محلات الصرافة في صنعاء تفاجئ المواطنين بقرار صادم بشأن الحوالات .. عقب قرارات البنك المركزي في عدن    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    جماعة الحوثي تفرض اشتراط واحد لنقل المقرات الرئيسية للبنوك إلى عدن !    خمسة ابراج لديهم الحظ الاروع خلال الأيام القادمة ماليا واجتماعيا    حلم اللقب يتواصل: أنس جابر تُحجز مكانها في ربع نهائي رولان غاروس    قرارات البنك المركزي لإجبار الحوثي على السماح بتصدير النفط    تعرف على قائمة قادة منتخب المانيا في يورو 2024    7000 ريال فقط مهر العروس في قرية يمنية: خطوة نحو تيسير الزواج أم تحدي للتقاليد؟    انتقالي حضرموت يرفض استقدام قوات أخرى لا تخضع لسيطرة النخبة    فيديو صادم يهز اليمن.. تعذيب 7 شباب يمنيين من قبل الجيش العماني بطريقة وحشية ورميهم في الصحراء    فضيحة: شركات أمريكية وإسرائيلية تعمل بدعم حوثي في مناطق الصراع اليمنية!    أرواح بريئة تُزهق.. القتلة في قبضة الأمن بشبوة وتعز وعدن    "حرمان خمسين قرية من الماء: الحوثيون يوقفون مشروع مياه أهلي في إب"    مسلحو الحوثي يقتحمون مرفقًا حكوميًا في إب ويختطفون موظفًا    الدبابات الغربية تتحول إلى "دمى حديدية" بحديقة النصر الروسية    حرب وشيكة في الجوف..استنفار قبلي ينذر بانفجار الوضع عسكرياً ضد الحوثيين    صحفي يكشف المستور: كيف حول الحوثيون الاقتصاد اليمني إلى لعبة في أيديهم؟    إنجاز عالمي تاريخي يمني : شاب يفوز ببطولة في السويد    المجلس الانتقالي يبذل جهود مكثفة لرفع المعاناة عن شعب الجنوب    عن ماهي الدولة وإستعادة الدولة الجنوبية    الوضع متوتر وتوقعات بثورة غضب ...مليشيا الحوثي تقتحم قرى في البيضاء وتختطف زعيم قبلي    عن الشباب وأهمية النموذج الحسن    حرب غزة.. المالديف تحظر دخول الإسرائيليين أراضيها    - الصحفي السقلدي يكشف عن قرارات التعيين والغائها لمناصب في عدن حسب المزاج واستغرب ان القرارات تصدر من جهة وتلغى من جهة اخرى    بحضور نائب الوزير افتتاح الدورة التدريبية لتدريب المدربين حول المخاطر والمشاركة المجتمعية ومرض الكوليرا    شرح كيف يتم افشال المخطط    بدء دورة تدريبية في مجال التربية الحيوانية بمنطقة بور    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و439 منذ 7 أكتوبر    "أوبك+" تتفق على تمديد خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط    ولي العهد الكويتي الجديد يؤدي اليمين الدستورية    رصد تدين أوامر الإعدام الحوثية وتطالب الأمم المتحدة بالتدخل لإيقاف المحاكمات الجماعية    الملايين بالعملة الصعبة دخل القنصليات يلتهمها أحمد بن مبارك لأربع سنوات ماضية    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    أولى جلسة محاكمة قاتل ومغتصب الطفلة ''شمس'' بعدن    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا    بالصور: اهتمام دبلوماسي بمنتخب السيدات السعودي في إسبانيا    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    مصرف الراجحي يوقف تحويلاته عبر ستة بنوك تجارية يمنية بتوجيهات من البنك المركزي في عدن    تاجرين من كبار الفاسدين اليمنيين يسيطران على كهرباء عدن    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    خراب    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    الطوفان يسطر مواقف الشرف    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير .. (5)
نشر في الجنوب ميديا يوم 05 - 12 - 2012

"الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير"، كتاب جديد للصحافي والدبلوماسي الفرنسي اريك رولو، يتحدث فيه عن مراحل مهمة في حياته المهنية، وتجاربه ولقاءاته، خصوصاً أنه عاصر مراحل بالغة الأهمية في المنطقة العربية وكان شاهداً على معظمها ومراقباً لها من خلال عمله في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، حيث أقام العديد من العلاقات والصداقات مع الكثير من القادة والسياسيين وزعماء الأحزاب .
