جماهير الهلال في عيد... فريقها يُحقق إنجازًا تاريخيًا جديدًا!    انفجار عنيف يهز محافظة تعز والكشف عن سببه    انقلاب وشيك على الشرعية والرئاسي.. المجلس الانتقالي الجنوبي يتوعد بطرد الحكومة من عدن وإعلان الحكم الذاتي!    "الوجوه تآكلت والأطفال بلا رؤوس": الصحافة الامريكية تسلط الضوء على صرخات رفح المدوية    "طوفان زارة"....جماعة إرهابية جديدة تثير الرعب جنوب اليمن و الأجهزة الأمنية تتدخل    فعلها في العام 2019...ناشطون بالانتقالي يدعون الزبيدي "لإعلان عودة الإدارة الذاتية"    نقابة الصحفيين تستنكر الحكم الجائر بحق الصحفي أحمد ماهر وتطالب بإلغائه    سانشيز افضل مدرب في الليغا موسم 2023-2024    غوندوغان سيتولى شارة قيادة المانيا بلون العلم الوطني    لامين يامال افضل لاعب شاب في الليغا    دموع أم فتاة عدنية تجف بعد عامين: القبض على قاتل ابنتها!    برعاية السلطة المحلية.. ندوة نقاشية في تعز غدًا لمراجعة تاريخ الوحدة اليمنية واستشراف مستقبلها    منتدى حواري في مأرب يناقش غياب دور المرأة في العملية السياسية    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    غوتيريش يدين بشدة هجوم إسرائيل على مخيم للنازحين في رفح    بالإجماع... الموافقة على إقامة دورة الألعاب الأولمبية لفئة الشباب لدول غرب آسيا في العراق    ضربة معلم تكسر عظم جماعة الحوثي وتجعلها تصرخ وتستغيث بالسعودية    استمرار النشاط الإيصالي التكاملي الثاني ونزول فريق إشرافي لأبين لتفقد سير العمل للفرق الميدانية    خبر صادم: خروج ثلاث محطات كهرباء عن الخدمة في العاصمة عدن    الحوثي يسلّح تنظيم القاعدة في الجنوب بطائرات مسيرّة    الرئيس الزُبيدي: تدهور الأوضاع يحتّم على الانتقالي مراجعة قراراته    مجلس الوزراء السعودي يجدد رفضه القاطع لمواصلة انتهاكات الاحتلال للقرارات الدولية    استشهاد طفل وإصابة والده بقصف حوثي شمالي الضالع    ارتفاع أسعار النفط وسط ترقب المستثمرين لبيانات التضخم واجتماع أوبك+    تدشين مشروع توزيع "19"ماكينة خياطة على الأرامل في ردفان    الهلال السعودي ينهي الموسم دون هزيمة وهبوط أبها والطائي بجانب الحزم    الحكومة اليمنية تبحث مع سويسرا استرداد عرشين أثريين    فلكي يمني يحدد موعد أول أيام عيد الأضحى المبارك وبداية أيام العشر    عاجل: الحكم بإعدام المدعو أمجد خالد وسبعة أخرين متهمين في تفجير موكب المحافظ ومطار عدن    الزُبيدي يؤكد على أهمية المخيمات الصيفية لخلق جيل مناهض للفكر الحوثي    الوحدة التنفيذية : 4500 شخص نزحوا من منازلهم خلال الربع الأول من العام الجاري    بعد تجريف الوسط الأكاديمي.... انتزِعوا لنا الجامعات من بلعوم السلفيات    انعقاد جلسة مباحثات يمنية - صينية لبحث مجالات التعاون بين البلدين وسبل تعزيزها    وزير الإعلام: مليشيا الحوثي تواصل استغلال مأساة المخفيين قسراً للمزايدة السياسية    انطلاق أولى رحلات الحج عبر مطار صنعاء.. والإعلان عن طريقة الحصول على تذاكر السفر    شاهد .. وزير الزراعة الحوثي يعترف بمجلس النواب بإدخال الحوثيين للمبيدات الإسرائيلية المحظورة (فيديو)    استعدادات الأمة الإسلامية للعشر الأوائل من ذي الحجة وفضل الأعمال فيها    أكاديمي سعودي: التطبيع المجاني ل7 دول عربية مع إسرائيل جعلها تتفرعن    برشلونة تودع تشافي: أسطورةٌ تبحث عن تحديات جديدة وآفاقٍ أوسع    الإعلان عن تسعيرة جديدة للبنزين في عدن(السعر الجديد)    العكفة.. زنوج المنزل    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    استشهاد جندي مصري في الحدود مع غزة والقاهرة تحذر من المساس بأمنها    تدشين دورة إدارة البحوث والتطوير لموظفي وموظفات «كاك بنك»    8200 يمني سيغادرن من مطار صنعاء الى الأرضي السعودية فجر غدا الثلاثاء أقرأ السبب    معالي وزير الصحة يُشارك في الدورة ال60 لمؤتمر وزراء الصحة العرب بجنيف    مغادرة أول دفعة من الحجاج جواً عبر مطار عدن الدولي    سلطان العرادة وشركة غاز صافر يعرقلون أكبر مشروع لخزن الغاز في ساحل حضرموت    دعم سعودي جديد لليمن ب9.5 مليون دولار    - 45أعلاميا وصحفيا يعقدون شراكة مع مصلحة الجمارك ليكشفون للشعب الحقيقة ؟كأول مبادرة تنفرد بها من بين المؤسسات الحكومية منذ2015 فماذا قال مرغم ورئيس التحرير؟ اقرا التفاصيل ؟    الثاني خلال أسبوع.. وفاة مواطن نتيجة خطأ طبي خلال عملية جراحية في أحد مستشفيات إب    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    عالم يمني يبهر العالم و يكشف عن أول نظام لزراعة الرأس - فيديو    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    وهم القوة وسراب البقاء    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملك أتلانتس في سانت هيرتس
نشر في المصدر يوم 29 - 08 - 2010

