هذه الرسالة الثالثة من اليابان، طيها انطباعات جديدة أتحدث فيها عن أماكن زرتها وأناس قابلتهم وشيءً من التاريخ والتقنية الحديثة. في الرسالة الأولى كان الحديث أشمل عن اليابان الأرض والإنسان، أما في الرسالة الثانية كان الحديث عن زيارتي للخارجية اليابانية وبعض الجهات، ثم عن بعض الملامح الثقافية للشعب الياباني.
يستفهم السيد هاروتا هيروكي، السكرتير الثاني في سفارة اليابان في صنعاء، عن اهتماماتي – إلى جانب البرنامج الرسمي - وما أريد التعرف عليه في عشرة أيام في اليابان. قدرت أن تعرفي على إدارة مرور طوكيو – واحدة من أكثر مدن الأرض ازدحاما بالسيارات، فكانت الزيارة لأحدث مراكز التحكم المروري تقنياً في العالم، كان من محاور الرسالة الأولى. ثم طلبت زيارة وزارة التربية والتعليم لأعرف كيف يصنع اليابانيون أجيالهم. لدي اهتمام كبير ومتجدد بشؤون التعليم وتنشئة الأجيال، ربما لخلفيتي التعليمية، أو لمعاناتي من مشاكل ومساوئ التعليم في كل صوره في البلاد.
قبل عامين كان قليل جداً من العرب يعرفون عن اليابان الكثير، باستثناء معرفة البلد عن طريقة منتجاته الأصلية المتنوعة. لكن زيارة أحمد الشقيري إلى اليابان وحلقاته الرائعة قدمت اليابان بطبق ذهبي للعرب، وربما لجمهور الشباب بشكل خاص. كانت الحلقات مليئة وغنية ومتنوعة – زاد عدد السياح العرب لليابان والزوار من العامة والخاصة، بحسب دبلوماسي ياباني في صنعاء.
اليابانيون يشبه بعضهم بعضاً بالنسبة لنا وهكذا الصينيون، وهكذا نحن بالنسبة لهم. والصورة العامة أن الشعب الياباني شعب متجانس لا عرقيات فيه ولا طوائف ولا قبائل، ربما لأنهم ظلوا في جزيرتهم قروناً دونما اقتحام من مهاجرين أجانب من عرقيات أخرى، كما هو حال أميركا مثلاً. يقودنا هذا الفهم إلى أن الهوية اليابانية متأصلة بعلاقة ثلاثية بين الإنسان والثقافة والطبيعة أو لنقل الجغرافيا.
حروب إثبات الذات اليابانيون لم يكونوا ضحايا دائماً أو مسالمين دائماً، فبعد الإصلاحات الجوهرية الشاملة في البلاد في النصف الثاني من القرن ال19، والانتعاش الاقتصادي وبناء أسطول عسكري بحري قوي، برزت رغبة اليابان، ربما في الدفاع عن هويتها، بغزو كوريا عقب استقلالها من الصين، ثم استعادة واحتلال جزر كانت تحت سيطرة الصين. وحاربت روسيا مطلع القرن العشرين وانتصرت بدعم بريطاني، ثم حاربت القوات الألمانية، مستغلة الحرب العالمية الأولى، واستولت على جزر كانت تحت سيطرتها. حاول اليابانيون أن يخضعوا كل الصين لسيطرتهم، وفرضوا كثيراً من مطالبهم على الأخيرة قبل أن تتحول حرب اليابان مع الصين عام 1937 إلى حرب شاملة هدفها فرض سيطرتها الكاملة على الصين، وإجهاض قوى التطور التي أخذت تنمو فيها وخصوصاً القوة العسكرية.
ذلك تاريخ، وكان التمدد الياباني هو نوع من الحماية الذاتية لهوية بلد وأمة، تعرضت من قبل لكثير من الغبن. هوية المجتمع الياباني آنذاك وتماسكه اللذان حققا كل ذلك، وأعادا اليابان إلى عالم اليوم عقب الهزيمة الساحقة من قبل قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية واحتلال أميركا لها لسبع سنوات، تبدو هذه الهوية اليوم أكثر حيرة.
من أجل الهوية حدثني السيد ميكي تداكازو مسؤول التعليم الأساسي والثانوي في وزارة التربية والتعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتكنولوجيا، أنهم يواجهون تحد كبير مع الجيل الجديد ويشعرون أن هناك انفصام عن الهوية اليابانية. الطفل الياباني اليوم لا يتمتع بنفس الحماس تجاه القيم الوطنية والثقافية وكل ما يتعلق بهوية الأمة. تم تحديث نظام التعليم في اليابان قبل أكثر من عقد لمواجهة هذا التحدي.
