة.. ودعا الداعي صحيح أن يوم 14أكتوبر 1963م لم يكن يوماً قد حدد مسبقاً بأنه يوم الثورة، لكن تفجير الثورة كان قد تم الاتفاق عليه، وهذا ما أكده المناضل الراحل ناصر علوي السقاف الذي كان حينها نائب قحطان محمد الشعبي بقوله: عاد راجح بن غالب لبوزة من الجبهة جبهات الدفاع عن ثورة 62سبتمبر ومعه 100مقاتل، وقد سمع بقانون حكومة الاتحاد، وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين أعلن أنه سيعود وسيقاوم إذا تطلب الأمر ذلك.. أخذنا وعد لبوزة بعين الاعتبار.. المهم عاد الرجال إلى ردفان، وطالبوهم بتسليم السلاح فرفضوا فنشب القتال. وهنا أفاد المناضل محمد جابر ثابت بتوضيح أشمل: فما إن عادت المجاميع المقاتلة من صنعاء إلى ردفان وبحوزتهم أسلحتهم الشخصية وثلاث قنابل يدوية حتى اهتزت مشاعر «ني ميلن» الضابط السياسي البريطاني الذي أرسل على الفور طلباً إلى الشيخ راجح غالب لبوزة ومجموعته، وطلب منهم تسليم أنفسهم وأسلحتهم وغرامة 500 شلن على كل فرد كضمانة لعدم عودتهم إلى شمال الوطن، ورد لبوزة على ذلك برسالة كتابية قوية باسمه وجماعته على النحو التالي: الضابط السياسي البريطاني المرابط في الحبيلين نحن مجموعة راجح بن غالب لبوزة قد عدنا إلى بلدنا ردفان، ولم نعترف بكم ولا بحكومة الاتحاد المزيفة، وإن حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية، ونحذركم من اختراق حدودنا التي تعتبر من الجبهة وما فوق، وضع الشهيد لبوزة طلقة رصاص داخل الظرف، وغضب لذلك الضابط السياسي البريطاني، وتقدم في اليوم الثاني، وتم إلقاء القبض على إحدى المجاميع العائدة من شمال الوطن، ودعا الداعي للجميع، حيث تحرك لبوزة ومجاميع كبيرة من أبناء ردفان إلى جبل البدوي المطل على الحبيلين. استشهاد لبوزة المناضل محمد جابر ثابت الذي كان يعمل كاتب وسكرتير الشهيد لبوزة يورد تفاصيل استشهاد هذا البطل الردفاني الفذ، فقد اندلعت المعركة الأولى الحاسمة في يوم 14 أكتوبر 1963م، واستمرت طوال النهار حتى استشهاد القائد لبوزة، وتم بعد ذلك كتابة بلاغ باسم جبهة ردفان أذيع في صنعاء وصوت العرب من القاهرة، وبعد دفن الشهيد لبوزة تعاهد الجميع على مواصلة المقاومة وتحمل المناضل بالليل راجح لبوزة ابن الشهيد قيادة الجبهة، واستمرت المعارك مع الجيش البريطاني في الحبيلين، وكان مقر الانطلاق «وادي دبسان» مسقط رأس الشهيد لبوزة، وأول قيادة تمركز بها المقاتلون. - ونظراً لقلة الإمكانات تم التفكير بذهاب مجموعة من الثوار برئاسة ابن الشهيد بالليل إلى إب للقاء قائد لواء إب حينها المناضل أحمد الكبسي، وحيث لم يتوفر الدعم كلفت مجموعة أخرى برئاسة بالليل أيضاً بالتوجه إلى تعز، ومن هناك توجهوا إلى صنعاء حث التقوا هناك بقحطان الشعبي، وكان الحظ مساعداً مع عودة المشير السلال، ومعه عبدالحكيم عامر من القاهرة. - تم تكليف فخري عامر للخروج، إلى قعطبة لتقديم الدعم لجبهة ردفان، وكان أول دعم حسب إفادة المناضل ثابت هي عبارة عن ذخيرة 303 والغام رقم 5 حيث تم نقلها على أكتاف المقاتلين إلى مقر القيادة في دبسان، وتم تكليف المناضل محمد عبدالله المجعلي بالإشراف على القيادة في مقرها الأول في وادي دبسان، وكانت أول عملية هي الصلح بين قبائل ردفان للم الشمل، وتحرك بين القبائل بالليل راجح