الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    جماعة الحوثي تعلن استهداف مدمرة أمريكية وسفينة أخرى في البحر الأحمر    بمشاركة أهلي صنعاء.. اتحاد الخليج لكرة القدم يعتمد لأول مرة بطولة الأندية الخليجية    ولي العهد السعودي يصدر أمرا بتعيين "الشيهانة بنت صالح العزاز" في هذا المنصب بعد إعفائها من أمانة مجلس الوزراء    هيو جيو كيم تتوج بلقب الفردي وكانغ تظفر بكأس الفرق في سلسلة فرق أرامكو للجولف    رابطة أبوظبي لمحترفي الجوجيتسو توقع مذكرة تفاهم مع واحدة من أكبر الشبكات الإعلامية في الصين    رئيس مجلس القيادة يغادر عدن ومعه اثنين من الأعضاء    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    وصول شحنة وقود لكهرباء عدن.. وتقليص ساعات الانطفاء    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    البريمييرليغ: السيتي يستعيد الصدارة من ارسنال    بريطانيا: ليس الوقت مناسب للسلام في اليمن وهذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    زلزال كروي: مبابي يعتزم الانتقال للدوري السعودي!    الوكيل مفتاح يتفقد نقطة الفلج ويؤكد أن كل الطرق من جانب مارب مفتوحة    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    ارتفاع طفيف لمعدل البطالة في بريطانيا خلال الربع الأول من العام الجاري    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    المنامة تحتضن قمة عربية    أمين عام الإصلاح يبحث مع سفير الصين جهود إحلال السلام ودعم الحكومة    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    بريطانيا تؤكد دخول مئات السفن إلى موانئ الحوثيين دون تفتيش أممي خلال الأشهر الماضية مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الولايات المتحدة: هناك أدلة كثيرة على أن إيران توفر أسلحة متقدمة للمليشيات الحوثية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة إلى غرناطة وجولة داخل قصر الحمراء
نشر في المصدر يوم 27 - 08 - 2009


أنْ تنامَ في الظَّلام وتَصْحُوَ في الجنة!

ذلك ما حدث لي صبيحة يوم صيفٍ حار، في بلد لا تعرفُ الشمسَ المحرقة إلا لماماً. بعد أداء صلاة الفجر سارعت إلى رشاش الماء، قاصداً شيئاً من الانتعاش والبرودة التي لم أكن أحصل عليها كثيراً في منامي ليلاً؛ ذلك أن تلك البلاد تسمع عن الحرِّ عادة، ولم تتعرف عليه إلا في السنوات الأخيرة، حينما صادفت وجودي فيها.

لولا أن الصباح سرعان ما بادر بالخروج، فإذا بي أفتح شباك نافذتي من الطابق العلوي، لأجد أمام ناظري آكام جبال متصلة، تتكلل بخضرة أشجار الزيتون. وما إن تنتهي قمة جبل حتى أبصر في الأفق أخرى. والزيتون يصطفّ مُخضَراً كأنه يعلن حالة الحرب على اسمرار الأرض. ثمة قطيعُ أغنام في الجوار؛ أنا لست أراه لكني أسمع صوت الأجراس المعلقة في رقاب ماشيته. فحتى القطيع الذي تُنسب إليه صفات الصمت والتبعية، يعلن في هذه البلاد أنه موجود، ولو بأن يرضى تلك الأجراس ضماناً لمعرفة موقعه ووجهته. وهي حالة ربما تتمناها كثرة كاثرة من البشر في بلداننا هذه الأيام. بل لعل بعضها لا يدرك حتى أهميتها، من فرط جهلِهِ بها.

* * *
كان ذلك اليوم موعدي للقاء التاريخ بكل ما يحمله من أمجاد وآلام. فاليوم موعد زيارتي قصرَ الحمراء في مدينة غرناطة بإسبانيا. تلك المدينة التي شهدت بزوغ شمس العروبة والإسلام حيناً من الدهر، غير أنها -كعادتها- أفلت لاحقاً مع الآفلين. وقد صادف موعد دخولي إلى إسبانيا تاريخ انتصار جيش المسلمين بقيادة الأمير طارق بن زياد رحمه الله، في أول معركة في طريق الفتوحات الأوروبية من جهة الغرب، وذلك في يوليو من عام 711 ميلادية.

