الطريق إلى المحكمة طريق صعب، والطريق إلى الإنصاف طريق أصعب؛ وكلا الطريقين باتا الوجهة السانحة لكثير من نساء بلادي؛ ممن ظُلمن من الأسرة والمجتمع، من الخطوة الأولى يبدأ الألم، لكنه في المقابل بادرة أمل، فتحرّر المرأة اليمنية من قيود الجهل والتطرّف، ووقوفها وبقاؤها صامدة في وجه من ظلمها يعني الكثير، بل خطوة جبارة في نيل الاستحقاق الديني «للذكر مثل حظ الأنثيين»، ويبقى الحصاد مُرّاً، فنظرة المجتمع ما زالت ضيقة تحمل الكثير من التحقير والازدراء لأولئك النسوة الشجاعات، ولعنة المحكمة تظل تلاحقهن ما بقين على قيد الحياة. قضايا عالقة من جولة ميدانية خاطفة في بعض محاكم محافظة تعز خرجت بهذه الحكايا، لنساء وجدن في المحكمة خلاصاً لما يعانين من مشاكل وقضايا، ما زالت قضايا أغلبهن عالقة، طالت مراحلها، بل خرجت عن المسار الذي يجب أن يكون، وإن كانت قضايا «الميراث» هي الأشهر في هذا السياق. «ج.ص» أرملة لديها ثلاثة أولاد وبنت، دخلت قضيتها ذلك المنحى الصعب رغم بساطتها أقصد «القضية». أعتدى جارها الغني على جزء من حوش منزلها «بيت اليتامى»، والآن وبعد أكثر من خمس سنوات من بداية مسار القضية في المحكمة مازالت «جيم» تردّد: «سيكبر اليتامى وسيأخذون حقهم بأيديهم». لا تستطيع الوصول إلى القاضي في زاوية أخرى، قابلت «هدى .ح. ه »، وهي أرملة لها خمس بنات وولد، تسكن في بيت إيجار رغم الثروة الطائلة التي خلّفها «والدها» لكن المشكلة كما تقول تتمثل بحصول مشاكل بين إخوانها، نتج عنها قتل أحدهم، فقام أولاد المقتول ونهبوا المال كلّه بما فيه حقها وأخواتها. إلى جانب ذلك تشكو هدى من مظاهر النصب التي تعترضها في المحكمة، وبعد أن أشادت بالقضاة ونزاهتهم تأتي لتقول: الموظفون الصغار لا يقدمون لنا أية خدمة إلا بمقابل، والمشكلة إني لا أستطيع الوصول إلى القاضي إلا عن طريقهم وإلا يضيعونه أو يقولون: مشغول أو أية حاجة. إشفاق وتحرّش وتتابع على استحياء: قضية ابنها المسجون بعد أن تخلّى عنه أبوه وأعمامه، «ز. س. ع» قالت وهي مطأطئة رأسها: إنها تعرف أن النظرة لدخول المرأة المحكمة فيها نوع من الشبهة إلا أنها اضطرت لذلك؛ ففلذة كبدها بحاجة ماسة لمن يقف بجانبه. «ز» أضافت: إن نظرة الرجال للنساء في المحكمة خاصة الصغيرات منهن لا تخلو من شيء من التحرّش؛ وهي كما تصف لا تسلم من «الدلهفة». ومن وجهة نظر موظّفي المحاكم يقول «س. ع»: إن النظرة للمرأة الكبيرة في السن غالباً ما تكون نظرة إشفاق ورحمة وعرض خدمات وتقديم المساعدات إليهن ما سنحت الظروف. أهم القضايا نالت النساء المسلمات من بزوغ فجر الإسلام حقوقاً كثيرة من ضمنها حق الوراثة والتملك - أحد الحقوق التي وُجدت مؤخراً في الغرب - حق المثول للشهادة في المحكمة «المقاضاة بالطلاق» وحق حضانة الأطفال، والآن وفي الوقت الذي تقدم فيه الغرب وتأخر المسلمون تبقى حقوق المرأة المتعلقة بالإرث من أبرز الظواهر التي دار حولها الكثير من الخلافات في مجتمعات دول العالم الثالث، واستطاعت تلافيها بحصول المرأة على كافة حقوقها الشرعية والقانونية، إلا أن الأعراف القبلية في عدة مناطق في اليمن مازالت تحرم الإناث من ميراث الوالدين، ومن ميراث زوجها بعد وفاته؛ إذ مازال العُرف القبلي سائداً بديلاً للشريعة الإسلامية والقوانين التي تحدد حقوق إرث النساء، حيث توجد مناطق قبلية ترفض إعطاء المرأة حقها من الإرث. صمود حتى النهاية فاطمة محمد محيي الدين، من جبل حبشي، هي الأخرى وبعد أكثر من اثني عشر عاماً «مشارعة»، وستة أحكام قضائية جاءت لصالحها، لم تكف عن المجيء والرواح من وإلى المحكمة، فغرماؤها العشرة «المغتصبون أرضها» لم تزدهم تلك الأحكام إلا عتواً ونفوراً، ومع كل حكم يصدر يقدمون التماساتهم فتستأنف القضية من جديد. فاطمة أكدت أن الحكم الأخير صدر من المحكمة العليا حسب الوثائق التي أطلعتني عليها، لكن مماطلة محكمة التنفيذ، واستقواء المغتصبين، جعل ملف القضية يُفتح من جديد؛ ولكن هذه المرة بحجج أخرى حتى وصل الأمر بالمحاكم هناك لاتهامها بأنها خدعت جميع القضاة السابقين الذين حكموا لصالحها. لقد رأيت في فاطمة صموداً لا ينكسر، فهي مصرّة على أخذ حقها حتى آخر لحظة من حياتها. ليست وحدها «أريد نصيبي من الميراث» صرخة مدوّية أطلقتها الحجة «زهور. س»، فأعلن أخوها الأكبر والوحيد الحرب عليها بمساعدة جهل المجتمع، تعرّضت للضرب والطرد والابتزاز، بقيت قوية شامخة لم تنكسر، ناضلت كثيراً وخسرت أموالاً كثيرة حتى وصلت قضيتها إلى المحكمة. قابلتها تنزف دمعاً، قالت بنبرة أسى وهي تصب جام دعواتها على من ظلمها، إنها بعد أن طُردت هي وزوجها الذي وصفته «بالضعيف» استأجرت منزلاً متواضعاً هنا في المدينة، مؤكدة أنها لن تعود إلى قريتها إلا وحقها بيدها. حتى أهالي القرية - سامحهم الله- هكذا أضافت تعصّبوا مع أخيها، للعلم فإن الحجة زهور ليست وحدها هناك حيث قابلتها في أروقة المحكمة، فهناك خيرون تكاتفوا معها همّهم الأول والأخير إزالة تلك النظرة القاصرة «ضد المرأة حين تُطالب بحقها». ثورة «حريم» ل « فاطمة. س. ج» من مديرية المسراخ حكاية مختلفة، وإن كانت أثناء سردها تضحك فإنها كم بكت حين عايشتها، فقد تنكّر أخوها لها ومنعها من أخذ نصيبها من الميراث، بقيت قضيتها ردحاً من الزمن متداولة بين مشايخ وأعيان بلدتها دون حل حازم يرضيها، لأن ذلك سيشعل «ثورة الحريم في كل بيت». في أحد الأيام وأثناء غياب زوجها وأبنائها قام المدعو «أخوها» بالاعتداء عليها في منزلها، إلا أنها احتاطت للأمر وأغلقت الأبواب، بقي أخوها خارجاً يقذفها بسيل من الشتائم وسكان القرية يتفرجون؛ فما كان منها إلا أن صبّت فوق جسده «جالوناً» من الماء الساخن، أُسعف بعدها على الفور إلى المستشفى متأثراً «بحروقه»، وابتدأ التحقيق، ولأن مطلبها مطلب حق تطورت القضية من إدارة الأمن ثم النيابة وصولاً إلى المحكمة، والتي بدورها أعادت لفاطمة نصيبها مما ترك أبوها. «ما خلوش لنا حاجة» في محكمة أخرى «....» قابلت الأرملة «م. س. ص - 54 عاماً» تندب حظها العاثر، موضحة أنها تعبت «وسترفع راية الاستسلام»، كما صبّت جام غضبها على إخوانها الخمسة، وتحدثت عنهم بألفاظ نابية «عفيت نفسي عن كتابتها» وهي نتاج فعلي لظلم عظيم اقترفوه بحقها كونها أختهم الوحيدة. بعد ذلك عمّمت «ميم» حديثها حيث قالت: “يا بني عندنا يقولون: المرأة ناقصة عقل ودين وميراث وصوتها عورة ومطالبتها بحقها من أهلها قلّة أدب.. إلخ”. وتستغرب من الذين يرددون ذلك مع أن الله سبحانه وتعالى يقول «للذكر مثل حظ الأنثيين» وهذا عدل الخالق سبحانه، متسائلة: لماذا لا تُعطى المرأة حقها إذاً؟