الكشف عن سر فتح الطرقات في اليمن بشكل مفاجئ.. ولماذا بادر الحوثيون بذلك؟    أسرة تتفاجأ بسيول عارمة من شبكة الصرف الصحي تغمر منزلها    عودة 62 صيادًا يمنيًا من السجون الأرتيرية بعد مصادرة قواربهم    طارق صالح يوجه دعوة مهمة للحوثيين عقب فك الحصار الحوثي عن تعز    جهود رئيس الحكومة في مكافحة الفساد تثمر دعم سعودي للموازنة العامة والمشتقات النفطية    الكشف عن مبلغ الوديعة السعودية الجديدة للبنك المركزي اليمني في عدن    ياسين سعيد نعمان: ليذهب الجنوب إلى الجحيم والمهم بقاء الحزب الاشتراكي    في اليوم 215 لحرب الإبادة على غزة.. 37232 شهيدا و 85037 جريحا والمجاعة تفتك بالأطفال    "عبدالملك الحوثي" يكشف هدف اعلان خلية التجسس الأمريكية الإسرائيلية في هذا التوقيت    عرض سعودي ضخم لتيبو كورتوا    الحوثيون يفرضون جمارك جديدة على طريق مأرب - البيضاء لابتزاز المواطنين    تهامة المنسية: مفتاح استقرار اليمن ومستقبله السياسي    فتح الطرقات.. تبادل أوراق خلف الغرف المغلقة    المعارض السعودي في مأزق: كاتب صحفي يحذر علي هاشم من البقاء في اليمن    إصابات خطيرة لثلاثة ضباط إماراتيين في اليمن.. وإجراءات أمنية مشددة في هذه المحافظة    القرعة تضع منتخب الشباب الوطني في مواجهة إندونيسيا والمالديف وتيمور    إصابة ثلاثة مدنيين بانفجار لغم حوثي في جولة القصر شرقي تعز    نقابة الصحفيين الجنوبيين تدين إعتقال جريح الحرب المصور الصحفي صالح العبيدي    فضيحة دولية: آثار يمنية تباع في مزاد علني بلندن دون رقيب أو حسيب!    وزير الأوقاف يطلع رئاسة الجمهورية على كافة وسائل الرعاية للحجاج اليمنيين    الحجاج يتوجهون إلى منى استعدادًا ليوم عرفة ووزير الأوقاف يدعو لتظافر الجهود    مودريتش يعيق طموحات مبابي    وزير الصحة يشدد على أهمية تقديم افضل الخدمات الصحية لحجاج بلادنا في المشاعر المقدسة    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 37,232 شهيدا و 85,037 مصابا    البعداني: نؤمن بحظودنا في التأهل إلى نهائيات آسيا للشباب    اختتام دورة تقييم الأداء الوظيفي لمدراء الإدارات ورؤساء الاقسام في «كاك بنك»    أبطال "مصر" جاهزون للتحدي في صالات "الرياض" الخضراء    تقرير ميداني عن الإنهيارات الصخرية الخطيرة في وادي دوعن بحضرموت    أزمة المياه مدينة عتق يتحملها من اوصل مؤسسة المياه إلى الإفلاس وعدم صرف مرتبات الموظفين    واشنطن:اعتقال المليشيا لموظفي الأمم المتحدة والمنظمات استخفاف صارخ بكرامة الشعب اليمني    رحلة الحج القلبية    اختطاف إعلامي ومصور صحفي من قبل قوات الانتقالي في عدن بعد ضربه وتكسير كاميرته    منتخب الناشئين في المجموعة التاسعة بجانب فيتنام وقرغيزستان وميانمار    ''رماية ليلية'' في اتجاه اليمن    الكوليرا تجتاح محافظة حجة وخمس محافظات أخرى والمليشيا الحوثية تلتزم الصمت    ميسي يُعلن عن وجهته الأخيرة في مشواره الكروي    هل صيام يوم عرفة فرض؟ ومتى يكون مكروهًا؟    غضب شعبي في ذمار بعد منع الحوثيين حفلات التخرج!    لا ابن الوزير ولا بن عديو أوجد دفاع مدني لمحافظة النفط والغاز شبوة    قاتلوا سوريا والعراق وليبيا... السلفيين يمتنعون عن قتال اسرائيل    غريفيث: نصف سكان غزة يواجهون المجاعة والموت بحلول منتصف يوليو    سانشيز قد يعود لفريقه السابق    وفاة مواطن بصاعقة رعدية بمديرية القبيطة بلحج    أعينوا الهنود الحمر في عتق.. أعينوهم بقوة.. يعينوكم بإخلاص    احتضنها على المسرح وقبّلها.. موقف محرج ل''عمرو دياب'' وفنانة شهيرة.. وليلى علوي تخرج عن صمتها (فيديو)    إصلاح صعدة يعزي رئيس تنفيذي الإصلاح بمحافظة عمران بوفاة والده    مستشار الرئيس الزُبيدي يكشف عن تحركات لانتشال عدن والجنوب من الأزمات المتراكمة    اليونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    السمسرة والبيع لكل شيء في اليمن: 6 ألف جواز يمني ضائع؟؟    