قبل ذلك اللقاء الموعود كانت لي عدة جولات في المدينة التاريخية مع أحد أشهر قاطنيها. إن شئت الدقة فقل إنه واحدٌ ممن تربطه بالمدينة علاقات عدة.

فهو بالنظر إلى مكان مولده، أحدُ أحفادِ من جعلوا لهذه البلاد شأناً بين البلدان، ما زالت تعتاش على مجده.
وهو بالنظر إلى جنسيته واحدٌ من أبناء البلاد العارفين بمَمَرّاتِها وأزقتها والكثير مما يُحَدّث به حاضرها. ناهيك طبعاً عن معلوماته الوافرة عن تاريخ المدينة وقصر الحمراء تحديداً، بالنظر إلى الأماكن التي عَمِلَ فيها في المجالين الأكاديمي والإعلامي على حد سواء.

وهو بالنظر إلى وضعه القانوني غير قادر على مغادرة المدينة راغماً لا راغباً. إذ هو حبيسٌ فيها، بعدما كان نزيلاً في إحدى زنازينها. إذ مهما باعدت به الخطى في المدينة خلال الساعات المحدودة المسموح له بالخروج فيها، فإنه مضطر للعودة إلى مسكنِه؛ حيث يُفرض عليه الحبسُ المنزلي لضمان عدم فراره من إسبانيا. وما خروجُه من السجن الصغير إلا لظروفِه الصحيةِ التي لا تسمح له بالعيش في زنزانة، ليس إلا.

ذلكم هو الأخ الفاضل والصديق العزيز: تيسير علوني، مراسل الجزيرة الغنيِّ عن أن أعَرِّفه لكم. فكل من كان له صلة بالعالم المعاصر، والذي ارتبط تاريخ تيسير المهني به، لا بد أن يعرف المراسل الأشهر الذي نقل وقائع أولى جولات ما غدا يُعرف ب "الحرب على الإرهاب"، بُعيد ما بات يُعرف لدى أنصار تنظيم القاعدة ب "غزوتي نيويورك وواشنطن"!

* * *
أراد تيسير (أبو أسامة) أن يجعل التجربة حافلة ومسجلة في الوقت نفسه، لكنني أبيت بشدة أن يجلب معه أيَّ كاميرا سواء كانت لصورة متحركة أو فوتوغرافية. ولا أدري سبباً موضوعياً يمنعني من الرغبة في التصوير في الأماكن التاريخية، خاصة تلك المرتبطة بحضارة الإسلام.

ولعلي أعلل ذلك -لنفسي أكثر منه للآخرين- بأن التصوير في العادة أمرٌ يمارسه السواح. أما أنا فأعتبر نفسي من "أهل البيت"، فلا يمكن أن أنتهك حرمة المكان لهذا السبب الشخصي التافه؛ ألا وهو إثباث وجودي في هذا المكان أمام أهلي وأصدقائي. خاصة أنه ليس هناك ما يمكن الافتخار به، بعدما أضحى تاريخُنا التليد مشاعاً للغرباء. وهم حين يزورنه لا يرون فيه إلا الجمالَ المعماريّ والتطورَ الهندسيّ، فيما يغفلون عن الحالةِ الروحانيةِ التي ارتبط بها العلمُ لدى أولئك الرواد في مجالات العلوم تلك.

أثق كثيراً في إمكانية أن أكون مخطئاً، بل وممعناً في الخطأ، لكنني لم أرَ حاجة لإثبات الوجود في القصر المنيف ما دمت في رفقةِ شاهدٍ ودليل، هو في نهاية المطاف صحفيّ عريقٌ مشهودٌ له بالمصداقية في نقله الأخبار!