في هذا الكتاب إطلالة على مرحلة من مراحل التاريخ العربي، يكشف فيها أسراراً ومعلومات لم تكن معروفة من قبل من خلال لقاءاته وقراءاته .
السادات تحالف مع "الإخوان" للقضاء على الناصريين والشيوعيين
الطبقة البرجوازية، سواء القديمة، أو الجديدة المولودة في عهد ناصر، فضلاً عن غالبية طبقة الفلاحين، المرتبطة بالملكية الخاصة، فقد رحبتا بالتخلص من "عصابة عملاء موسكو"، كما سماهم الرئيس .
و المفارقة، أن صورة هذا الأخير غير المميزة - مقارنةً بعبد الناصر - كانت تبعث على الاطمئنان . فلقد سعت "فلسفته" إلى تسكين الخواطر: فهو يعلي من الإيمان بالله، ويؤكد أن العلم يؤول في غيابه إلى الفشل، ويمجد "أخلاق القرية"، وقيم العائلة، ودور رب الأسرة الكبيرة الذي يقيم العدل وينشره .
هكذا ستصبح مصر منذئذٍ، على حد قوله، "قرية كبيرة"، يحيا سكانُها في تناغم تام بفضل "تقاليد الأسلاف" . وراحت وسائل الإعلام تشير إليه بصفته "الأب" الذي يسهر على مصالح الأمة، وهو أب يرفض تضخيم صورة الحاكم وصناعة الفرعون . والدليل على ذلك قراره بألا يحمل أي طريق أو أي مؤسسة إسم مؤسس الجمهورية، وألا يُقام له أي تمثال أو يخلد ذكراه أي نصُب . مع ذلك، أمر بأن تعلق صورته مع صورة سلفه، جنباً إلى جنب، وبنفس الحجم . أوَلم يفجرا، الأول كما الآخر، ثورتيْن متعاقبتيْن؟
بالتدريج، ستمحو الثانيةُ آثار الأولى . فقد اتخذ صاحب "ثورة التصحيح" إجراءات غيرت حتى أسس الاقتصاد الذي أفسده على حد قوله "تدخل سلطة الدولة فيه على نحو مفرط" . وبعد ذلك بأعوام، حين راح يجاهر ب "تخلصه من عقدة الناصرية"، صرح برأيه بشكل أوضح إذ كتب في سيرته الذاتية: "لقد نقلنا بغباء مُطبق النسخة السوفييتية للاشتراكية" .
الانفتاح واللجوء إلى الدين
في الأعوام الثلاثة الأولى من حكمه، بدأ بتطبيق "الانفتاح"، وهو المعادل لليبرالية الجديدة الذي أفضى إلى إقرار مجتمع استهلاكي نتجت عنه الفاقات المؤذية المعهودة عادةً في بلد من البلدان النامية . فقد أعاد حرية الاستيراد والتصدير، وألغى العوائق أمام تداول العملات الأجنبية، وسمح بشراء الكماليات من السلع الفاخرة والسيارات، وفتح الأبواب على مصراعيها أمام المستثمرين الأجانب الذين أعفاهم من الضرائب، وسمح لهم بإعادة كامل أرباحهم إلى أوطانهم، بل ومنحهم ضماناً قاطعاً بعدم إخضاعهم لأي حجز أو تأميم أو مصادرة، وتم منح الحصانة نفسها إلى رأس المال الوطني أيضاً .
وقد زاد تحرير الاقتصاد من المضاربة، والاتجار بجميع صوره، والاستقطاب الاجتماعي: فوفقاً للإحصاءات الرسمية، في نهاية عام ،1971 امتلك 5 .2% من المصريين نحو 24% من الدخل القومي، واشترى 10% من المصريين 54% من المنتجات الاستهلاكية الشائعة .