ما لم يقله فيلم "تايتنك" هو أنّ البحّار الرئيسي الذي دشّن حركة السفينة للمرة الأولى والأخيرة في تاريخها، رغم شهرته الهائلة في الملاحة، قد ارتكب سلسلةً من الأخطاء مثّلت التأويل الوحيد، والنهائي، للكارثة. استمرّت أخطاؤه في التتابع: لقد وفّر عددا محدودا من قوارب النجاة، واستبدل الطاقم المحترف بأفراد أقل كفاءة، وفي الطريق لم يكترث لتلك التقارير الخطيرة حول جبال جليديّة عائمة تقترب من خط سير السفينة. (هل تذكّركم هذه الأخطاء الجوهرية بأمرٍ ما؟). لقد كانت النتيجة: انكسرت السفينة التي لا تغرق، وغاصت في المحيط الأطلسي إلى الأبد. أما على طريقة مخرِج فيلم "تايتنك": بينما السفينة تغرقُ في المُحِيط، على مقربة من الشواطئ الشرقية الأميركية، ظلت الفرقة الموسيقية تعزِف غير آبهةٍ بالكارثة. كان الماء يخترق المقصورات العشر: الواحدة تلو الأخرى، بينما ظلّت الجوقة تصدحُ لحنها في غياهب المُحِيط. (وبمناسبة الفيلم، هل يذكّركم أيضاً بأمر واقعي مماثل؟)

ستغرقُ الفرقة الموسيقية، في فيلم التايتنك، ويضرب ثلاثة بحّارة – في فيلم "بعد غد"- كؤوسهمبصوتٍ عالٍ تحت وطأة البرودة الكونية الهائلة، في مكان هو أبعد ما يكون عن مكان غرق تايتنك: نخب مانشستر يونايتد. ستختفي فرقة التايتنك، وتغرق سفينة البحّارة الثلاثة في مشهد شبيهٍ بغرق جزيرة أتلانتس وملكها اللاهي. خيطٌ دقيق يجمع هذه الاندثارات: أبطال المأساة، أولئك الذين يتّجهون إلى الكارثة وهم مبتهجون، وربما: يقهقون. يقيمون فرحهم الخاص على أنقاض عالمٍ يندثر تدريجيّاً، غير مبدين ولو الحد الأدنى من حساسية البشر العاديين. البشر الذين لا يسرّهم أن يكونوا أبطالاً، بل يفرحهم أن يكونوا خائفين، قلقين، وجبناء. فهم مشدودون إلى الغد بآمال عميقة: الحب، واللذة، والإنجاز. بينما تنشدّ جزيرة أتلانتس إلى سرّها الأخير في قاع المُحيط، بفعل اللامبالاة، الاستغفال، وعصابةٍ على العينين.