* * *

البحث تحت ركام التاريخ

أوّل ما يتوجبُ عليك إن أردت الدخول إلى قصر الحمراء في غرناطة أو (الهَمْبْرا – Al Hambra) كما يسميه الإسبان، هو الوقوف ضمن أحد الطوابير المصطفة أمام شبابيك التذاكر. وحيث إن زيارة الحمراء أمرٌ قلَّما يفوِّته سائح (إذا استثنينا من ذلك بعض «العُربان» كما تحلو تسميتهم لدليلي السياحي تيسير علوني) فإن العدد الذي يتمكن من الدخول يومياً أصبح مُحدداً باثني عشر ألف سائح فحسب. وهو قرار أصدرته السلطات الإسبانية لضمان سلامة الموقع التاريخي، خاصة وأن المكان يحتاج إلى صيانة دورية، بعضُها ناتجٌ عن تقادم العهد به، والآخر عن التغييرات التي أحدثها فيه الإسبان بعدما استولوا على المدينة قبل نحو خمسة قرون، وقرروا إبانها إزالة الكثير من المعالم العربية والإسلامية فيها، فكان أن خرّبوا ما عَمّره من كان قبلهم.

ولكن شراء التذكرة لا يعني أنك ستحظى بالدخول إلى الحمراء مباشرة، وذلك بسبب عمليات التفويج التي تتم مع السواح. فالبداية دائماً تكون بجولة قد تزيد على الساعة في "جَنَّاتِ العَريْف"، وهي حدائق ذلك القصر المنيف، والتي لا تقِلّ عنه بهجةً وبهاءً.

في جنات العريف يمكنك أن تبصرَ الذوقَ الرفيعَ والهندسة المعمارية الفذة تجتمعان في تناغم تام. فالحدائق شِيدتْ على شكل غُرفٍ من النباتات الكثيفة، تفصِل بينها أبواب مفتوحة، وتتصل ببعضها بأروقة خضراء من صفوف الأشجار السامقة وأنواع الزهور وثمار الكبّاد. ناهيك عن المياه العذبة الجارية على جوانب السلالم التي بُنيت لتصل كل طابق من طوابق الحديقة الغناء بغيره، ولقد كان من روعةِ التصميم الهندسي أن المياهَ المخصصة للشربِ تجري في قنوات صُمَّمَت بحيث تصِلُ إلى شاربيها باردة طيلة فصول العام، ومهما كانت درجة الحرارة!

لا يستغرب المرء حين يرى ما يراه في حدائق القصر أن تكون الأندلس سبباً في إثراء شعر الغزل في الأدب الأندلسي. فمن سنحت له فرصة التجول في ممرات جنات العريف وتشنفت أذناه بسماع زقزقات عصافيرها تختلط بخرير المياه مع نسمات الهواء الباردة التي تحتضن الخضرة اليانعة، لربما كانت أمنيته – كما تمنيت عندها – أن يختفي أبو أسامة من جواري، لتحل محله إحدى حسناوات ذلك الزمان الغابر. وحيث إن تلك الأمنية لم تتعد الحلم المستحيل في حالتي، فإني لم آبه كثيراً فيما إذا كانت تلك الحسناءُ أميرة عربية من ساكنات القصر، أو جارية قشتالية من وصيفاته! ولا فضّ فو لسان الدين بن الخطيب الغرناطي، إذ قال في موقفٍ شبيهٍ بما تمنيته حينها:

جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَما يا زمانَ الوصْل ِ في الأندلسِ!
لمْ يكنْ وصلُكَ إلا حُلُما في الكرى، أو خِلسَة المختلسِ
ساحرُ المقلةِ مَعْسُولُ اللَّمى جالَ في النَّفس مَجَالَ النَفَسِ
سددَ السَّهمَ فأصْمى إذ رَمَى بفؤادي نبْلةَ المُفْترسِ