20 محافظة يمنية في مرمى الخطر و أطباء بلا حدود تطلق تحذيراتها    بكر غبش... !!!    مليشيات الحوثي تسيطر على أكبر شركتي تصنيع أدوية في اليمن    منظمة حقوقية: سيطرة المليشيا على شركات دوائية ابتزاز ونهب منظم وينذر بتداعيات كارثية    إتلاف كميات هائلة من الأدوية الممنوعة والمهربة في محافظة المهرة    افتتاح جاليري صنعاء للفنون التشكيلية    وفاة واصابة 4 من عمال الترميم في قبة المهدي بصنعاء (الأسماء)    عالم آثار مصري شهير يطالب بإغلاق متحف إنجليزي    ما حد يبادل ابنه بجنّي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلّ ُ / أينَ / لغزٌ ينتظر - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 16 - 01 - 2013


مواضيع ذات صلة
بداية ٌ اولى
هو يمضي الى زمان، وأنا جار ٍ الى آخر
وكلُّ مكان بالنسبة الينا هو اللامكان.
مشينا معاً بعضَ وقت ثمّ فرّقنا الطريق، وقد نلتقي في وهلة ما. ثُمّ حملني دربي الى حنية مسترخية في صقع من الُمُخيلة. كنت اجري بمُحاذاة نهر صغير عرضه اقلُّ من الشارعين على ميمنته وميسرته، اروم اجتياز الجسر الحجري المقوّس القريب الى الجهة الاُخرى. النهر عقيم ٌمليء بالنفايات واطر السيارات وأخشاب مغروسة في القاع كيفما اتفق، تحوم فوق مائه الآسن / الذي يراوح لونُه بين الأخضر والبنيّ / أسرابُ الذباب. تُرى منذُ متى استحال هذا النهر الى مكبّ للقمامة؟ وفيما أنا سارحُ البال إذ تتمرأى لي طفلة ٌ صغيرة مقبلة بعشوائية لا مبالية تُجاه النهر. لا ادري من أيّ باب اندلقت. فثمة صفٌّ طويل من البيوت القديمة على الجانب الآخرتتشابه كما لو كانت عربات قاطرة متهالكات. وقبل ان تقطع المنحدرالترابي وتتوغلَ في الماء قفزتُ على صخرة وعلى الخشبتين البازرتين والصخرتين التاليتين فامسكتُ بياخة جاكيتها المخملي الأحمر واندفعتُ معها الى اليابسة. استغربتُ أمري: كيف قفزتُ فوق الماء خللَ تلك المسافة، عابراً فوق تلك الصخور وعمودي الخشب الناتئين ذوي الرأسين الحادين؟ أقعيتُها على التراب وسمعتُ موسيقى كركرتها الناعمة. عينان زرقاوان ووجه كليرة ذهب وشعر سنبلي حرير. فجأة ً عنّتْ أمّها رفعتْها وضمّتها اليها طابعة ًعلى خدها قبلة اطول من دهر. ولا أدري من ايّ باب خرجت وايّهُ ولجتْ. مضيتُ امام البيوت الى اللامكان، كنتُ ابانئذ افكّر في امّ الطفلة التي لم تنبسْ بكلمة شكر، كنتُ من ايام بعيدة مؤمناً أنّ على المرء خدمة َالناس من دون ان يتوقّعَ منهم كلمة الشكر. كونها تُفرِغ ُالصنيعَ الجميل من مغزاه الإنساني. وقبل ان اصلَ الى نهاية البيوت توقفتُ امام نافذة. كانت منشغلة ًبغسل الصحون وكلتا يديها ملطخة بالوغف، نظرتني بمحبة. فجأة ً وقف الى جواري صديقي الشاعر الذي عاد من سديم موته قبل سنتين، فرمتْ عليه نظرة لا مبالاة لكنْ مسكونة بابتسامة باهتة. همستْ، وهي تخاطبني:/ ما أجملَ شعرَك وقد تناثرت خصلاتُه كما لو انّها تريدُ الانطلاق / ابتسمتُ لها، تاركاً اياه امام النافذة تتحاورُ عيونهما. اعرف ان الموتى لا يُمكن ان يُحبّوا وينشغلوا بالحب. سيتذكرهم الأحبة والأصدقاء وحسب. تجاوزت ُ صفّ البيوت التي تتشابهُ مثل التوائم. ولمّا يزل النهرُ العفن الى جواري. فمضى الى مكان ما. وابتعدتُ عنه الى.... أين.. وكلّ / اين / كامنٌ في قاع الغيوب.