بعد هذه الخلفية الكلاسيكية، دعونا نتحدّث فيما له علاقة. تعرضت المستشارة الألمانية لحملة ضارية بسبب سفرها إلى جنوب أفريقيا لمشاهدة فريق بلادها وهو يحقق انتصارات كروية كان من شأنها أن أعادت الثقة، عالميّاً، بكل ما هو ألماني: من كرة القدم إلى الغواصة دولفين. اللحظة، بالنسبة لألمانيا، فاصلة: فالصين تعلِن رسميّاً تخطّيها حاجز ألمانيا كأكبر دولة مصدّرة في العالم، والبنوك الألمانية تترنّح بفعل دخول دول مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال في حزام الانهيارات المتلاحقة. إذ كشفت الوقائع عن حقيقية مالية تقول: إن البنوك الألمانية هي أكبر المستثمرين، والدائنين، للمؤسات المالية في هذه الدول. إذن، من غير المناسب بالمرّة، يعتقد الألمان، أن تسافر المستشارة إلى قعر العالم – جنوب أفريقيا- لتتابع مباراة كرة قدم على نفقة الخزينة العامة. إن إنغيلا ميركل تختلف مع هذا المنطق، بكل تأكيد. ولديها مبررات استراتيجية عميقة تتعلق بالنتائج التي يمكن أن تكسبها الأمّة الألمانية على الصعيد المالي والثقافي العابر للحدود من خلال زيارة ذكية كهذه. وبالرغم من كل ما يمكن أن يُقال فإن ميركل لم تنجُ هذه المرّة. قبلها ساركوزي، الذي فكّر في الاستجمام على ظهر يخت فخم يملكه أحد أصدقائه. كيف، إذن، يسمح رئيس دولة تعاني من صعوبات مالية جمّة لنفسه أن يسترخي على هذا النحو السماوي الأزرق، وعلى نفقة شخص من الممكن أنه يفكّر الآن في استغلال علاقة ودّية كهذه في تمرير عمليات قذرة: كالاستحواذ على شركات منهارة، أو التهرّب الضريبي. هكذا فكّر منتقدو ساركوزي.

يُسأل رئيس وزراء أوروبي، مؤخّراً، عن سبب لجوئه لاستخدام القطار، درجة ثانية، كوسيلة تنقّل. يجيب: إنها الأزمة المالية التي تعاني منها بلدي. وحين يُقال له: فلماذا إذن تذهب إلى الدرجة الثانية، وأنت رئيس للوزراء؟ فيجيب براحة ضمير: لأن القطار ليس فيه درجة ثالثة! هذه أمثلة ثلاثة، عاجلة، لا تنتمي بالمرّة إلى "خير أمّة أخرجت للناس". أعتذر للسيد القارئ عن هذا الاستفزاز المقصود، فأنا وهو نعلم أن النص القرآني ابتدأ بفعل الزمان: كنتم.

إن آلية عمل التفكير الأوروبّي تدور حول فكرة عقلانية مفادُها أن عدم إكتراث النّخبة لمعاناة الملايين سينمّي حساسية عدوانية تجاه هذه النخبة التي سينظر إليها بوصفها كائنات طفيلية تعيش في مستعمرات اجتماعية مثالية، لدرجة أنها أصبحت غير قادرة حتى على تقمّص الحد الأدنى من الشعور بالأسى والحزن لمآزق المجتمع. سلوك من الممكن، بصورة عملية، أن يفتّت الظواهر الاجتماعية الإيجابية إلى غير رجعة، وفي مقدمتها التكافل الاجتماعي والشعور بالآخر. لقد صرح بيير شتاينبروك، وزير المالية الألماني، قبل عامين: إن التضامن الاجتماعي يتوقّف على التزام الطليعة/ النخبة بأن تكون القدوة الحسنة. لم تقل صرخته معنى جديداً بالنسبة للمجتمع الأوروبي، إذ كانت مجرّد رجّة لبدهيّات الوعي العام في أوروبا. ففي ذلك العالم المتفوّق، أخلاقيّاً، ينظر إلى النخبة السياسية بحسبانها "ممثل جماهيري" أو حارساً للمال العام. ويُعتقد على نحو واسِع أن النخب السياسية لا تتمتع بأي عبقرية استثنائية، بل قد تكون ذات منسوبات ذكاء متواضعة للغاية كما هو حال الرئيس الأميركي السابق، على سبيل المثال. وكما هو الحال لدينا، أيضاً، بيد أننا لا يزال يباغتنا سؤال السيناتور بول فندلي : من يجرؤ على الكلام!