لبوزة، ومعه مجموعة لهذا الغرض، وتم الصلح على أكمل وجه؛ حيث كان الحماس فياضاً عند أبناء ردفان، وتم نسيان ماضي الخلاف ومواجهة العدو. يوم الثورة في شهادة تاريخية أخرى للمقدم محمد عباس الضالعي أدلى بها في ندوة توثيق الثورة اليمنية أورد الضالعي تفاصيل أكثر للحظات استشهاد لبوزة، ومن لسانه جاء التوصيف الدقيق أن لبوزة استشهد في يوم الاثنين 14 أكتوبر 1963م وعمره 64 عاماً، وذلك في تمام الساعة الحادية عشرة ظهراً متأثراً بشظية لقذيفة مدفعية، وكان يرتدي كوتاً أغبر وفوطة غبراء وعمامة غبراء، وعلى خصره حزام فيه 100 طلقة رصاص وقنبلتان يدويتان معلقتان على الحزام وثلاثمائة طلقة احتياط على ظهره. - وتساءل الضالعي: لماذا أعلن يوم استشهاد لبوزة يوماً للثورة، وقد استشهد من قبله ومن بعده الكثير من الأبطال والثوار؟ وكيف أثر هذا اليوم على مسيرة التحرر من الاستعمار؟ - دون ريب أن التاريخ النضالي لأبناء ردفان في مقاومة المستعمر البريطاني والدور النضالي الشخصي للثائر لبوزة ضد المستعمر والدفاع عن الثورة في الشمال أو الجنوب، كانت كل هذه عوامل أدت إلى إعلان بريطانيا في يوم 17 أكتوبر 1963م بياناً من إذاعة عدن بأن فرقة مؤلفة من الجيش والحرس الاتحادي تعرضت لنيران فريقين من رجال العصابات كانوا يطلقون النار من مراكز تقع في الجانب الجبلي، ويتألف الفريقان من ثمانية وثلاثين رجلاً على التوالي، وكان بقيادة قائد رجال العصابات الرجعي المفسد من جبال ردفان راجح بن غالب لبوزة، وهو بيان طويل، وفيه ما فيه من الأكاذيب التي لا يسع المجال لذكرها.. الذئاب الحمر «يا شعبنا البطل.. بالأمس القريب استشهد قائد من قادتك، وبطل من أبطالك الأحرار في معركة الحرية والشرف والفداء ضد الاستعمار، ذلك هو الشيخ المناضل راجح بن غالب «لبوزة» شيخ جبل ردفان.. إثر معركة فدائية مع قوات الاحتلال البريطانية واتحادها الفيدرالي المزيف العميل.. ونعاهد راجح بن غالب وأصحابه والأبطال والشهداء أن نخوض المعركة حتى النصر مهما كانت التضحيات». الأسطر السابقة مقتطفات من البيان التاريخي للجبهة القومية عقب استشهاد «لبوزة» في جبال ردفان التي منها اندلعت الثورة، وفيها كانت البداية الحقيقية لمرحلة الكفاح المسلح الذي استمر ملتهباً طيلة أربع سنوات حتى يوم الاستقلال التاريخي، وقد اضطرت بريطانيا حينذاك إلى القيام بعمليات حربية كبيرة ضد الثوار عرفت بعضها في الوثائق الحربية البريطانية «نتكراكر» و«رستم» و«ردفوس»، وكانت معارك «ردفان» من أكبر معارك بريطانيا خلال حرب التحرير، اشترك فيها آلاف الجنود، واستخدمت أنواع مختلفة من الأسلحة الثقيلة من طائرات ودبابات ومدافع، والغريب في الأمر أن الصحافة البريطانية كانت تسمي ثوار ردفان بالذئاب الحمر. - كما اضطرت الحكومة البريطانية لنقل بعض من قواتها المتواجدة في حلف شمال الأطلسي إلى ردفان، فيما بطولات وصمود ردفان جعل مجلس العموم البريطاني يعقد جلسة خاصة لمناقشة مشكلة «الذئاب الحُمر» في ردفان، ويرى أحد المؤرخين - حضر تلك الجلسة - أن أعضاء مجلس العموم، وهم يناقشون صمود أبناء ردفان الذين يصل عددهم المئات، والذين شنت عليهم «1700» غارة جوية من القواعد البريطانية في عدن، لم تستطع تلك القوة المزودة بأحدث العتاد العسكري إيقاف