......
بداية ثانية
وإذ يأخذُني الدربُ بمطلق انطلاقته اراني في صقع غريب لا اعرف فيه احداً ولا زقاقاً ولا بيتاً، لكنّ شارعاً طويلاً احتوى قامتي، سرتُ بمحاذاة محلاته الباذخة البضاعة ارنو الى واجهاتها. توقفتُ امام دار السينما الواسعة، وعزمتُ على ولوجها من دون أن اعرف إسم الفيلم. ولأنّ الوقت كان مساءً فالسينما صيفية. في اقصى الوسط وجدتُ مقعداً فارغاً فتهالكتُ عليه فامتصّ تعبي. كانت السماء فوقنا محتشدة بالنجوم. وكان القمرُ قرصاً ألّاقاً من الوهج الذهبي. وبدأ عرضُ الفيلم / نوع المغامرات الحربية / حرب بأسلحة غريبة، الصواريخ والقذائفُ تخرج من الشاشة لتنفجرَ في فضاء الصالة الواسع وفوق الرؤوس. كانت الإنفجارات قوية مخملية لاتؤذي ولا تضر، بل تتبدّدُ وتستحيل أدخنة ملونة، وتتوزّعُ الأنظارُ بين الشاشة وفضاء الصالة العلوي. لا ادري كيف مضت ساعتان من الوقت، كنتُ كمن اعيشُ خللَ حُلم ٍعجائبي. فمذْ ايام طفولتي الفقيرة المنسية لم الج صالة سينما صيفية، ولم يسبق لي أنْ رأيتُ قذائف الموت تخرج من الشاشة لتنفلق فوق رؤوس الجمهور من دون ضحايا. بل أن بعض الجمهور تركوا مقاعدهم فتوغلوا في فضاء الشاشة الكبيرة أثناءَ لحظات الهدوء. وركبني الفضولُ لأتركَ مقعدي واشارك اؤلئك الحمقى في حماقتهم. ووجدتُني في شارع مُطلّ ٍ على نهر عريض. الأبنية ُمن حولي منهارة ٌ مُتداعية. وثمة اناس كانوا اقرب مني الى الماء يرنون الى السماء التي تخترقها بين لحظة واخرى طائراتٌ غريبة الأشكال. وثمة َبضعُ حوامات اشبه بالهيلوكوبترات تحوم على الماء. مللتُ من الوقوف وغادرتُ مكاني وانا لم ازل داخل الشاشة. تغلغلتُ في دروب ضيقة. احسستُ اني اجري فوق سطوح المباني، واتسلقُ الأسيجة منتقلاً من سطح الى سطح. السطوحُ استحالت الى مقاه ٍ ومطاعم مكتظة بالناس، فما كانوا يُحسّون بالحرب، بل لم يكن لها ايّ اثر هنا. وينبغي عليّ ان اترك السطوح، ولا ادري كيف نزلتُ الى الشارع الذي كان كورنيشاً طويلاً متصلاً بالنهر. ومن مكاني اطللتُ على الماء انظر الى الحوامات الطائفة. اقترب مني شرطيٌّ بعد انْ نزل من حوامة يحمل سمكة ذهبية متوسطة الحجم وناولني اياها، سمعته يقول: /هي سمكتك الهاربة اعدناها اليك / تناولتها منه شاكراً اياه. كانت السمكة بلونها الغريب تتحرّك متألمة ًبين اصابعي القابضة عليها. عدتُ ثانية تجاه النهر وقد اختفى الشرطي، وبكلّ قوتي رميتُ بها الى النهر، الى مثواها الأزلي، الى اهلها وعيالها ووطنها المائي. ابانئذ كنتُ الج طريقاً يرمينى خارج المدينة. مدينة غير موجودة اصلاً، هي من لحمة الخيال وسُداه......
