لعديد اعتبارات، معظمها مرتبط – بدرجة أساسية- بدواعي البقاء وتأمين عوامل الاستمرار، يحلو للنظام الحاكم في اليمن العمل وسط بيئة مشبعة بالأزمات تكاد لا تعرف للاستقرار سبيلا، هذه البيئة المتأزمة تساعد من جهة النظام على خلق أوضاع سياسية محكومة عادة بشروطه، لجهة إمساكه بمعظم خيوط اللعبة السياسية وأدواتها، وقد أكسبته التجربة الطويلة مهارة إدارة أزماته وتوجيه دفتها وفقاً لمصالحه، دون أن يتحمل نتائج وتداعيات تلك الأزمات. ومن جهة ثانية فهي تجعل معارضي النظام عرضة للاستهداف المستمر، من خلال تصويرهم وكأنهم جزء من المشكلة(الأزمة) وليس من الحل. أضف إلى ذلك أن دوامة الأزمات تشغل المعارضة عن مشاريعها الوطنية وتُأخرها، وتدفع بها إلى مربع الانتظار لتظل في حالة ترقب دائم لما يجيء من السلطة، وعلاوة على ذلك، فإن تلك البيئة المتأزمة لا تدع فرصة كافية لشركاء النظام في الخارج للتفكير في البدائل بقدر ما تُضيق عليهم الخيارات، وتزيد من مخاوفهم تجاه أي تغيير مرتقب، وعوضاً عن توجيه دعمهم ومساعداتهم صوب المواطن لخلق شروط الاستقرار في البلد للنهوض به، توظف تلك المساعدات في مؤازرة النظام وإطالة عمره بذريعة أن " تكلفة الحفاظ على النظام أقل بكثير من تكلفة سقوطه". وبذلك يكون النظام قد تغلب على مشكلة نقص الموارد المحلية والخوف من نضوب بعضها بتحويل أزماته الداخلية إلى مصدر دخل خارجي لا ينضب يمده بأسباب البقاء.
ورقة إيران الورقة الشيعية أو ما يسمى "مواجهة المد الرافضي" هي إحدى تلك الأوراق التي تحولت بمرور الوقت إلى معضلة حقيقية في ملف أزمات النظام، وقد خرجت عن نطاقها المحلي إلى الإقليمي بعد أن جرى استدعاء بعض الأطراف الخارجية إلى ساحة الصراع في الداخل، لقد تحولت الأزمة الداخلية- بعد أن جرى صناعتها بتأن- إلى بؤرة صراع إقليمي عبر وكلاء وسماسرة، وغدت ورقة سياسية يمكن المناورة بها عند الضرورة، ويمكن أيضاً استدعاء بعدها الخارجي والتلويح به عند اللزوم مادامت المصلحة متحققة من وراء ذلك. وفي هذا السياق جاءت زيارة علي لاريجاني (رئيس مجلس الشورى الإيراني) لليمن، ومثلت مفاجأة غير متوقعة للكثير من المراقبين في ظل الأجواء المتوترة التي خيمت على علاقة البلدين خلال الفترة الماضية، لاسيما وأن صنعاء كانت قد اتهمت طهران في وقت سابق بدعم حركة التمرد الحوثية التي خاضت مع القوت الحكومية خمسة حروب حتى الآن، بالإضافة إلى اتهامها بتورطها مع تنظيم القاعدة في اليمن لزعزعة أمنه واستقراره وصولاً للإضرار بمصالح دول الجوار. بيد أن الاتهام الأكثر إثارة كان اتهام السلطات اليمنية لطهران بتأييد الحراك السياسي الجنوبي وتشجيع مطالبه الانفصالية.
في ظل تلك الأجواء المتوترة جاءت زيارة لاريجاني لليمن، وجاءت كذلك في أعقاب تغير ملحوظ في السياسة الأمريكية تجاه طهران، إذ أخذت تنحو صوب التقارب وفتح قنوات الحوار بين الدولتين (لكنها ربما تسوء بعض الشيء بعد أحداث الشغب التي شهدتها إيران عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، كما جاءت زيارة المسئول الإيراني الرفيع لليمن في وقت شهدت فيه العلاقات الإيرانية الخليجية نوعاً من التوجس والحذر على خلفية التقارب الأمريكي الإيراني نفسه الذي تتخوف منه دول الخليج وتخشى من أن يكون على حسابها، في الوقت الذي كانت قد خرجت فتاوى دينية مكفرة لأتباع المذهب الشيعي الجعفري من بعض تلك الدول وهو ما زاد الأجواء توتراً. والأهم من ذلك أن زيارة المسئول الإيراني لليمن جاءت عقب صدور تصريحات (تطمينات) أمريكية وخليجية واضحة بدعم وحدة اليمن واستقراره.