التمرد. - أحد الأعضاء استغرب على تلك القبيلة التي أقامت متحفاً أطلقت عليه «متحف الرؤوس البريطانية» لكثرة القتلى البريطانيين، وكان أبناء ردفان يبرهنون لإخوانهم في باقي المناطق أن الثورة يمكن تنتصر، وأن بريطانيا يمكن هزيمتها، وكان المرشدي الفنان المناضل يردد بين الفينة والأخرى: «هنا ردفان في فم كل ثائر ومن روح القبائل والعشائر» وعندما قطعت رؤوس ضباط الإنجليز في منطقة «الوفيرة» غضبت بريطانيا، وأرسلت جيشاً قوامه 40 ألفاً مدعمين بمختلف الأسلحة لضرب المنطقة. «نتكراكر» أثناء البحث عن دور ردفان في الثورة اليمنية في مختلف المراجع والشهادات التاريخية المتاحة لم أجد أروع ولا أسهل من كتاب «التاريخ العسكري لليمن» للباحث سلطان ناجي، حيث تعامل مع الأحداث التاريخية بحرفية ومهنية بحثية رائدة غير مكتف بالذاكرة النضالية الشعبية فقط بل مستعين بكافة الوثائق البريطانية المتصلة. - أفرد الباحث سلطان ناجي في كتابه الذائع الصيت صفحات عديدة لمعارك ردفان وقسمها إلى خمس حملات عسكرية، كانت الحملة الأولى من «4 إلى 31 يناير 1964م » حيث بدأت القوة التي أطلق عليها عملية «نتكراكر» ومعناها «كسارة جوز الهند» تعبيراً عن مدى صلابة المقاومة تتجمع في الثمير، وكانت مكونة من الكتائب الثانية والثالثة والرابعة من جيش الاتحاد تساندها كتيبة المصفحات الاتحادية وبعض القوات البريطانية المكونة من دبابات السنتريوم ومدفعية الهورس وريال ارتيلري وفرقة المهندسين الملكيين، وبالنسبة للطائرات فقد خصصت للعملية طائرات هنتر للضرب الجوي وطائرات شاكيلتون لقذف القنابل وبليغيدر للإمدادات الجوية، هذا بالإضافة إلى توفير البحرية الملكية ست طائرات هيلوكبتر من طراز ويسكس من على ظهر حاملات الطائرات سنتور. - ما إن أقلت طائرات الهيلوكبتر كتيبة من الجنود فوق قمم الجانبين المشرفين على وادي ربوة وعلى الأرض العالية المشرفة على وادي المصراح، حتى انهال الثوار عليهم بالضرب من بنادقهم لتسارع القيادة الإنجليزية بوقف هذه العملية، وبعد فترة وجيزة أمرت بالاستمرار في إنزال الجنود، ولم تكد تنزل ثلاث فرق حتى أحاط بهم الثوار وحاصروهم وأجبروهم على المغادرة مشياً على الأقدام. «رستم» أما الحملة الثانية، «رستم» فقد كانت من «1 فبراير حتى 13 إبريل 1964م» وكان هدف الاحتلال منها مد سيطرتهم العسكرية إلى وادي تيم ووادي ذنبة، إلا أنه سرعان ما ثبت فشل هذه العملية بعد انتصار الثوار واستعادتهم لذات المناطق، وقد أعلن من إذاعتي صنعاءوالقاهرة عن هذا الانتصار.. أغاض هذا النصر السلطات البريطانية فقامت في أواخر شهر مارس من ذات العام بإرسال سرب مكون من 8 طائرات من نوع هنتر لضرب حريب، وهو التعدي الصارخ الذي أثار سخطاً عاماً في الصحافة البريطانية وفي هيئة الأممالمتحدة ذاتها، اعترفت تقارير المخابرات البريطانية بعد ذاك أن عدد الثوار في ردفان تحديداً وصل إلى أكثر من 500 مقاتل، ولأول مرة تذكر التقارير بأن أولئك الثوار قد أصبحوا يلبسون بدلات رسمية، وأنهم في غاية التنظيم ومسلحون تسليحاً جيداً. « ردفوس » بعد فشل العمليتين السابقتين قررت بريطانيا أن تقوم بحملة حربية كبرى يكون عمادها القوات البريطانية بمساعدة القوات الاتحادية، وقاد هذه الحملة الثالثة المستمرة من «14 أبريل حتى 11 مايو 