كان السادات يعي أن الفراغ الذي خلفته الأيديولوجية الاشتراكية الناصرية وراءها في سبيله إلى أن يحل محله الإسلام الذي شهد إقبالاً منذ كارثة 1967 . هكذا انتحل الرئيس تعاليم النبي ليستخدمها في أسلمة المجتمع والدولة تدريجياً . وقد كان هو في وضع يمكنه من بلوغ غرضه . فقد تعلم القراءة والكتابة في الكُتاب، وحَفِظ القرآن الكريم، وهو بعدُ يذهب مراراً وتكراراً إلى الحج والعمرة، ويرتاد المساجد بمواظبةٍ وانضباط، حيث يحرص على الظهور، أمام عدسات الكاميرات، وهو يركع ويسجد بتواضع جم وسط العامة .
هذا وتُظهر صوره في الصحف "زبيبة الصلاة" الماثلة فوق جبهته، والشاهدة على تواتر احتكاك رأسه بالأرض أثناء صلواته يومياً . هكذا تسَمى "أبو الأمة" أيضاً ب "الرئيس المؤمن" . وغزت الاحتفالاتُ الدينية ودروسُ الوعظ برامجَ الإذاعة والتلفزيون . وأُدرجت التربية الدينية في المناهج المدرسية باعتبارها "مادة أساسية" . واكتمل التحول عام 1980 بإدخال مادة على الدستور تنص على أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع . وتُعد إقامة دولة شبه لاهوتية أمراً غير مسبوق في تاريخ مصر، قديماً أو حديثاً . هكذا لم تَعد ممارسة العلمانية كما عرفتها الحقبة الناصرية سوى ذكرى (سيئة) .
التحالف مع "الإخوان"
ولتدعيم قواعده، كان السادات بحاجة إلى تحالفات سياسية . ولما كان غير قادر على إبرامها مع اليسار، فقد غازل بطبيعة الحال الإخوان المسلمين فور وصوله إلى الحكم . فأفرج عن المئات منهم، ممن كان ناصر قد اعتقلهم، وفتح حواراً مع قادتهم . وقد ظن أنه آخذ بمجامع قلوبهم إذا ما أفضى بما كان معلوماً قبل ذلك بالفعل، أي بإعجابه وبعميق احترامه لمؤسس الجماعة، حسن البنا الذي التقاه عام ،1940 كما بعرفانه لفضل الشيخ في منح أسرته راتباً بانتظام طوال سنوات اعتقاله .
رغم ذلك، ما كان "الإخوان" لينسوا ما حرص السادات على تناسي سرده في مذكراته المتتابعة، ألا وهو أنه قد حكم بالإعدام على العديد من الكوادر الكبرى في الجماعة المتهمين بتنظيم حادث الاعتداء على ناصر عام 1954 . فقد كان ربيب الريس القديم واحداً من القضاة الثلاثة في المحكمة "الثورية" التي تشكلت لضرب عنق الجماعة . لكن، رغم ارتيابهم، تظاهر قادة الإسلاميين بقبول اليد الممدودة إليهم من قِبل الرئيس، نظراً لكونهم الرابحين في الصفقة المعروضة عليهم: فقد طلب منهم السادات المساعدة للقضاء على خصومه الذين كانوا في الوقت ذاته خصومهم، ألا وهم الناصريين والشيوعيين الذين كانوا بعدُ يسيطرون على قطاعات معيّنة في المجتمع، في أوساط العمال والطلبة .
إضافةً إلى ذلك، كان مقرراً أن يحظى الإخوان بحريات (محظورة على جميع التيارات الأخرى) مما سيتيح لهم توسيع نطاق تأثيرهم . لكن حانت نهاية زواج المصلحة الذي عُقِد على ذلك النحو عندما تحققت رغبة الرئيس في عقد السلام مع "إسرائيل" بعد ذلك بسنوات .