في مؤتمر لندن، يناير 2010، الذي انعقد لأجل اليمن لم يسافر السيد الرئيس، فناب عنه سكرتيره الكبير (الذي يسمى على نحو سطحي برئيس الوزراء). وبعد سبعة أشهر سافر السيد الرئيس، شخصياً، إلى العاصمة الإنجليزية في زيارة لم يعرَف عن تفاصيلها سوى حضوره حفل تخرّج نجلِه: خالد، من أكاديمية سانت هيرتس العسكريّة.

صحيح أن التخرّج من أكاديمية عسكرية ليس بالأمر الكبير، فالأمر لا يتعلّق بفهم نظريات آينشتاين في النسبية الخاصة ولا بمقترحات كرِيك المبكّرة حول بنية الدي إن إيه. فضلاً عن أكثر ما توفّره دول العالم الثالث هو ذلك الحشد المهول من خريجي الأكاديميات العسكرية الذين يعجزون في الأوقات الحرجة عن طرح مشاريع "خروج كبير"،أو حتى خروج متواضع، من الأزمات التي تعصف بالأمّة على الصعيد الاقتصادي وحتى الأمني. إلا أن اختياراً كهذا لا يعنينا. كذلك لا ينبغي طرح تساؤلات مبتذلة، في موضوعة تخرّج السيد نجل السيد الرئيس، على شاكلة: هل كانت هذه الزيارة، برمّتها، على نفقة الخزينة العامة؟ وهل كان نجل السيد الرئيس يدرس على نفقة الخزينة العامة، وتحت أي بند نال هذه الفرصة السلطانية في بلد ينص دستوره على حتمية تكافؤ الفرص، وتحدد التشريعات دور رئيس الدولة بحسبانه: الموظف الأكبر، الذي عليه أن يغادر السلطة بعد فترتين انتخابيتين. كما تمنع الأخلاقيات الدستورية، والدينية، الجمع بين السلطة والثروة، أو استخدام السلطة بطريقة غير مشروعة لأجل توفير فرص حياة لسلالة متفوّقة جذرياً عن تلك الفرصة التي ينعم بها بقية السكّان، وفي الوقت ذاته لا يمكن أن تُعزى مثل هذه الفرص الفائقة وبصورة آمنة ومنطقية إلى استثناءات ذهنية ومعرفية خاصة بأفراد السلالة.

كما قلتُ، فإن هذه تساؤلات مبتذلة، بحق، في مجتمع ليس لديه خبرة أخلاقية أو معرفية مع طرق تفكير أو محاسبة كهذه. فالمجتمع اليمني ليس فقط مجتمعاً غير أوروبي، بل هو أيضاً: غير مجتمع. فعلماء الأنثروبولوجيا يربطون فكرة المجتمع بفكرة سابقة عليه: الخير العام. وإذا كان توفّر مجتمع ما لا يفضي في الأخير إلى حيازة الخير العام فإن هذا المجتمع قيد التشكّل، أو الدراسة، هو مجتمع "غير مجتمع".

من الممكن أن ندس ملحوظة بأقل قدر من اللؤم في هذه المساحة: في رحلة رئيس الوزراء، لأجل اليمن، إلى لندن فإن الأخ د. مجوّر العولقي لم يستطع السفر من خلال مطار صنعاء، دون أن يبدي أحدٌ من أصحاب العزومة أي تقدير لكونه رئيساً لحكومة دولة مستقلّة عضو في الأمم المتحدة، يُقام مؤتمر لندن في الأساس على شرفها. لقد اضطر المسكين إلى السفر عبر مطار دُبي وعلى متن طيران غير اليمنيّة، في وقتٍ كان فيه نجل السيد الرئيس يتدرّب في واحدة من أهم أكاديميات التعليم العسكري في بريطانيا، ويُسافر إليها مرّات عديدة في العام عبر مطار صنعاء. يبدو أن الرحلة التي دشّنت تخرّج النجل، وليس اليمن، كانت فخمة جدّاً، ولاهوتيّة لدرجة العاصفة، أكثر من رحلة قيْل أنها لأجل اليمن .. اليمن الذي، منذ التأسيس، لم يدخل في أي أكاديمية من فئة السبعة نجوم ولو على سبيل الفُرجْة.