، وتضيف «ما خلوش لنا حاجة» لاعقل ولادين ولا ميراث، متهمة العقال والمشايخ والأمناء «اللي ما عندهمش» كلمة حق بأنهم سبب ضياع حق المرأة. الأميّة كسبب للمتخصصين في علم الاجتماع رؤية حول استمرار تمسّك مناطق يمنية بالأعراف القبلية المخالفة للشريعة الإسلامية، كما لهم إشادة بذلك الكم القليل الذي لجأ للمحكمة وقال «هات حقي». الدكتورة عفاف الحيمي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة صنعاء أشارت إلى أن صمت الإناث وعدم المطالبة بحقهن يرجع إلى الأمية التي تجعل المرأة تفكر أنها لو أخذت حقها تشتت أموال الأسرة؛ وأيضاً خوفاً من العداوات والخلافات مع أهلها، لذا فهي ترضى بالقليل منهم. نظرة قاصرة عادات وتقاليد سائدة تقف عائقاً أمام المرأة، وتحول دون المطالبة بحقوقها المشروعة، ديناً وعُرفاً، وبمجرد لجوئها للقضاء تتغير نظرة المجتمع تجاهها، وتُعامل من الأهل والأقارب بقسوة نتيجة ما يعترضهم من تعيير ومهانة إزاء ذلك؛ بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الاعتداء عليها بالضرب أو التبرّؤ منها. يعتبر المحامي عبدالله سلطان أن مثل هذه التصرّفات لا تنتج إلا عن نظرة قاصرة وضيقة وجهل واضح لحقوق المرأة، إن لم يكن تعنتاً عن دراية، وهذا ما لا يصدر عن شخص مؤمن بالله يخشى عقابه. موقع المدّعي ويزيد عبدالله على ذلك: من النساء من زاد غياب زوجها عن مدّته المحددة، وتستحي من اللجوء للقضاء والمرافعة لطلب الخلع خوفاً من نظرة المجتمع لذلك، مشيراً في نهاية حديثه إلى أن غالبية القضايا المرفوعة للمحاكم تقع المرأة فيها موقع المدّعي، الأمر الذي يدل على مقدار ما تتعرّض له من ظلم وجور وانتهاك ومصادرة لحقوقها. نساء الأرياف من جانب آخر يرى المحامي أحمد عبداللطيف أن النساء في الأرياف أقل لجوءاً للمحاكم من النساء في المدينة، والسبب من وجهة نظره يرجع إلى روح الحمية التي تفرض على كل أبناء الريف بمن فيهم المشايخ التعاطف مع المرأة، والوقوف إلى جانبها، وانتزاع حقها من أي شخص كان، وبصلح قبلي دون الوصول إلى المحكمة. حقوق محفوظة أحد القضاة طلب عدم ذكر اسمه أفاد أن نسبة القضايا الشخصية والجنائية للنساء لا تزيد عن 40 % من نسبة القضايا التي تصل إلى المحكمة، مشيراً إلى أن القضايا الشخصية والتي أغلبها قضايا ميراث تزيد قليلاً عن الجنائية. وفي إطار حديثه تعجب القاضي ممن يقولون إن المرأة ممتهنة في بلاد الإسلام وخاصة العالم الثالث، مؤكداً أن المرأة في المحاكم الشرعية في اليمن حقوقها محفوظة، ومصانة، ومكفولة، فيما يتعلّق بالاستجابة لطلبها في الحضانة والرضاعة، والنفقة والفسخ، والمسكن الشرعي، ويساعدها على ذلك القانون اليمني المقتبس من وحي الشريعة، والذي هو أيضاً قد منحها حقها في الإيواء والكساء والدواء. وختم القاضي حديثه أن المرأة في نظر الإسلام نصف المجتمع، وقد حرص الشرع على حفظ حقوقها، ويكفيها أن القرآن خصّص لها سورة كاملة، وقد ورد في الأثر أنه: لا يُكرم المرأة إلا كريم ولا يهينها إلا لئيم.