.......
بداية ثالثة
والآنّ أين أنا؟ داخلَ كابينة في شارع ما، الى ميمنتي وميسرتي كابيناتٌ اُخرٌ. اجلس امام منضدة عليها اوراق بيض واصباغ وفرشٌ مختلفة الالوان. وثمة ورقة اخرى تنطوي على تعليمات، عرفتُ من مضمونها: انّ عليّ أن ارسُم ثلاثة رسوم حسب رغبتي، وبعد الإنتهاء ادخلها في جهاز مُلصق بالجدار وانتظر. وتجيئني النتيجة بعد دقائق: شهادة تقدير، وجائزة مالية ان حازت صوري على الجائزة الأولى. انا مارستُ الرسم في طفولتي وحظيتُ بجوائز. وليس امامي خيارٌ آخر غير الرسم، فلا يُفتح باب الكابينة الّا بعد ذلك. تناولتُ ورقة وفرشاة عرض ريشتها / 1 سم /. سأرسُم وردة كنتُ رسمتها في سنتي الأخيرة من الإبتدائية. حمراء بحجم حمامة. ما زلتُ اتذكر كلّ تفصيلاتها: السويقَ الأخضر وورقتين على اليمين واليسار. لقد طاوعتني الفرشاة ُ على الرغم من عرضها، وقد ابدعت في رسم التفصيلات الصغيرة بحجم رأس الدبوس. يا لها من زهرة خلّاقة ألّاقة مجسّمة كأن بوسعي أن امسكها وارفعها من فوق الورقة. وضعتها جانباً وبدأتُ بالرسم الثاني. سوف اضع على الصفحة البيضاء ورقة خريفيّة يُراوحُ لونُها بين البني الحائل والأصفر. كنتُ قبل عشر سنوات حملتها من الشارع وكتبتُ عنها قصتي: / احلامٌ مستحيلة / عنوان مجموعتي القصصية الثالثة. تنطوي على حافات منكسرة حادة / ثُمّ كائناتها البارزة والمخفية التي لا تبينُ الّا اذا عرضتَها للضو ء: خطوط تتلاقى وتتنافر، مربعات ومستطيلات واهلة ونجوم وافراس تعدو ومبان ٍ مستقيمة ومائلة وطيور وبشر وحيوات اخرى لا اسم لها. وكان اللونُ والفرشاة ملك أصابعي. الهي: ما ابهاها، تُمكنُ رؤيتُها عياناً وقراءتُها قصّة ً. وضعتها جوار الزهرة. والآن ما الذي ينبغي رسمُه وقد اقفرت ذاكرتي. اوه ؛؛ تذكّرتُ عمتي في القرية قبل ان ادخل المدرسة وقد نسجتْ سجادة / بطول ثلاثة امتار وعرض مترين / استغرقت في انجازها ثلاثَ سنين ونيفاً. مازالت مخلوقاتها طيَ ذاكرتي. انماط من المنمنمات والتفاصيل الهندسية الدقيقة، والزهور صغيرها وكبيرها والفراشات التي لا وجود لها الّا في سديم الأحلام، والطير والشجر والبيوت، والنجوم والماء ووجوه حيوات مألوفة ولامألوفة. والألوانُ متناغمة متآخية، واللون الواحد طبقات، كلّ طبقة كأنها لون مستقل. رسمتُ سجادة عمتي في لحظات. لا أدري أية لحظات جنون ابداعي عرتني في تلك الكابينة وبسرعة دفعت الرسوم الى الجهاز الغريب. وانتظرتُ، فالبابُ لا يُفتح الّا بعد ظهور النتيجة، وجاءت كما توقعت بدرجة امتياز. واغلق بعدئذ بابُ المسابقة. وقرأت تلك العبارة التي لن انساها: نشهد ان الفنان /.... / يستحقُ مرتبة ممتاز جداً، فقد منحنا ثلاثة رسوم تميّزت بالمهارة اللامتناهية لوناً وخطاً، تكتظُ جميعاً بالحيوية والدينامية والحرفية الواعية.