وعطفاً على اسم الوزارة الذي أختزل مهام نصف مجلس وزراء دولة عربية. في اليمن لدينا ثلاث وزارات للا تعليم، ووزارة للثقافة وأخرى للرياضة وأخرى للاتصالات والتكنولوجيا. بذخ في تعدد الوزارات وتخلف المهام.
هذه الوزارة تقدم منهجاً موحداً للتعليم الأساسي في البلاد، وتتيح فرصاً واسعة لكل مدرسة أو مقاطعة أن تضيف ما تريده من مواد تنمي القدرات الإبداعية عند النشء. يتعلمون عموماً لكي يسهمون، لا لشيء أخر.
يبدو أن أزمة الهوية والأجيال تبدو قضية عالمية فالأميريكان في الغرب واليابان في الشرق وما بينهما من أمم وشعوب تعاني من ذات الأمر بنسب متفاوتة، وهي العولمة لا سواها.
قرص الشمس في المربع الأبيض الذي يمثل العلم الإمبراطوري الياباني لم يعد يثير مشاعر الانتماء عند الأبناء كما كان يفعل من قبل. التنافس على الوظائف، ضيق الفرص بعد أتمتة العمليات في قطاعات التصنيع، وتناقضات الحياة العصرية، والحياة الافتراضية، وهوليوود بأفلامها، وغير ذلك – تدفع بآلاف الشبان إلى الانتحار سنوياً في اليابان. وان كانت ثقافة الانتحار في الموروث الياباني تعد أمراً مألوفاً ويعتبر نوع من أنواع تطهير الروح، التي اعتراها في زحمة الحياة.
جدار الحياة من باناسونيك رتب مدير مركز باناسونيك في طوكيو استقبالاً رسمياً لي، حيث استقبلني في بوابة المبنى الرئيسية مع مساعدته، وعند دخولنا الصالة الرئيسية إذ بشاشة عرض عملاقة توسطتها عبارة ترحيبية ويليها اسمي وعلى جانبي الشاشة العلم اليمني والعلم الياباني. كان شعوراً رائعاً عندما تشعر باحتفاء من نوع خاص دون توقع مسبق وممن لا يعرفك.
بعد استعراض سريع على منتجات باناسونيك الأحدث والتي لا تزال قيد التطوير، والتركيز الكبير على الحفاظ على الطاقة والمنتجات الصديقة للبيئة. لكن ما أدهشني اختراع جديد أسموه "لايف وول" أو حائط الحياة. وهو كيف تحول جدار منزلك إلى شاشة عرض تلفزيونية ومكتبة رقمية وصور حائطية وألعاب أطفال. ويمكنك أن تفتح أكثر من شاشة على هذا الجدار، فالأطفال مثلاً يرسمون ويلعبون وأنت تتابع الأخبار أو برنامجك المفضل وأخر يقرأ كتاب من على كراسي الجلوس. كل شيء يعمل بإشارة من اليد، وأنت جالس على مقعدك الوثير.
رأيت في باناسونيك تقنيات مذهلة حول الطاقة الشمسية، وأجهزة الحاسوب والكاميرات الرقمية، وكاميرات التصوير التلفزيوني، واختراعات جديدة لشاحنات كهربائية للسيارات التي تعمل بالكهرباء – تشبه مضخات البنزين – وأجهزة صرف صحي وكثير مما سوا ذلك.
ضيافة كرم الضيافة في اليابان يبدأ بانحناء ثم ابتسام فسيل من الكلمات التي لا أفهمها. صديقي اليمني الدكتور مروان ظمرين، أحد علماء وباحثي الطاقة الشمسية في أحد أبرز الجامعات اليابانية تولى الترجمة وشرح لي كثيراً من الأمور السلوكية.
في حفل عشاء رتبته جمعية الصداقة اليابانية اليمنية بمناسبة الزيارة – كان الحديث شيقاً والطعام الشعبي شهياً ومتنوعاً. لم أنسى كيف كان تحدث هؤلاء عن اليمن وحبهم لها ولأهلها. منهم من عمل في اليمن من قبل ومن ينتظر زيارتها. لكن حين قدمت لي إحدى السيدات التي قدمت لحضور حفل العشاء من مدينة بعيدة جدا عن طوكيو، حين قدمت لي حذائي لألبسه، شعرت بامتنان لا يوصف. النساء هنا يقدسن أزواجهن ويحترمن الضيوف. لم يلطف شعوري بالخجل إلا توضيح الدكتور مروان الذي قال لي هذا أمر اعتيادي هنا، وجزء من إكرام الضيف.
أبدى أعضاء الجمعية اهتماماً كبيراً بالإسهام بأي مشاريع تنموية في اليمن، وكان الدكتور مروان قد اقترح أن يعمل الجميع على الإسهام في إنشاء محطة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في جزيرة سقطرى. كنت أتمنى لو أن محافظ حضرموت أو أي من المتشدقين بالاهتمام بالجزر اليمنية يمتلك شيئاً من حماس هؤلاء.