الهجاء باب مهم من أبواب الشعر العربي ، وقد كان لهذا الغرض الشعري الهام ، فضل كبير في حفظ اللغة العربية ، وتنقيتها من الشوائب ، خصوصا ما سمي بأدب النقائض بين الفطاحلة : جرير والفرزدق ، ومن معهما كالأخطل والراعي النميري وغيرهما ، حيث كان الشاعر يهتم – من ضمن اهتماماته – بسلامة لغته ، واشتقاقاته ، وترابط أفكاره ، خوفا من أن يكون أي خلل بها ، مدخل للطرف الثاني المتربص بكل ما يقوله الخصم ، لا سيما وأن علماء اللغة يقولون ، أنه لولا شعر الفرزدق – الطرف الرئيسي في هذه المعارك – لذهب ثلث اللغة العربية ، وهذه المقولة لا تعني فقط الحفاظ على اللغة العربية من الاندثار ، لكنها تتعدى ذلك إلى إحياء الكثير من الكلمات التي اندثرت وغابت ، أو صُحّفت وفقدت معانيها ومدلولاتها الحقيقية 0 وعلى الرغم من كل ذلك أقول أنه لو قدر لي أن ألغي غرض من أغراض الشعر ، لما ترددت في أن يكون هذا الغرض الملغي ، هو الهجاء ، ذلك بأن الهجاء بقدر ما يبني من القيم والقمم الشعرية ، فهو يهدم الكثير من القيم الإنسانية النبيلة ، ويلوك في العقائد والأعراض والأنساب ، وهو اعتداء على الذائقة السليمة النقية ، حتى وإن كان دورها مجرد التلقي فقط 0 ولأننا تحدثنا عن النقائض -- ولنا أن نسميها النقائص – لأن مادتها الأساسية تقوم على الانتقاص من قدر الطرف الأخر والحط منه ، هذه النقائض لم تبنِ أي قيمة شعرية إلا على أنقاض قيم إنسانية وأخلاقية هي في نهاية الأمر أهم وأولى منها في البقاء والديمومة ، وهو ما يتعارض مع رسالة الشعر السامية المفترض بها تكريس القيم الجميلة والحفاظ عليها ، لا القفز عليها وتدميرها في سبيل الانتصار للنفس وللقبيلة 00 هذا ليس تنظيرا ، ولا دعوة للمثالية التي لا تتحقق على أرض الواقع ، لكنه مدخل للحديث عن غرض شعري / أخلاقي رفيع مسكوت عنه ، ومهمل للأسف الشديد من قبل المختصين في الأدب العربي ، هذا الغرض هو ما نستطيع أن نسميه بالعتب الشفيف ، الذي يلجأ إليه الشاعر ، كلما شعر بشحنة غاضبة لا مفر من تفريغها على أرض الشعر ، فتأتي هذه الفورة العاطفية مروضة ، في منتهى التهذيب ، والرقي ، والبعد عن الإسفاف ، والتجريح ، وقبل ذلك كله وبعده ، قادرة على إيصال ما يختلج بنفس الشاعر دون إساءة لأحد 0 في نظرة خاطفة على ديوان الشعر العربي ، نجد بعض الأمثلة ، التي تدلل على ما نقول ، فهذا ذو الإصبع العدواني ، الذي وصلت العلاقة بينه وبين ابن عمه لطريق مسدود بالغضب ، وعدم الاعتراف بالأخر ، وإنزاله مكانته ، بل والانتقاص الشديد منه ، كل ذلك تحدث عنه هذا الشاعر ، بما يتواءم ورسالة الشعر ، ونبل منطلقاته ، فلم ينزل لمستوى الحدث وسقطاته ، بل ارتقى به إلى حيث يجب أن يكون الشعر الحقيقي 00 لِيَ ابْنُ عَمٍّ عَلَى ما كان مِن خُلُقِ مُخْتَلِفَانِ فأَقْلِيهِ ويَقْلِينِي أَزْرَى بِنَا أَنَّنَا شَالَتْ نَعَامَتُنَا فَخَالَني دُونَهُ وخِلْتُهُ دُونِي والجميل هنا أن الشاعر ، يبتدئ قصيدته بتقرير يؤكد سوء الوضع ، لكنه يتحدث بحيادية ، وإنصاف ، ويحمل نفسه من المسؤولية والعتب ، بقدر ما يحمل بن عمه منه ، ثم يبتدئ بالمكاشفة ، والعتب الشفيف : لاَهِ ابنِ عَمِّك لا أَفْضَلْتَ في حسَبٍ عَنِّي، ولا أَنْتَ دَيَّاني فَتَخْزُونِي ولا تقُوتُ عِيَالِي يومَ مَسْغَبة ولا بِنَفْسِكَ في العَزَّاءَ تَكْفِيني وحتى عندما تصل الحالة العاطفية إلى ذروتها ، والشاعر يتحدث عما وقع عليه من ظلم وتعدٍّ ، نجد أنها فورة عاطفية مقننة ، ومسيجة بسياج أخلاقي نبيل لا يمكن أن يسئ إلى أحد : عَنِّي إِليكَ فما أُمِّي بِرَاعِيَةٍ تَرْعَى المَخَاضَ، وَما رَأيي