عندما عاد حسني مبارك، الرئيس المصري، إلى مصر من رحلته العلاجيّة في هايدلبيرغ، ألمانيا، أصدر حزمة من الأوامر الرئاسية. كان على رأسها: منع أي مسؤول في الدولة من نشر أي تهانٍ على نفقة الحكومة. وهو ما فعله السيد الرئيس صالح عقب عودته من لندن. لقد تأثر الرجلان بأخلاقيات المجتمعات النظيفة، على طريقة " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للطهطاوي، بيْدَ أنّ تأثر الرئيس المصري دام لفترة كانت كافية لمنع نشر أي تهانٍ وتبريكات على نفقة الخزينة العامة.لقد كفّ كل حملة المباخر وكدابين الزفّة (بالتعبير المصري) عن ممارسة هذا اللون من الابتذال. وفي اليمن، كانت صحيفة "الثورة" تجلبُ مسؤولي الدولة من كل مكان للحديث حول التوجيهات الجديدة التي مثّلت "مشروعاً عظيماً للتنمية المستدامة" طبقاً للافتتاحية. لقد كان من ضمن عناصر هذا المشروع العظيم الكف عن نشر التهاني والتبريكات بمناسبة رمضان أو أي مناسبة أخرى على حساب الخزينة، والدعوة إلى الحد من النفقات العامة. إن أمراً كهذا لم يمنع "الثورة" أن تستمر في نشر التبريكات والتهاني لنجل السيد الرئيس بمناسبة تخرّجه من الأكاديمية العسكرية سانت هيرتس. كانت التبريكات واضحة، وفخمة، ومذيلة بأسماء الوزراء والوكلاء وشلّة من أبناء رجال الأعمال لا انتهاء لها. لوهلة أحسستُ أني أتمشّى في موكب شيعي مهيب على موعدٍ مؤكّدٍ مع عودة الإمام المهدي، المنقذ الأكبر، من غيبته الكُبرى. أو ويكأنني في لحظة كونية هائلة تشققت فيها الأرض وخرج من قعرها "أبو إبراهيم" وها إنه الآن يطوف بخيله حول الأهرامات، كما يعتقد الدروز، يسوق الناس إلى الميعاد، إلى خلاصهم الوشيك!

لقد عاد سيف الإسلام خالد، وقبله عاد بالسلامة سيف الإسلام أحمد، وقبل ذلك بعقود ليست بالبعيدة عاد سيوف الإسلام سالمين إلى مملكتهم الإلهية، في النسخة المتوكلية الإماميّة من اليمن. لا جديد في حياة الجمهورية سوى أنها غالباً ما تكون نسخة مزيدة وغير منقّحة من الاستبداد الذي يسبقها. فقد نقلت صحيفة الغارديان البريطانية، قبل أسبوع، تحت عنوان "أبناء صدام في السلطة" عن نوري المالكي قوله: كنا خصوم صدام حسين في الأمس، عندما كنا في المعارضة، والآن نحنُ في السلطة نفعل ما كان يفعله صدام حسين؛ إذ يبدو أن طبيعة نظام صدام حسين هي المثال (التراكم السياسي الوحيد) الذي نستلهمه. كان واضحاً، وصريحاً، وهو يقول هذا المعنى للصحيفة المرموقة. هذا المعنى، الذي لا يحتاج لعقل فائق لكي يشير إليه، هو جوهر الفعل السياسي اليمني: تحوّل الدولة المتوكّلية إلى سلاليّة صالحيّة. الأولى باسم الحق الإلهي، والثانية باسم الحق الجمهوري. وبرغم المسافة الشاسعة بين الله والجمهورية إلا أن الحقّين ينحدران تجاه الإنسان ذاتِه: مالك العبيد. كان الإمام يخاطب الجماهير برعايا الإمام، بينما طوّر السيد الرئيس من اللغة قليلاً فأصبحوا "أبنائي". هذا، بالرغم من أن الفكرة الجمهورية تنص على أنه ليس من حق ممثّل الجماهير، الرئيس، أن يدّعي أبوّة المواطنين، لما ستفرضه فكرة الأبوّة من تداعيات سلوكيّة وأخلاقية ضد ديموقراطية. في الحالين، الإمام والرئيس، ستكون الفريضة الوحيدة واجبة الاتباع هي الانصياع الطوعي لمولانا، والدعاء لعِرْقه النقي بالديمومة والخلود. هذه التداعيات لا مكان لها في النظام الجمهوري، بل هي إحدى تجلّيات الدولة الإلهيّة، المتجاوزة للنظام البشري المحض. ولا أحسبُ إلا أن الجماهير تريد أن تعيش دولة بشرية صرفة لا علاقة لها بالماورائيات المتفوّقة ولا تخضع، قسراً، لسلالة استثنائية.