ثمّ اندلق من الجهاز مظروفٌ ينطوي على مبلغ من المال يُسعفني على تمشية اموري. وغبّ ان رميتُ جسدي خارج الكابينة أخذني الشارعُ خارجَ المدينة، ثمّ جرت قامتي خارج سياق الزمان والمكان، صرتُ شيئاً أشبه باللاشيْ.
......
بداية رابعة
المسرحُ احد غواياتي المستديمة. شغفتُ به مثلَ السينما، لكنه جاء متأخراًغبّ تراكمَ لديّ الوعي. هنا ايضاً مكانٌ لغزٌ بلا جذور، قاعة ٌطويلة في نهايتها مسرحٌ لم تفتح ستارتُه بعدُ، تبعتُ العامل المسؤول عن مساعدة الداخلين فيدلّهم على اماكنهم. اجلسني في الثلث الأول من الصالة، كان على جانبي اربعة ُ مقاعد خالية، ولم اكد اضع اليتي على الكرسي حتى انفتحت ِ الستارة ُ وبدأ العرض بظهور يوسف العاني الذي لم يزل طري العود والإهاب يكادُ صوتُه يصل الى نهاية القاعة. كنتُ كلفاً بمسرحياته ورأيتُها جميعاً إمّاً حضوراً او على التلفاز. كان يقوم بدوره في / البيك والسائق / عن مسرحية لبريخت. ثمّ تتالى ظهورُ بقية المُمثلين أعرفُ عدداً منهم. وبضمنهم الممثلة المُبدعة عواطف سلمان ابنة البصرة الرائعة. تألق الجميعُ في ادائهم. فجأة ً ترك العاني خشبة المسرح وتبعته عواطف، توغلا في الصالة، جلس هو على يميني وجلست هي على يساري. بعد هنيهة انسللنا خارج الصالة،لا ادري حتى اللحظة كيف خرجنا. لكننا جلسنا في مقهى باحدى الطبقات العليا، المطلّ على خشبة المسرح وما زال هو وهي يؤديان دوريهما. استغربتُ الأمر، كيف يصحّ ان يكونا / في ذات الآن /هناك وهنا؟ همس العاني بلهجة ساخرة: / انت بدائي متخلف يا صديقي، لقد تغيّر الزمنُ. نحنُ الآن في عالم آخرَلا يتصل بعالم أيام زمان. نستطيع ان نكون عدة اشخاص في عدة امكنة / كدتُ اختنق من الضحك، لكنّه بادرني: / اتعرفني حقاً؟ / هززتُ رأسي: / من خلال مسرحياتك، لكني رأيتُك في احدى امسيات اتحاد الأدباء ايام الزعيم قاسم، كنت تجلس جوار الشاعر سعدي يوسف بانتظار بدء ندوة حوار بين القاص شاكر خصباك والدكتورعلى جواد الطاهر حول زيارتهما الى الاتحاد السوفيتي. كنتما في ميعة الشباب مورّدي الوجهين ونجماكما في تصاعد. انت في المسرح وهو في الشعر. امّا عواطف فأنا اعرفها من أيام البصرة يوم كانت عضواً في المسرح القومي البصري.اذاً لستما غريبين، ولا ادري ايّ مصادفة رمتني الى عالمكما. مع ذلك فأنا سعيد لهذا اللقاء الجميل / وقبل ان نُكمل شرب فناجين قهوتنا اختفى كلّ شيْ الصالة والمسرحية وكلا الفنانين اللذين كرّماني بلقائهما. عدتُ الى الصفر، الى بداية اخرى. تُرى ما الذي ينتظرني ثمة؟
..............
بداية خامسة.