مع ذلك، كان معلوماً منذ وصوله إلى الحكم أن تسوية النزاع مع الدولة اليهودية هي أولى أولوياته . وكنتُ قد تفاجأتُ يوم جنازة الريس عبد الناصر، ولم أكن الوحيد الذي تفاجأ، حين لم ألحظ بين الحاضرين هيئة المرشح المحتمل للرئاسة . كان يُمكن تفسير ذلك الغياب بالحشد الهائل الهادر المائج الذي ضم ملايين المصريين الذين تزاحموا في موكب الجنازة الممتد بطول عدة كيلومترات . لكن الجميع كان يجهل أن قبيل انطلاق الموكب، تعرض السادات لتوعك استلزم اعطاءه حقنة، أخذته على إثرها إغفاءة . فما إن استيقظ حتى دعا إليه في مرقده الدبلوماسييْن الكبيريْن اللذيْن مثلا الولايات المتحدة في الجنازة، وفاجأهما بقوله إنه يعول على واشنطن للعمل على إنجاح عملية السلام مع "إسرائيل" في أقرب وقت ممكن . أما في سيرته الذاتية، فهو يدعي أنه قد لحق بالموكب الجنائزي قبيل وصول نعش عبد الناصر إلى مثواه الأخير .
كان التصرف الغريب الذي قام به السادات مع الدبلوماسيين الأمريكيين يعود إلى اعتقاده الراسخ في أن "الولايات المتحدة تتحكم في 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط"، على حد ما أعلن في أكثر من مناسبة . فإن كان عبد الناصر لا يجهل مطلقاً ما للولايات المتحدة من نفوذ في المنطقة، لاسيما في "إسرائيل"، فقد كان في تقديره أن مصر عليها أن تعتمد أولاً على الاتحاد السوفييتي، القوة التي لا غنى عنها لمعادلة وزن أمريكا و"إسرائيل" معاً . أما دبلوماسية خلَفه، فستكون على النقيض تماماً، إذ لن يكف عن محاولة كسب ود القادة الماثلين عبر الأطلسي، حتى في ما هو غير ميال للانفصال عن الكرملين .
هكذا، لم تكن لافتة "عملاء موسكو" التي أُلصقت ب"متآمري 13 مايو" لافتةً بريئة . ولا كانت عملياتُ التطهير داخل إدارات الدولة، وتعيين مسؤولين معادين للاشتراكية الناصرية، ثمرةً للعبةِ مصادفات . إذ كانت تلك إيماءةٌ إلى واشنطن، مفادُها أن العهد "الموالي للسوفييت" قد ولّى . لكن، نظراً لحرصه على الاحتفاظ بالمساعدات العديدة التي تقدمها موسكو عسكرياً واقتصادياً ومالياً، ولاهتمامه بعدم المخاطرة بالمشروعات الكبرى التي مازالت قيد التنفيذ، وجد نفسه مضطراً بعد ذلك بقليل إلى توقيع "معاهدة صداقة وتعاون" قدم إليه نصها رئيسُ الاتحاد السوفييتي، نيكولاي بودغورني الذي جاء إلى القاهرة خصوصاً لهذا الغرض . وقد كان ذلك حدثاً غيرَ مسبوقٍ، نظراً لكون أحد مبادئ الجمهورية المصرية الناشئة كان يحظر الارتباط بمعاهدة مع أي من القوى الكبرى . إمعاناً في طمأنة الكرملين، عين السادات على رأس الحزب الأوحد إثنين من قدامى القادة الشيوعيين، وإن كانا ينتميان إلى فصيل ماركسي كان أعضاؤه يعتبرون الرئيس بمثابة الممثل الأصلي "للبرجوازية الوطنية"، على عكس ما كان يعتقده التيار السائد بين الشيوعيين . إذ لم يكن الخداع قد انطلى على الجميع . تشهد على ذلك نكتة سمعتها مراراً في مجالس القاهرة، تقول: حين وصلت السيارة الرئاسية إلى تقاطع طرق، سأل السادات سائقه عن الاتجاه الذي كان عبد الناصر يسلكه عادةً . فكانت الإجابة: "دائماً إلى اليسار"، عندئذٍ طلب الرئيس الجديد من سائقه أن يضيء إشارات الاتجاه إلى اليسار والانعطاف إلى اليمين .