تخرّج النجل من أكاديمية عسكريّة، ولا ندري من الذي سيتخرّج لاحقاً، ولا من أي أكاديمية ستشرقُ جبهته المستنيرة. لكننا ندري أن الذين سبقوه في حفلات التخرّج الفخيمة يدركون مثلنا أن السيد عبد الملك الحوثي – الذي يتّهم بأنه تدرّب على أيدٍ إيرانية، رغم أن الأيدي البريطانية ليست أكثر نظافة أخلاقية وإنسانية – يسيطر الآن على ثلاث محافظات، ويحاصر أرحب في صنعاء ويدور حول حجة، ولا يكترث كثيراً لترتيب هذه الأكاديميات على الصعيد العالمي طبقاً للمقياس الأسباني أو الكوري الجنوبي، أو حتى مقياس هارفارد. فقبل أشهر قليلة وقف مجموعة من الشباب، الذين آمنوا بسيدهم الحوثي على طريقتهم الخاصة، في وجه عناصر المهمّات النوعية الذين جاءت بهم السعودية من المغرب والأردن وباكستان، طبقاً لمنشورات إعلامية كثيرة تحدّثت عن هذا الأمر.وللمقارنة الظالمة، بعيداً عن الحوثية التي ليست سوى عملية رياضية مقلوبة لطبيعة النظام الرسمي الراهن: لا يتجاوز تعداد القوات المسلّحة اليابانية 330 ألف عنصر، برغم كونها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم وذات تاريخ مليء بالصراعات الدموية: احتلت منشوريا، في شمال الصين، وهاجمت الفليبين، واخترقت أميركا في بيرل هاربر، وتعيش علاقة متوتّرة للغاية مع كوريا الشماليّة. ومثلها ماليزيا، التي تقع في مركز جنوب شرق آسيا، ومرّت بمرحلة شديدة القسوة من التوترات الداخلية والخارجيّة، إلا أن وزير التعليم العالي الماليزي يتحدث فقط عن نصف مليون ماليزي ابتعثَ للدراسة في الخارج في تخصصات تهمّ الأمة الماليزية ومستقبلها، ولا علاقة لها بترتيبات جلالة الملك المفدّى، ورقعة الشطرنج التي يسهر عليها بينما جزيرة أتلانتس تغرق رويداً، رويداً، رويداً .. إلى قاع المُحيط.

من غير المستبعد أنك، عزيزي القارئ، تشعر بالإنهاك الآن. فلقد استحضرتُ اسم اليمني جوار : ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا، ماليزيا، اليابان، أميركا. في حين كان من اللائق، لتحري الطرح الموضوعي غير المستفز، أن أكتفي بالحديث عن الدولة المتوكّلية بحسبانها الأب الروحي، وبيت الإلهام الدائم، للجمهورية الصالحيّة. وأن أبارك لسيف الإسلام خالد بمناسبة تخرّجه من أكاديمية عسكرية إنجليزية باستخدام اللغة ذاتها التي استخدمها مدّاحو البلاط المتوكّلي الهاشمي قبل عشرات السنين: شلّوت ابن سعادتك، يا صاحب الجلالة، دفعة إلى الإمام!

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.