اجلسُ وحدي في مكان، ربّما كان مقهى أو مكتبة وامامي كتاب ابيض الغلاف عن المسرح. مرّ الى جواري شخص عابر، سمعته يقول: / ما اروعَهُ من كتاب، ينبغي عليك ان تجد له جلاداً شفافاً يحفظ غلافه. / اجبتُه من دون ان ارفع رأسي نحوه: لديّ الغلاف، لكني سأجلب انبوبة الصمغ من بيتنا، واقوم بتجليده، شكراً على النصيحة. مضى هو ليُكملَ طريقه، ومضيتُ لجلب الصمغ من بيتنا. اعرف اني احتفظ به في احد رفوف المطبخ. حين وقفتُ امام بابنا وجدتُه مفتوحاً وترامى اليّ من الداخل ضجيج اصوات. ليس من عادتنا تركه مفتوحاً. وما أن صرتُ في الصالة حتى فوجئتُ برجلين وامرأتين وخمسة اطفال: بنتين وثلاثة بنين. سألني احدُ الرجلين: / مَنْ انت؟ / كاد دمي يحترق. اجبتُه: / ومّنْ تكونون؟ / ردّ احدُهما بعشوائية داعرة: اصحاب البيت./ لم اتحملْ سخريته وقررت ان ابحث عن شيْ اردع به هذين الأحمقين. وقبل أن اغادر الصالة دلفت زوجتي الى البيت حاملةً اكياساً من الطعام والفاكهة انزلتها من سيارة التاكسي. وحين لمحت على وجهي علائم الغضب همست: / ما بك يارجل، انهما اخوا جارنا ابي عبدالله، قدما من الكويت، ولأنّه وعياله يعودون مساءً من بغداد كان عليّ أن ادعوهم الى بيتنا. أظنّ انهما يمزحان معك / كان مزاحهما ثقيلاً / قلت بهدوء. عدتُ اليهما معتذراً، وقمتُ بمساعدة زوجتي في وضع اسياخ الكباب وارغفة الخبز والفاكهة في عدد من الصحون. وافرغت علبتي اللبن الخاثر في وعاء عميق مخففاً اياه بالماء ليُشرب مع الطعام.... بعد ذاك هيأنا لهم الشاي. طال جلوسنا حتى المساء. واخبرت زوجتي ابا عبد الله بوصول اخويه وعيالهما، عانقني امام الباب واسبغ عليّ من الصفات ما لا قبل لي بها. مع هدايا لأولادي وقد عادوا مُتعبين من المدرسة لكنهم سعدوا بما جلبه لهم عمو عبد الله. ولا ادري حتى هذه اللحظة اغلّفتُ كتابي واستعملتُ انبوب الصمغ ام لا؟ لكن الوضع اقفل ابوابه ووجدتُني اهم على بلوغ مكان آخر هو لغز ينتظرني.
.............
بداية اخيرة
هما البحرُ والجبلُ مكمنا الخطر وقطاع الطرق والقراصنة والموج والعاصفة والتيه والضياع والظمأ والغرث.
حيناً اكون في قرارهما العميق، وحيناً اكون بينهما تتعطل / ابانئذ / إرادتي. لذلك هجرتُ كليهما الى / اين / الكائن في اعالي المُصادفة. تتنقل بي من مشهد الى سواه لا صلة بينهما. تارة اهيم بعشوائية على غير بصيرة، ومرّة اكونُ في سوق مفتوحة على اناسيها من شتى الأجناس، أتوقفُ امام سودانيين يصطفون جالسين مُسندين ظهورهم الى جدار مديد.هذا يبيع مزامير قصب، وذاك يقدّمُ شراباً اخضر اللون في اقداح خشب عليها خطوط ٌ ملونة وصور بالغة الصغر، وآخر يعرض للسابلة عدداً من السلال الملوّنة صغيرة وكبيرة. لكني أقعيت امام بائع الشراب فملأ لي منه قدحاً بحجم الإستكانة، كان طعمُه مرّاً،لكني تجرعّته حتى آخره ومنحته عشر كرونات سويدية فالتقطها مني فرحاً ظاناً انها ذهب. بيد ان بائع المزامير توسل اليّ ان اشتري منه. التقطتُ واحداً ومنحته عشر كرونات أيضاً. وبدون ان يدري اعدتُ المزمار الى مكانه وغادرتهما. لكني الآن في مدرسة يهودية. كان التلاميذ ينظرونني مستغربين. جئتُ وانا احمل امانة من صديق الى خطيبته اليهودية. وحالما دلفتُ الى غرفتها عرفتني فاسرعت تستقبلني. قلتُ: / انها منه /.../ اعرف، لقد اتصل بي قبل مجيئك / وقبل ان نجلس فتحت العلبة فبان خاتمٌ وثلاثة اسورة ذهب. قبلتها وضمّتها الى صدرها. وقبل أن تفيق من سورة سعادتها كنتُ غادرت الغرفة، وإذْ أقطعُ المسافة بين غرفتها والباب الخارجي سارحاً ومُفكراً / بصديقي وخطيبته/ بين انظار الطلبة، كان ينبغي أن آخذ َ اجازة اكفُّ خلالها عن الترحال بين / أين....واين / وما اكثر الأمكنة الثاوية بين طيّاتهما؛؛


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.