بِمَغْبُونِ إِنِّي أَبِيٌّ أَبِيٌّ ذُو مُحَافَظَةٍ وابنُ أَبيٍّ أَبِيٍّ مِنْ أَبِيِّينِ وعلى هذا النسق الأخلاقي تسير هذه القصيدة الإبداعية النبيلة 0 وعلى ذات النسق ، يتحدث المقنع الكندي : مجروحا / محبطا ، مكسورا ، خالي الوفاض من كل شيء إلا الشعر الجميل بقيمته الأخلاقية الأجمل : يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا ألم ير قومي كيف أوسر مرة وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا فما زادني الإقتار منهم تقربا ولا زادني فضل الغنى منهمو بعدا أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا هذه التوطئة ، كانت تمهيدا لما هو أشد قسوة ومضاضة على الشاعر : وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا أراهم إلى نصري بطاءا وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم قدحت لهم في كل مكرمة زندا فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيويبهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا في الشعر الشعبي ، لا تختلف الصورة كثيرا ، فالقصائد العظيمة التي قيلت في هذا الجانب ، تفوق -- من ناحية الكيف لا الكم -- ما قيل في الهجاء المقذع الشتائمي ، لكننا لا نتنبه لها للأسف الشديد ، ولا نهتم ، بقدر اهتمامنا ، وتهافتنا على ما هو عكسها تماما 000 فهذا الشيخ الفارس راكان بن حثلين ، عندما عاد من الأسر ، مشتاقا إلى وطنه ، وأهله ، تفاجأ وهو في الطريق ، بخبر زلزله من الداخل ، وهو أن زوجته طلبت الطلاق منه على أثر سريان شائعة تؤكد وفاته في الأسر ، ومرور سنوات طويلة على هذه الشائعة ، وعدم وجود ما ينفيها ، ومن ثم تزوجت من رجل آخر ، وهنا يعبر هذا الرجل الكبير قدرا ، وشعرا ، ومكانة ، عن هذا الموقف بما يليق بأخلاقيات وقيم الفرسان ، ويتناول هذه الجزئية من قصيدة طويلة ، ليقول : لومي على الطيّب ولومه عليّه وراه ياخذ عشقتي ما احتراني ليته صبر عامين والا ضحية والا درى في غربتي ويش جاني إما غدا راكان بالمهمهية والا ظهر يصهل صهيل الحصاني وهنا نلحظ كيف أن الرجل حافظ على اتزانه ، وشهامته ، فلم يسيء لأحد ، بل أنه حفظ للآخرين مكانتهم وصفاتهم الحميدة وأكدها في قصيدته تلك 0 الشاعر زيد بن غيام المطيري ، يكتب على نفس القيمة الأخلاقية العليا ، فهو حتى في قمة الغيظ ، لا يجرح ، ولا يلجأ للإسفاف ، والبهتان ، لكنه يئن بألم ونبل : حداني عليه الغيظ ، والغيظ حد هلال تطاما البحور وراح عن ديرته جالي أنا أشهد شهادة حق ما يجرح الرجال مثل كلمة تجيه من صاحب غالي ومن شعرنا الشعبي المعاصر، يقول الشاعر سلطان الهاجري من قصيدة رائعة: الا يارفيقي والله انه عداك اللوم انا اللي علي اللوم في ذمتي ذمه ولكن سامحني ترى العلم فيه علوم ولا يفرح اللي بيننا ينقل النمه حصل ماحصل والعبد يصبر على المقسوم يدور الزمان ويخلف العزم والهمه طرات الرجل لا لحقه من الزمان هموم ما يدري بسده كود خيرة بني عمه وسواء كان ( اللوم ) الذي الحقه الشاعر بنفسه ، يفهم بدلالته المباشرة ، أو الضمنية ، إلا أن النص يتجه لتكريس القيم العليا ، والأخلاقيات الفاضلة المنشودة في ما نستطيع أن نسميه بأدب الخلاف ، أو العتب الشفيف 0. مجمل القول ومحصلته ، أن الشاعر ملك الكلام ، وله أن يأتي به كيفما شاء ، فالمرء مخبوء تحت لسانه كما يقول الإمام علي رضي الله عنه ، لكن عليه أن يدرك أنه يحمل رسالة خطيرة ، من العبث ، والظلم ، أن تكون أداة للهدم ، والبهتان ، والإساءة للآخرين ، وأن في الشعر سعة من ذلك كله ، لأنه قادر على احتواء كل الحالات وترجمة المشاعر ، بمسؤولية وحس أدبي وأنساني رفيع 0