عروض للسلام
واصل السادات سعيه إلى السلام بلا كلل أو ملل، مع علمه أن تلك هي الأمنية الكبرى لمواطنيه الذين أرهقهم ركود حالهم الموصوفة بأنها حالة "اللاحرب واللاسلم" . كان كل شيء يجري وكأنه يحاول إثبات قدرته على التصرف بصورة أفضل وأسرع من سلفه . فراح يُكثر منذ ذلك الوقت من التلميحات والإشارات لواشنطن، ومن التنازلات للقدس، إلى حد حرق أوراقه، الواحدة تلو الأخرى، بغير أن يطلب أو يحصل على أدنى مقابل . ولم تكد تمر أيام ثلاثة على تنصيبه، حتى أرسل خطاباً إلى ريتشارد نيكسون يدعوه فيه إلى التدخل من أجل تسوية قائمة على إعادة سيناء إلى مصر . وفي المقابل، تعهد بتوقيع معاهدة سلام تراعي الأصول الواجبة مع الدولة اليهودية . وقد تبنى الرئيس الأمريكي رأي غولدا مائير، رئيسة وزراء "إسرائيل" الذي يقول بوجوب انتظار تنازلات أخرى قبل البدء في المساومة .
بعد ثلاثة أشهر، في يناير ،1971 بعد أن التقى وزير الخارجية المصري، محمود رياض، بالرئيس الفرنسي بومبيدو، منحني مقابلة صحفية كشف لي فيها عن عرض جديد يأخذ في الاعتبار الحجج الأمنية التي تتذرع بها القدس: إذ ستعمل القوى الأربع الكبرى (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي) على ضمان السلام وستقوم بنشر قواتها على الحدود المصرية "الإسرائيلية" طالما طلب أحد الطرفين ذلك . وأخبرني الوزير بأن رئيس الدولة الفرنسية قد استقبل هذا المشروع برضىً كبير، لاسيما أن الجنرال ديغول كان قد صاغه قبل وفاته . لكن رد فعل "إسرائيل" كان سلبياً . إذ أعاد وزير الدفاع، الجنرال موشي دايان التعبير عن اعتقاده الراسخ في أنه "يفضل شرم الشيخ على السلام" . وأمكن التساؤل عندئذٍ عن النفع الذي قد يُرجى من تلك البقعة الاستراتيجية في سيناء إذا توجب تأمينها بوساطة القوات الدولية المرابطة على الحدود .
في الشهر التالي، أعاد السادات الكَرّة بعرض إضافي تصور أنه مغرٍ: إذ سيُعاد افتتاح قناة السويس التي كانت قد أغلقت منذ حرب الأيام الستة، وستُستأنف فيها الملاحة الدولية في مقابل انسحاب جزئي للجيش "الإسرائيلي" من سيناء، وذلك - بالطبع - كخطوة أولى قبل الجلاء التام عن كافة الأراضي المصرية المحتلة . وستتعهد مصر في الوقت ذاته باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، بعد أن كانت قد انقطعت غداة حرب 1967 . لكن غولدا مائير رفضت بقوة خطة التسوية تلك، ووصفتها ب"سُبة في حق ذكائنا" . أما الجنرال دايان، فقد عبر عما كان وسيكون من أمر الفلسفة "الإسرائيلية" الثابتة على مر العقود التالية، إذ صرح قائلاً: "لم تتعود الحركة القومية اليهودية من العرب إلا الاعتراف بالأمر الواقع" .
لكنه رأى، على نحو متناقض، أن إعادة ضفاف القنال إلى مصر من شأنها أن تطرد شبح الحرب . لكن الرئيس نيكسون قد خطأه ونصح مائير برفض العرض المقدم من قِبل الرئيس المصري .