* * *
لولا أن الجو الشاعري الذي تعبق به تلك الحدائق لا يعني طبعاً أنها لم تعرف فيه سوى الشاعرية. فتاريخ القصر حافل بالمؤامرات والدسائس والخلافات، خاصة تلك المعنية بشؤون الحكم وتوريث السلطة. وقد كانت نساء القصر – أميراته وجواريه – يبرعن في إغواء أرباب الحكم فيه ليديروا دفة الأمر على مشتهاهن. وقصة آخر ملوك بني الأحمر حافلة بذلك الكيد العظيم، حين أغوت جارية إسبانية حاكِمَ غرناطة، المعروف بلقب "الغالب بالله" والذي تزوجها لاحقاً، أن يجعل الحكم من بعده لابنها هي عوضاً عن ابنه الأكبر من زوجته العربية. وقد تمّ لها هذا، حيث حبس الغالب بالله زوجته وابنه الأكبر (وهو محمد الصغير، آخر من حكم غرناطة لاحقاً). ولكن أهل غرناطة أبوا أن يتولى أمرهم ابن جارية نصرانية، فعملوا على تخليص ابنه العربي مع أمه، وثاروا معه على أبيه، فتولى الحكم، ومع حكمه القصير غربت شمس العروبة عن آخر معاقلهم في تلك الديار.

* * *
ورغم ذلك كله، فإن كلّ شيء في جنات العَريْف يُغريكَ لأن تحب. فلعلك، إن كنت من أهل الهوى، تحب أن تكون مع حبيبةٍ تشتهي الخلوة بها وأنتَ مُشرفٌ على غرناطة، ولعلك، إن كنتَ من أهل الفنّ، تحبُ أولئك الذين خلَّفوا هذه التحفة العابقة بالجمال والفن والذوق الرفيع. ولعلك، إن كنتَ من أهل العَزم، تحبّ أولئكَ الذين شادوا مَجداً تليداً ما زلت تشعرُ بنبضِهِ يجري في دمِك مُتصلاً بمَجْدِهم، ولعلك، إن كنت من أمثالي، تحبّ أن تبكي على ما كان ممن ضَيّعوا ذلك العهدَ الزاهرَ بشهواتِهم، وعلى ما هو كائن مِمّن فرّطوا في عِزهِم المُمكن بخلافاتِهم.

تذكرتُ حينها نزاراً – وما أصدقهُ نزار – حين روى حكايته مع مُرشدَتِه الإسبانية، أو وارثتِهِ كما وصَفها في قصيدة "غرناطة"، قائلاً:

قالتْ هنا الحمراءُ، زَهْوُ جُدودِنا فاقرأ على جُدرانِها أمجادي
أمجادُها؟ ومَسَحْتُ جُرحاً نازفاً ومَسَحْتُ جُرحاً ثانياً بفؤادي
يا ليتَ وارثتي الجميلة أدركتْ أنّ الذينَ عَنَتْهُمو أجدادي
* * *

الدخول إلى قصر الحمراء

مكتوبٌ على من يدخل قصرَ الحمراء أن تتقذى عيناه برؤية قصر كارلوس الخامس، وهو حفيد فيرديناند الثاني وزوجته إيزابيلا اللذين أنهيا دولة بني الأحمر من غرناطة، آخر حواضر الإسلام في الأندلس.

ذلك البناء الشاذ الذي أمر بتشييده في مدخل السور المحيط بالقصر، فكأنما ظنّ أنه سيلغي تاريخ الفاتحين المسلمين بتلك الأحجار التي اصطفت إلى جوار بعضها، سعياً لأن تتجاوز هيبة الحمراء بعلوِّ القامة. ولعلي لست بحاجة إلى الإطالة في الحديث بخصوصه، فقد أوجز أحد الإسبان المعاصرين في وصف ذلك المبنى وبانيه بأن تساءل مستنكراً: "ألم يجد ابنُ العاهرة هذا مكاناً غيرَ الحمراء يضع فيه خريته هذه؟!"

* * *
هناك كثير مما كان قصر الحمراء عامراً به حيناً من الزمن مما لم يعد موجوداً فيه الآن. فالمكان غدا شبه خاوٍ على عروشه. ذلك أن الإسبان بعد سقوط المدينة في أيديهم تقاسموا ما كان في القصر من تحف وأثاث لم تكن أعينهم رأت مثله إلا في القصور التي احتلوها في طريقهم إلى غرناطة.