لكن كيف تغير الموقف اليمني فجأة تجاه طهران؟ وما الذي أدى إلى ذلك التقارب الفجائي بين البلدين بُعيد تلك الحملة الإعلامية التي شنها الإعلام الرسمي وبعض الصحف المقربة من السلطة ضد ما أسموه بالخطر الرافضي والتدخل الإيراني في اليمن؟
اللعب على المكشوف المرجح أن الحكومة اليمنية لم تقنعها تلك البيانات الصادرة عن حلفائها الغربيين ومن محيطها الإقليمي والتي أيدت فيها" يمن مستقر موحد ديمقراطي"، ويبدو أنها لم تطمئن كثيراً إلى صدقية تلك المواقف وجديتها، بدليل تشديد وزير الخارجية اليمني (في اجتماع وزراء دول مجلس التعاون) على ضرورة ما أسماه ب " وحدة المواقف، على نحو لا يتيح لأي طرف الفرصة للإضرار بالمصالح المشتركة أو تهديد أمن واستقرار الدول السبع!"، وهو كلام يحمل تهديداً مبطناً لدول الجوار الخليجي بأن عدم ثبات مواقفها تجاه أزمة الجنوب وما سيترتب عليه من الإضرار بمصالح اليمن سيقود بالنتيجة إلى الإضرار بأمن واستقرار الدول السبع(الخليجية). وكانت دعوات للتقارب والحوار(أو التفاوض بمعنى أصح) بين الحكومة اليمنية والمعارضة الجنوبية في الخارج أطلقتها بعض دول الإقليم برعاية أمريكية كما قيل زادت من توجس النظام وشكوكه حيال ما يعتقد أنها مؤامرة خارجية تستهدف وحدة البلد، وربما تستهدف أيضاً الإطاحة به واستبداله بلاعبين جدد ضمن مشروع إعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة للمنطقة، وربما فكر النظام أن حلفاءه باتوا متبرمين منه ومن كثرة مشاكله، وصاروا ينظرون إليه باعتباره عبئاً ثقيلاً مرهقاً لميزانياتهم، وأن تكلفة الحفاظ عليه باتت باهظة ومجحفة في آن. تلك المخاوف، وتعاظم شعور النظام بأن ثمة مؤشرات خارجية تُنبئ بتخلي شركائه عنه وتركه نهباً لمشاكله وأزماته، ربما كانت أحد الدوافع التي ساقته وشجعته على استدعاء الورقة الإيرانية الشيعية إلى الساحة اليمنية، ومحاولة التلويح بها في وجه حلفائه وشركائه، لاسيما القريبين منهم ممن يعتقد بتورطهم المباشر في تغذية الأحداث في الجنوب.
الخطر الذي يمكن مجابهته الورقة الإيرانية وتسويق الخطر الشيعي الجاثم على المنطقة هي الورقة ذاتها التي لعبتها الولاياتالمتحدة- وما تزال- لابتزاز وترويض حلفائها في المنطقة العربية عموماً ومنطقة الخليج بوجه خاص، ويحاول اللاعب اليمني استنساخ الفكرة ذاتها وإعادة تسويقها مجدداً مع جيرانه في حدود قدراته وبما يخدم أهدافه، ويأمل أن تتحول تلك الورقة إلى فزاعة لإرهاب الجيران والضغط عليهم باتجاه التضييق على معارضة الخارج والحد من حركتها ونشاطها، وكذا وقف التمويل الذي يتلقاه الحراك من مؤيديه في تلك الدول من أبناء الجاليات اليمنية المنتمين للمحافظات الجنوبية.
ويبدو أن الرسالةوصلت وفُهمت، وتُوجت بعقد قمة يمنية سعودية تعمدت حكومة صنعاء أن تسبقها بتصريحات للناطق الرسمي كرر فيها الاتهامات اليمنية السابقة لإيران بالعمل على الإضرار بالمصالح اليمنية، وتهديد أمن واستقرار البلاد، من خلال تشجيع حركة التمرد في صعدة ومد يد العون لها، وتدريب عناصرها في الخارج وتزويد الحركة بالسلاح، لكن الاتهام هذه المرة تحاشى ذكر الحكومة الإيرانية صراحة واكتفى بالإشارة إلى جماعات ومرجعيات دينية شيعية تقوم بذلك، في محاولة من الحكومة لعدم إثارة غضب إيران خاصة بعد زيارة لاريجاني لليمن التي لاقت ترحيباً يمنياً كبيراً، ولتبقى شعرة معاوية مع إيران لاستخدامها كورقة تهديد أو فزاعة عند الطلب. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد كانت تلك التصريحات للناطق الرسمي ضد إيران، والتي استبقت زيارة الرئيس للمملكة، بمثابة رسالة تطمين لدول الجوار وللجانب السعودي على وجه خاص، فحواها أن اليمن مازال في صف جيرانه، وانه لا يمكن أن يستبدل بهم غيرهم، وأنه لن ينجرف صوب المحور الإيراني المقابل لمحور الاعتدال، وان علاقته بالمملكة هي علاقة خاصة لا يمكن أن تتأثر بعلاقته مع إيران أو مع غيرها، وأن اليمن في نهاية المطاف هو مع محور الاعتدال في المنطقة، لكن ذلك لا يعني بالطبع وقف انفتاحه على إيران، كما لن يشكل عائقاً له في استثمار علاقته تلك وتوظيفها في خدمة مصالحه متى ما اقتضى الأمر، خاصة عند إحساسه بالخطر، وعندما يشعر بأن الآخرين يحاولون اللعب من وراء ظهره بأوراقهم الخاصة. وأكثر من ذلك، حملت تلك التصريحات أن النظام يبدي استعداده للانخراط في جبهة مقاومة ما يسمى بالمد الشيعي الرافضي على جبهة صعدة، في مقابل أن تكف تلك الأطراف عن اللعب ببعض الملفات التي صارت تمثل تهديداً مباشراً لوحدة البلد ولمستقبل النظام السياسي ذاته. وما يشير إلى ذلك بوضوح توجيه أصابع الاتهام لإيران مجدداً - في سياق جريمة اختطاف وقتل بعض الأجانب في صعدة- بسعيها الحثيث إلى تحويل شمال اليمن أواليمن ككل إلى منطقة نفوذ لها بحسب تصريحات العميد الركن يحيى محمد عبدالله صالح، الذي أكد على تقارب فكر الحوثيين من القاعدة، وتلقيهم دعماً لوجستياً وفكرياً من الخارج بهدف مهاجمة الأجانب وإضعاف الدولة، وبعبارة أخرى فإن اليمن يقاتل في صعدة لمواجهة الخطر الحوثي الشيعي المتحالف مع القاعدة المدعوم من إيران، والتي تسعى لتحويل اليمن إلى منصة إطلاق باتجاه دول الجوار كما يقال، وتلك مهمة لن تكون بلا مقابل وإن كانت داخل الاراضي اليمنية.
إيران العدو الصديق لكن ذلك لن يمنع الحكومة اليمنية من تعزيز علاقاتها بإيران وعقد الصفقات معها من خلال دعوة مسئوليها لزيارة اليمن. وفي هذا السياق فقد أثمرت زيارة وزير الخارجية الإيراني لليمن (جاءت الزيارة في إطار دعوة اليمن لإيران للمشاركة في الاجتماع الوزاري لاتحاد التعاون الإقليمي للدول المطلة على المحيط الهندي) عن اتفاقه مع الرئيس صالح بالعمل معاً على مكافحة القرصنة، وموافقة الجانب اليمني على رسو البوارج الإيرانية في ميناء اليمن بغية صيانة السفن التجارية الإيرانية العابرة منه، كما بادر الرئيس اليمني بتقديم دعوة رسمية لرئيس الجمهورية الإيرانية أحمدي نجاد لزيارة اليمن، وتقرر بان يقوم مساعدو وزيري الاقتصاد الإيراني و اليمني ومسئولو لجان المتابعة المشتركة بتصميم خارطة طريق للتعاون الثنائي بين البلدين للسنوات الأربع القادمة، كما بحث وزير النفط والمعادن أمير سالم العيدروس خلال لقائه بصنعاء وزير خارجية إيران منوشهر متكي مجالات التعاون بين البلدين في مجالات النفط والغاز والمعادن وصناعة البتروكيماويات وإنتاج الطاقة.
ووصف منوشهر متكي العلاقات بين إيران و اليمن بالجيدة، و قال إن هذه العلاقات تشهد مساراً متنامياً خلال الأعوام الأخيرة بعد تبادل الرسائل والوفود والزيارات بين البلدين .
وفي مبادرة يمنية لإظهار حسن النوايا تجاه طهران بما يسهم في تحسين وتطوير علاقة البلدين قررت محكمة يمنية استئنافية متخصصة في قضايا أمن الدولة والإرهاب في العاصمة صنعاء إلغاء الحكم الابتدائي الصادر بحق 13 إيرانياً ضبطت بحوزتهم شحنة حشيش تزن نحو 3 أطنان من المخدرات كانت في طريقها إلى المملكة العربية السعودية عبر البحر العربي، وقضى منطوق الحكم الاستئنافي بإتلاف المخدرات التي ضبطت بحوزة المتهمين ومصادرة القارب وترحيل المتهمين.
وقالت الشعبة الجزائية المتخصصة إن اختصاص القضاء اليمني لا ينعقد لوقوع الجريمة خارج إقليم الدولة. وهكذا نجد أن اليمن تستدعي الخطر الشيعي الإيراني إلى صعدة لتعقد حلفاً بينه وبين الحوثيين لابتزاز دول الجوار، ثم تستدعي الخطر نفسه إلى ساحة الإرهاب لتعقد بينه وبين القاعدة حلفاً مشابهاً لابتزاز المانحين وشركاء اليمن في الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي تعقد علاقات صداقة وتبرم صفقات مشتركة مع هذه الدولة (الخطرة) في مجالات اقتصادية وأمنية بعيداً عن مؤثرات الشركاء وشروطهم، وبمعزل عن مصالحهم، تلك هي السياسة التي تلعب على كل الحبال، وتجيد استثمار المخاطر واللعب بها وتحويلها إلى استثمارات وموارد دخل بصرف النظر عن ما إذا كان الشعب سيظل يئن طويلاً تحت وطأة أزمات لا نهاية لها.