أما الدول الأوروبية، رغم استحسانها احتمال عودة حرية الملاحة في قناة السويس - وهو ما سيتيح لهم الحصول على نفط بسعر مناسب - فلم يكن رد فعلها مخالفاً لرد فعل الولايات المتحدة التي تضامنت مع "إسرائيل" على حساب مصالحها الخاصة . هكذا، أقدم السادات على مخاطرة كبيرة بلا مقابل: فقد أدانه العالم العربي بأسره لاقتراحاته غير المناسبة .
طرد الخبراء السوفييت
رغم ذلك، استمر خليفة عبد الناصر في رهانه على الدعم الأمريكي . فتحدى، أثناء صيف ،1971 الاتحادَ السوفييتي بتأييد انقلاب عسكري معادي للشيوعية في السودان . واشتعل أوار الحرب الباردة، فلم تكتم موسكو غضبها، وأبدت واشنطن لامبالاة لافتة . وإذ كنتُ موجوداً في القاهرة في تلك اللحظة، أجريتُ مقابلة مع المكلف أعمال الولايات المتحدة، دونالد برغاس الذي ربطتني به علاقة طيبة . وقد أسر إليّ بقوله: "حتى إن كنا سنتسبب في إحباط الرئيس السادات، فلقد أخبرناه بأن أهدافه غير قابلة للتحقيق، وبأن عليه ألا يُعول علينا لممارسة ضغوط على "إسرائيل" لأننا لا نملك أسباب ذلك" .
رغم ذلك، تمادى السادات في إصراره . فأسر إلى واشنطن بنيته في الابتعاد عن الاتحاد السوفييتي فور بدء "الإسرائيليين" في الجلاء عن سيناء جزئياً . وإذ لم ترِد إليه أصداءٌ إيجابية، تخيل أن الأمريكيين سيثقون به لو أنه أقدم على تنفيذ عرضه بلا إملاء شروط مسبقة . فما كان منه إلا أن قام بعملية أدهشت المصريين والرأي العام العالمي على حد سواء . ففي الثامن من يوليو/تموز ،1972 استدعى السادات سفير الاتحاد السوفييتي بالقاهرة وأفهمه أن الخبراء الروس، البالغ عددهم عشرين ألف خبير، مطالبون بمغادرة مصر بكامل عتادهم وأمتعتهم في غضون 48 ساعة . لكنه خسر، مرة أخرى، تلك المقامرة الكبرى . وقد سخر هنري كسنجر من سذاجته غير المعقولة، ووصف مسعاه بأنه "خطأٌ فادحٌ"، مضيفاً: "لو أنه قد حاول وضع ثمن لمبادرته تلك قبل أن يشرع في تنفيذها، لكُنا دفعنا فيها ثمناً غالياً جداً ."
وعلى نحوٍ يجافي الحذر مجدداً، أعلن السادات إن عام 1971 سيكون "عام الحسم"، وإنه سينتهي إما بالسلام أو بالحرب، حتى إن تكلفت الحرب "مليون شهيد" . وفيما رأت الصحافة "الإسرائيلية" في ذلك التصريح دليلاً على مزاجه العدواني وشغفه بالحرب، راح ارتياب مواطنيه يزداد بازدياد إخفاقاته الدبلوماسية . ونظراً لكون المصريين لا يكادون يفقدون روح الدعابة، فقد كانت النكتة الرائجة آنذاك تقول متهكمةً: "يجب ألا نقلق لأن الرئيس سيصدر مرسوماً يأمر فيه بإضافة إثني عشر شهراً آخرين إلى العام الحالي" .
وقد صار أضحوكة عامة حين صرح في ديسمبر/كانون الأول أن "الضباب" الجاثم فوق الظروف الإقليمية والدولية يَحُول بينه وبين الشروع في عمل عسكري . فتحَول التململُ إلى اهتياج . اعتصم الطلبة بالجامعات، وعلقوا شعارات ورسوم كاريكاتيرية لاذعة، تسخر جميعها من فكرة "الضباب"، فيما تم القبض على المئات منهم . وقد أدى انكشاف مؤامرة داخل الجيش إلى إعادة النظر في قدرات القائد الأعلى للقوات المسلحة .
