حوار محمد جاد «جديدة وساحرة.. وجاءت فى توقيتها» كانت الكلمات التى وصفت بها الصحيفة الاقتصادية البارزة، فاينانشال تايمز، أفكار كتاب «أول 5000 عام من الديون»، للمفكر الامريكى ديفيد جريبر، الذى يرصد تاريخ الديون من العصور القديمة إلى الازمة الاقتصادية الحالية والعلاقات السياسية الكامنة وراء اتفاقات الديون، وهو الكتاب الذى اعتبرته حركة «احتلال وول ستريت» أحد مراجعها الرئيسية، وحاز مؤلفه الذى يوصف ب«الأناركية» على جائزة «باتيسون للثقافة والعلوم الإنسانية» لعام 2012.«الشروق» حاورت استاذ العلوم الإنسانية بجامعة لندن حول رؤيته لعروض الإقراض الدولية إلى مصر بعد الثورة. هل من الممكن أن توضح لنا دور صندوق النقد الدولى فى الاقتصاد العالمى فى ضوء رؤيتك بأنه جزء من «البيروقراطية العالمية»؟ الرئيس الامريكى رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر هما من بدءا فى انشاء نظام بيروقراطى لإدارة العالم وفقا لرؤيتهما عن اقتصاد السوق، او بمعنى آخر أول نظام عالمى له أنياب قادر على الزام الدول بتنفيذ قراراته وليس مثل الأممالمتحدة. وهذا النظام يتكون من مؤسسات عدة كالصندوق والبنك الدوليين ومنظمات مبنية على اتفاقات بين الدول مثل التجارة العالمية والاتحاد الاوروبى، وهى الكيانات المسئولة عن إنشاء وتفعيل تشريعات تنظم السوق العالمية، كما أن مؤسسات مالية مثل جولدمان ساكس وساتندرد آند بورز والشركات الدولية جزء من هذا النظام بل إن منظمات المجتمع المدنى غير الهادفة للربح تعد جزءا منه وان كانت الجزء الاكثر إنسانية فى هذه المنظومة، هذا النظام ليس بمثابة دولة تحكم العالم فليس لديهم شرطة ولا جيش عالمى، ولكنه نظام بيروقراطى عالمى يقوم بالكثير من مهام الدول. من خلال تحليلك لتاريخ العلاقات الدولية وعلاقتها بالديون، كيف ترى اقبال مصر على التوسع فى الاقتراض الخارجى من صندوق النقد وأيضا من الدول الثمانية الكبار ودول الخليج فى نفس الوقت الذى تمر فيه بمرحلة التحول الديمقراطى؟ هذا هو بالضبط ما حدث فى العديد من الدول خلال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، عندما قامت موجة من الديمقراطية فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث إنه نظريا من المفترض ان تسمح الديمقراطية للشعوب بالحق فى انتخاب قياداتها، ولكن الديون التى تراكمت عليها عن طريق الديكتاتوريات السابقة كانت قيدا يضمن أن قياداتها المنتخبة لن يكون لديها قدرة حقيقية على صياغة السياسات الاقتصادية، حيث تصنع السياسات الاقتصادية فى تلك الدول على يد مسئولين فى بروكسل او واشنطن، ممن يعملون فى البيروقراطية العالمية. ومع الوقت نجد أن السياسيين فى الدول التى تحولت إلى الديمقراطية ممن يتنافسون على المناصب ويتعهدون بأنهم سيتحدون صندوق النقد، عندما يفوزون بالمناصب يتحولون فجأة عن هذا التوجه، الواقع انه لا يكون امامهم خيار آخر، ففى هذه الاجواء لا تكون الديمقراطية حقيقية. خلال السنوات الأخيرة كانت هناك تجارب حديثة قامت بتحدى هيمنة صندوق النقد، ولكن هناك خبراء يرون صعوبة تكرار هذه التجربة فى مصر، حيث يعتبرون أننا فى حاجة للتوصل على اتفاق معه لاستعادة ثقة الاستثمار الاجنبى خلال مرحلة التحول الديمقراطى التى تتسم بالاضطراب.. ما رأيك ؟ صندوق النقد أصبح يواجه معارضة قوية فى العديد من مناطق العالم، وقد طُرد من منطقة جنوب شرق آسيا ايضا بعد الأزمة المالية عام 1998، لقد خرج تماما من تلك المنطقة ونتيجة خروجه فإن جنوب شرق آسيا كما نرى تتمتع الآن بأكثر اقتصادات العالم حيوية وتقود النمو فى العالم ولا احد هناك يتحدث عن التقشف. وحدث أمر مشابه فى امريكا اللاتينية، حيث ان معظم الاقتصادات الكبرى هناك لا تتحدث مع الصندوق مطلقا، بالطبع لا تزال هناك بعض المشكلات ولكن المؤكد ان سياسات التقشف الذى شهدتها دول تلك القارة فى الثمانينيات والتسعينيات انتهت. والواقع أن المناطق التى للصندوق فيها حضور قد تقلصت للغاية، وتقتصر على أوروبا وآسيا الوسطى ومعظم افريقيا، انهم مضطرون لتهديد مصر بأنها ستتعرض لمخاطر اقتصادية ما لم تتوصل لاتفاق مع الصندوق، ولكن الحقيقة ان شعوب العالم احتشدت ضد هذه المؤسسة واستطاعت ان تنتصر. صندوق النقد يصر على أنه لا يفرض رؤية اقتصادية على مصر وانه ينتظر برنامجا اقتصاديا تعده الحكومة المصرية لكى يصدق عليه؟ لكن كان هذا هو أسلوبهم من قبل، انهم لا يستطيعون الاعتراف صراحة بأنهم يملون سياسات اقتصادية ضد إرادة الشعوب، فهم يضطرون دائما لإلقاء تلك المسئولية على جهات أخرى. على الرغم من سيطرة التيار الدينى على المناصب القيادية فى مصر بعد الثورة، والنقد القوى لمدرسة الاقتصاد الاسلامى للديون التقليدية، فإن هذا التيار أبدى مرونة قوية للتفاهم مع صندوق النقد الدولى، كيف تفسر ذلك ؟ هناك جذور قوية لفكرة اقتصاد السوق فى التاريخ الاسلامى، والتى يتبناها صندوق النقد، حيث كان تحول الشعوب إلى الاسلام قد جاء بعد الفتوحات الاسلامية وتطبيق الشريعة، التى أسست محاكم مدنية تفصل فى تعاملات الناس بشكل منفصل عن الحكومة. وفى هذه الظروف قام التجار بتغيير نمط تعاملاتهم، حيث لم يعتمدوا على الحكومة ونظموا علاقاتهم بشكل مباشر مع الفلاحين والحرفيين، فتركوا التعاملات الربوية وديون السخرة وكانت تعاملاتهم اخلاقية داخل مجتمعاتهم. إلا ان سياسات صندوق النقد التى يقول انه يدعو لها باسم اقتصاد السوق، مستلهما افكارا تم تطويرها فى العالم الاسلامى، فهى تعتمد فى الواقع على تقاليد غربية، والتى تعتبر التجارة مجالا من مجالات الصراع الحربى ومفهوم الفائدة البنكية هو ببساطة احد مفاهيم المنطق العسكرى، ما يقوم به صندوق النقد نوع من الحملات الاستعمارية ولكن بطريقة اقتصادية.