1964م» قادها المأجور جنرال «جون كابون» القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وهي قوات خاصة سميت بقوة «ردفوس» بمعنى قوة ردفان، وكانت مكونة من لواء كامل. - وقد خصص للعملية سربان من طائرات هنتر للهجوم الأرضي، وسرب طائرات شاكيلتون لقذف القنابل وست طائرات هيلوكبتر من نوع بلفيدر، وسرب من طائرات النقل توين بايونير، وإحدى عشرة طائرة هيلوكبتر أخرى من قوات الجيش الجوية من طراز سكاوت واسترس وبيغرس. وحددت الأهداف السياسية لهذه العملية بمنع الثورة القبلية من الانتشار، وإعادة سلطات المحتل المفقودة وتوقف الهجمات على طريق الضالع، وقد بلغ عدد الجنود المشاركين بهذه العملية بنحو 3000 جندي وضابط وكغيرها كان مصير هذه الحملة الفشل الذريع. «القطيش» على الرغم من تمركز قوات الكومندوس البريطانية فوق الجبال المطلة على وادي تيم ووادي ذنبة وتهجيرها لسكان قرى الواديين، فقد استمرت المصادمات عنيفة بينهم وبين الثوار المتمركزين أصلاً شمال وادي تيم ووادي المصراح وجبال البكري، ولذلك قررت قيادة جيش الاحتلال الإنجليزي القيام بحملة رابعة استمرت من«11 حتى 23 مايو من عام 1964م». - وكان الهدف من تلك الحملة تعريف الثوار بقدرة الجنود البريطانيين على التغلغل في عمق مناطق ردفان والاستحواذ على جبال البكري عسكرياً، ووقعت المعركة الرئيسة بين الثوار والجنود البريطانيين في قرية «القطيش» الواقعة على قمة جبال البكري، وقد شهد الإنجليز أنفسهم بشجاعة الثوار وبسالتهم والفضل ما شهدت به الأعداء. «ثورة ردفان» بعد ذاك تأتي الحملة الخامسة من « 24 مايو إلى 23 أغسطس 1964م» وكان الهدف النهائي منها جبل «الحورية» أعلى قمة في ردفان، وقد بدأ جيش الاحتلال أولاً بشن هجمات فجائية على وادي تحلين؛ بهدف السيطرة عليه وقطع طرق قوافل الثوار المُحملة بالذخائر والمؤن من شمال الوطن، ولم ينجحوا في ذلك؛ لأن المقاومة كانت لهم بالمرصاد. - زادت تلك المعارك الضارية من صلابة الثوار وكبدت بريطانيا الخسائر الكبيرة في الأعتدة والأرواح والسمعة داخل وخارج بريطانيا، وقد اضطر وزير الدفاع البريطاني «دنكن ساند» أن يأتي في عز شهور الصيف المحرقة إلى جبال «ردفان» ليرفع من معنوية الجنود البريطانيين المنهارة في تلك الحرب التي لم يعتادوها من قبل، على الرغم من استخدامهم لأول مرة تكتيكات حربية جديدة في الأرض والجو ضد الثوار. - لقد أصبحت ثورة ردفان هي البداية والقدوة لبقية مرحلة الكفاح المسلح في الريف وفي المدينة، فكل تلك الحملات المسعورة التي كان يشنها الإنجليز، وكل ذلك القصف الجوي الذي لم يعهد له مثيل من سابق، وعلى الرغم من كل ذلك فقد ازداد المواطنون بسالة وصلابة، واستمروا بالكفاح حتى يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م يوم رحيل آخر جندي بريطاني من جنوب الوطن. بيان الجبهة الوطنية: «يا شعبنا البطل.. بالأمس القريب استشهد قائد من قادتك، وبطل من أبطالك الأحرار في معركة الحرية والشرف والفداء ضد الاستعمار، ذلك هو الشيخ المناضل راجح بن غالب «لبوزة» شيخ جبل ردفان.. إثر معركة فدائية مع قوات الاحتلال البريطانية واتحادها الفيدرالي المزيف العميل.. ونعاهد راجح بن غالب وأصحابه والأبطال والشهداء أن نخوض المعركة حتى النصر مهما كانت التضحيات».