فهل كان النظام في خطر؟ كان السادات موقناً بذلك فيما يبدو، وقد ارتأى أن عليه في جميع الأحوال أن يرفع العصا على من عصى . ففي إبريل/نيسان ،1972 صرح بأن مصر "ستستلهم الغزوة الرائعة للرسول الكريم التى طرد على أثرها من شبه الجزيرة العربية كافة اليهود، ذلك الشعب الخوان الغدار" . وبعد ثلاثة أشهر، أعلن في خطاب له إن "ما أُخذ بالقوة سيُستردُ بالقوة" .
وقد تخلى السادات عن فكرة "المفاوضات الثنائية" مع "إسرائيل" موضحاً في وقت لاحق إن ذلك من شأنه أن يؤدي به حتماً إلى الاستسلام والتنازل، نظراً للتفاوت الكبير بين الطرفين . كما هاجم القادة الأمريكيين قائلاً إنهم "لا يجيدون سوى الغش والخداع" .
واشتعل أوار الحرب النفسية . فراحت سفارة "إسرائيل" في باريس ترسل إليّ بانتظام نصوصاً تذكر بالماضي النازي للرئيس المصري، وبإعجابه بهتلر، وبآرائه المعادية للسامية . وقادت وسائل الإعلام والمنظمات الصهيونية في فرنسا حملةً مماثلة، زاد من فاعليتها كونها مستندةً إلى حقائق دامغة . وقد سمحت تلك الحملة خاصةً بالنَيل من مصداقية مشروع السادات من أجل السلام الذي ينص على الجلاء التام عن سيناء . واتخذت المعارضة في مصر أبعاداً أخرى . ففي سبتمبر/أيلول ،1972 وقع خمسمائة كاتب وفنان على بيان يشكون فيه من أن "الثقافة المصرية تحتضر ببطء وبألم تحت وطأة العديد من القيود المفروضة على حرية التعبير، والرقابة، والتزمت، والفساد ." فما كان من السادات - الذي كان يدعي إرساء نظام ديمقراطي تعددي - إلا أن أمر بالقبض على بضع مئات من المثقفين، والكتاب، والمحامين، والصحافيين، والطلاب، واتهمهم بأنهم يتحركون بإيعاز من "اليسار المغامر"، ومن "باشاوات العهد البائد" في الوقت نفسه- ويا للعجب!
في حوار مع مجلة "نيوزويك" الأمريكية في إبريل/نيسان ،1972 صرح السادات بأنه "يائس" من موقف الولايات المتحدة التي تؤيد تعنت "إسرائيل"، وتزودها علاوة على ذلك بالطائرات المقاتلة من طراز "فانتوم"، فضلاً عن الوسائل اللازمة لتصنيع طائرة حربية . كما شكا من الاستقبال البارد الذي لقيه في واشنطن مبعوث مصري رفيع، عاد إلى القاهرة بخفي حنين . هكذا سيشهد العام عدة تهديدات بالحرب، لن تفلح جميعاً في إقناع المشككين في صدقه .
هذا ولم يحاول هنري كسنجر أن يخفي ازدراءه لذلك "المهرج المتحذلق" وهزأ المثقفون المصريون من "الحمار"، وهو النعت الذي ألصقوه به منذ عهد عبد الناصر، وراحوا يرددون مازحين: "الريس القديم موتنا من الخوف في العشرين سنة اللي فاتت . . أما الريّس الجديد فحا يموتنا من الضحك في العشرين سنة اللي جاية . ." .