ولم يكن القصر وحده الذي نالته يد الجهالة والحقد الأعمى حينها، إذ إن الغازين الإسبان اجتمعوا على ما خلفه المسلمون من تراث وكتب ومعارف، مما كان في القصر أو في مكتبات المدينة ولدى دور ورّاقيها، لينصبوا له محرقة أسبوعية كانوا يسمونها محرقة الإيمان (أي إحراق كتب "الكفرة" العرب). وقد كانت تلك المحارق تعبيراً لانتصار خيرهم على شرِّ أجدادِنا. في تلك المناسبة الدورية، كانوا يجمعون كل ما وقع تحت أيديهم من تلك النفائس الأدبية والعلمية ليضرموا فيه النار في إحدى ساحات المدينة، ولم ينتبهوا إلى فداحة فعلتهم، إلا بعدما أحرقوا عشرات الآلاف من الكتب في شتى علوم الدين والدنيا. ولم يكن قد بقي حينها سوى نحو عشرة آلاف كتاب ما زالوا يحتفظون بها في مكتبات متفرقة، وكثيرٌ منها محظور على الجمهور أن يطلع عليه.

أما القصر نفسه فإنه أُهمل لاحقاً، وأمسى مهجوراً، مما شجع الغجر والمتشردين في القرون المتأخرة على سكناه وملئه بكل قذارة حسية ومعنوية.

وكان من حظ إسبانيا -وبالتأكيد تاريخ القصر المنيف أيضاً- أن احتلت فرنسا تلك البلاد في مطلع القرن التاسع عشر، مع امتداد الإمبراطورية الفرنسية التي شملت مساحات واسعة من أوروبا ومنها إسبانيا إبان حكم نابليون بونابرت. ورغم قِصَر المدة التي قضاها الفرنسيون في البلاد، فإن علماءهم ثمَّنوا قيمة القصر الجمالية والتاريخية والمعمارية، فأصدر قادتهم توجيهاتهم بطردِ كل من كان فيه من الحفاة العراة العالة، وفتح المجال لعلماء الآثار للبحث في نفائس القصر وتاريخه.

حين عادت لإسبانيا سيادتها لاحقاً، عاد القصر إليها مجدداً، مع فارق جوهري هو عودة بعض رونقه وبهائه مما أوشك أن يزول على يد من لم يُقدّر قيمته. وذلك رغم أن كل نفائس القصر مما يمكن أن توضع عليه اليد كانت قد استلبت منه مع سقوطه في يد القشتاليين ومن ثم الغجر.

ولعل واحدة من روائع القصر التي قتلها الجهل، هي النافورة الكائنة في "بهو الأسود". وهي نافورة يحيط بها اثنا عشر أسداً في فناء إحدى ساحات القصر. وقد كانت المياه تندفع بشكل دوري من أفواه الأسود في النافورة بحسب ساعات الليل والنهار.. ولكنها تعطلت عن العمل نهائياً عندما حاول بعض الإسبان فهم كيفية انتظام تدفق المياه منها بالدقة الزمنية التي كانت عليها.
ورغم كل ذلك، فإن شيئاً من عبق المكان لا يزال يفوح منه. حسبُك في ذلك تلك النقوش البديعة على جدرانه، أو الزركشات التي تزدان بها سقوفه. ولم تخلُ بعض غرف القصر وحماماته من أبيات شعر تتغنى ببعض أمجاد قاطنيه. والله وحده العالم إن كانت تلك الأبيات تصف الحقيقة حينها، أم أنها -كما هو الحال في كل زمان- وسيلة يعتاش بها الشعراء لدى حاكم لم يشهر سيفه إلا على رقاب معارضيه.

* * *
أكثر الشعارات التي تطالع الداخل إلى القصر والخارج منه هي "ولا غالِبَ إلا الله"، وهو شعار دولة بني الأحمر، آخر دولة للمسلمين في الأندلس. وقد كانت الشعارات تتغير بين تاريخ وآخر بحسب من يحكم المدينة ويسكن القصر. والشعار الذي اعتمده بنو الأحمر، آخر من سكن القصر، يختصر الحقيقة التي غفلوا هم أنفسهم عنها. فتسليم المدينة، التي انتهى معها حكم المسلمين في الأندلس، كان بسبب النزاع على الحكم بين أفراد الأسرة الحاكمة (بني الأحمر) حيث انتهى آخر الخلافات بين أبي عبدالله (محمد الصغير) وعَمِّه الملقب ب "الزَّغَل - أي الشجاع"، إلى تآمر ابن الأخ مع الملك الإسباني فيرديناند الثاني ضِدّ عَمِّه. فنجح التحالف، وخسر المتنازعان بأن استولى فيرديناند وزوجته على المملكة لاحقاً لتثبيت حكمهما على كامل الأرض الإسبانية، بعد قرابة ثمانمائة عام من الحكم المسلم لها.