وأخيراً، انتهى السادات إلى إدراك أن مصير استراتيجيته الدبلوماسية هو الفشل . ومضى حزب العمال "الإسرائيلي" الحاكم في توسيع الاستيطان في الأراضى المحتلة، برباطة جأش وعزم لايفتر . ولم ينقطع المتحدثون باسمه عن التأكيد على أن الهدوء يخيّم على جميع الحدود، وعلى أن "مكافحة الإرهاب"، المكللة بالنجاح، تحظى بإعجاب الرأي العام العالمي . وأخذت وسائل الإعلام تشهد على شعبية الجنرالات "الإسرائيليين"، وعلى المكانة المتميزة، بل المهيمنة التي يحتلونها داخل المجتمع . وأخذوا هم يلقون الأحاديث والخطابات، ويتألقون في الأمسيات الاجتماعية والحفلات .
هذا وأعرب الجنرال دايان عن نيته في بناء "ميناء في المياه العميقة" في مستوطنة ياميت، وهي المستوطنة التي أنشأتها الدولة العبرية بالتحديد في قلب سيناء . وأعلن قائلاً: "باستطاعة جيشنا أن يهزم كل الجيوش العربية مجتمعةً" . وأضاف جنرالان آخران، من "أبطال" حرب ،1967 أقوالاً مماثلة: فأعلن عزرا وايزمان (رئيس الدولة في المستقبل) أن الدولة اليهودية "يسعها الانتصار على القوات السوفييتية"، فيما لم يتردد أرييل شارون (رئيس الوزراء في المستقبل) في أن يصرح قائلاً: ""إسرائيل" هو البلد الأشد بأساً في العالم، بعد القوتين العظميين، وهو قادر على احتلال العالم العربي من العراق إلى تونس" .
وظن السادات، عن حقٍ، أن الدولة اليهودية لن تتخلى عن مواقفها المتعنتة طالما أنها قد امتلكت قنابل نووية . وأسرّ إلى سفير أحد الدول الصديقة قائلاً: "إلى متى تظن أن يقبل ستمائة وخمسين ألف شخص - منهم أكثر من ستين ألف خريج جامعي - الخدمة في صفوف الجيش، والبقاء داخل الخنادق أمام قناة السويس المحتلة، بلا أدنى أملٍ في الخلاص؟" وفي انتظار ما لا يأتي، راحت الميزانية العسكرية تُفاقم من الأزمة الاقتصادية . وأخذت الإضرابات العمالية، واحتجاجات الفلاحين، وتظاهرات الجماهير الغاضبة، تحيل الوضع إلى جحيم لا يطاق . ولم يكن لدى السادات خيار آخر سوى الاستعداد لخوض عمل عسكري . وبالاتفاق مع الرئيس السوري، اتخذ القرار في إبريل/نيسان 1973 ببدء العمليات الحربية قبيل نهاية العام . وقد صرح بنواياه إلى عاهل المملكة العربية السعودية الذي نبّه الرئيس الأمريكي، الذي أخطر بدوره القدس . وقد أثار النبأ سيلاً من الاستهزاء داخل أجهزة الاستخبارات الأمريكية و"الإسرائيلية" التي استمرت في تشككها . هل كانوا يجهلون أن السادات بعد أن نجح في التصالح مع الاتحاد السوفييتي، بات يحصل منه منذ ديسمبر/كانون الأول 1972 على تسليح مضاعف، كماً ونوعاً، لما كان يُمنح له طوال العامين الماضيين؟
في الأسابيع التي سبقت اندلاع العمليات العسكرية، قام السادات بجولة في الدول العربية الأكثر نفوذاً، لاسيما الدول النفطية في الخليج - ليطلب إليهم مساندته في الحرب التي سيقودها . كما طلب بالأخص من المملكة العربية السعودية، والكويت، ودولة الإمارات العربية المتحدة توقيع حظر نفطي لإجبار القوى الصناعية على الضغط على "إسرائيل" . وفي مصر، هدأ من روع النخب بأن أفرج عن مئات المثقفين والطلاب الذين كان قد اعتقلهم قبل بضعة أشهر .
و بعد ثمانية أيام، شن السادات "عملية بدر" التي صنعت منه "بطل العبور" . لقد كان محظوظاً إذ لم يصدقه أحد حين قال إنه سيحارب .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.