لا عَجَبَ أنّ أمّ محمد الصغير (وكانت تعرف باسم عائشة الحُرّة)، عندما رأته يبكي وهو مشرف على المدينة بعد توقيعه معاهدة تسليمها للإسبان وخروجهم منها، لم تزد على قولها له:

ابكِ مثلَ النساءِ مُلكاً مُضاعاً لمْ تُحافِظ ْ عَليهِ مِثلَ الرِّجَال ِ!

صدقت والله أيتها الحُرّة، وما أكثرَ أشباه الرجال أولئك في ماضينا وحاضرنا!

* * *

حتى يعود الفردوس

لعل من الجدير بنا -الآن أكثر من ذي قبل- أن ندرس تجربة الأندلس بكل ما فيها من ثراء دراسة خاصة، إذ إنّ تلك البلاد فتحت خلال أقل من عشرة أعوام، ومكث المسلمون فيها ما يقارب ثمانمائة سنة بعدها (711 - 1492 ميلادية). وهي تجربة فريدة في تاريخ البشرية جمعاء، إذ لم يسبق لفاتح أن تمكن من البقاء طيلة هذه المدة، كما أنه لا يعرف عن أحد بقي طيلة هذه القرون في بلد ما أن يرحل ولا يبقى له من ذكر سوى الآثار، وسوء الذكر من شطر أهل البلاد الأصليين.

وما لا يعرفه كثيرون أن عدداً كبيراً من المدن الإسبانية تحتفل سنوياً برحيل المورسكيين (أي المسلمون المغاربة) عن إسبانيا. ومدينة غرناطة تحديداً تقيم ذلك الحفل المعروف باسم «استعادة غرناطة»، وذلك في الثاني من يناير كل عام، وهو تاريخ تسليم المدينة للإسبان. وهي مناسبة يحضرها السياح، يُستعرض فيها انتصار المسيحيين الإسبان على المورسكيين، الذين يتلقون شتائم المشاركين في الاحتفال ولعناتهم. كما أنها تحتفي بمحاكم التفتيش وبالملك فيرديناند وزوجته إيزابيل باعتبارهما قديسين حاربا لأجل الكنيسة.

وقد كان من حظ الزميل تيسير علوني أن نال نصيباً من تلك الشتائم قبيل زيارتي إياه في عام 2004 باعتباره شريكاً في الإرهاب الإسلامي الذي عانته البلاد منذ القرن السابع الميلادي، كما قال رئيس الوزراء آنذاك خوسيه ماريا أثنار.
ناهيك طبعاً عن تتويجهم خروج العرب (الأشرار) من البلاد في الحفل الافتتاحي لأولمبياد برشلونة عام 1992، والذي تزامن مع مناسبة مرور خمسة قرون على خروج المسلمين من إسبانيا.

* * *
عندما خرجت من قصر الحمراء مع دليلي تيسير علوني، كان كلانا يسعى لأن يواري عن الآخر دمعته التي أوشكت أن تفر خلسة.

ولم غريباً أن نبكي -نحن وغيرنا من المسلمين- ذلك الفردوس المفقود. ولكن الغريب أننا نبكيه دون أن يخطر ببال بعضنا أنه لو عاد إلينا الساعة، لأحَلناهُ إلى جهنم حمراء، تماماً كما هو الحال في جُلّ أوطاننا. إذ إننا كما وَصَفنا الشاعر:
ما زلنا نَذكُرُ أندلُسا نبكيها في صُبْحٍ ومَسَا ليسَتْ أندلساً واحِدةً فلكمْ ضيَّعنا أندلسا!

* * *
أسئلة حائرة هي التي بقيت معنا من رحلتنا تلك حول الوجود الإسلامي في الأندلس. وما أنفقناه من وقت في طريق العودة كان محاولة البحث عن إجابات لعلها كانت على مقربة منا.

أول تلك الأسئلة، وربما أعقدها -شعورياً على الأقل- يتعلق بمدى أحقيتنا في المطالبة باستعادة تلك البلاد.
وليس بخافٍ على أحد أننا في خطابنا الثقافي ما فتئنا نذكر الأندلس بحنين الراغب في العودة لامتلاكها مجدداً، باعتبارنا من جعلنا لتلك البلاد شأناً تعتد به.

وما يجعل هذا السؤال أعقد الأسئلة أننا لا ندرك حجم التضارب بين ما نزعمه حقاً لأنفسنا في الأندلس، وبين ما يزعمه صهاينة اليهود حقاً لهم في فلسطين. فرغم تباين المدة التي قضاها كل فريق في البلد التي يزعمها حقاً له، فإن الوضع في الحالين لا يخلو من شبه.

وأزعم أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الإجابة عن سؤال آخر. ذلكم هو: ما الذي ضيعناه في الأندلس حتى تضيع الأندلس منا؟

والحقيقة التي قد لا يختلف عليها كثيرون أننا أول ما ضيعناه في الأندلس كان منظومة القيم التي جاء أجدادنا بها معهم من دار الإسلام. صحيحٌ أننا كنا نمتلك شيئاً من عناصر القوة العسكرية حينها، وهو ما مكننا من اكتساح قوات مملكة يشتكي أهلها من ظلم حُكامها مما سَهّل وسَرَّع من ذلك الفتح.

ولكن الأكيد أن القوة وحدها لا تكفي لأن تبقي الغزاة ثمانية قرون.
وحدها القيم العلوية التي صحبت الفاتحين ومن سار على نهجهم هي التي مكنتهم من البقاء في تلك البلاد. ولذلك فإن تأرجحهم في السيطرة على الأرض ظل معلقاً بمقدار اقترابهم أو ابتعادهم عن تلك القيم. وكل الوقائع التي شهدتها الأندلس في عودة الوجود المسلم فيها بعدما بدأ في الانحسار تؤكد أن من بقي على العهد الأول كان وحده القادر على الثبات على الأرض. فالحفاظ على الأوطان له استحقاقات واجبة. وإذا تراخت الأمم في أدائها زالت أحقيتها في البقاء. وفي قصص الحضارات الفانية دليل على أن الوجود مرهون بالإرادة والقوة والمعرفة معاً، لا بالبنيان الذي يخلفه من مات.

ومن المهم القول هنا، إن من غير المقبول أن نربط القيم ارتباطاً عكسياً بالقوة، فإذا انتصرنا تجاهلناها وإذا أخفقنا تمسكنا بها، كما تفعل بقية الأمم. فقوتنا كانت دائماً وثيقة الصلة بالمبدأ الذي به نستمسك وعنه ننافح. أما ضعفنا فقد كان قريناً لهجرنا فردوس المبادئ التي جادت به علينا السماء. وهو ما لخصه سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما فتح بيت المقدس قائلاً: «كنا أذلَّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام. فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله».

* * *
الآن، وبعد سنوات من تلك الزيارة (كانت في صيف 2004) أظن أن الإجابة تكمن في المستقبل لا الماضي. فسؤالنا عن أسباب ضياع الأمس، ينبغي أن تكون الغاية منه الانطلاق إلى الغد، والجهد المطلوب بذله ينبغي أن ينفق لأجل العودة إلى الريادة لا الوقوف على أطلالها. وإذا أحْسَنّا استخدام أدوات النهضة اللازمة لأية أمة، فإننا لا شك سنسترجع ذلك الفردوس المفقود وغيره، دون حاجة لرفع السلاح أو تسيير الجيوش. ذلك أن فضاء العمل الجاد مفتوح على مصراعيه «لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ أنْ يَتقدَّمَ أوْ يَتأخَّر». فالوصول ليس إلا نتيجة حتمية لمن جدَّ في مسيره إلى الغاية.

وعندها فقط، سنتوقف عن بكائِنا -مثلَ النساء- مُلكاً مُضاعاً... لمْ نحافظ عليهِ مِثلَ الرّجال!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.