(1) خرج الرجل سالما من الموت وكان يكفيه هذا كي يقول: شكرا لهذه الحياة التي وهبت لي ثانية وعليه سيكون إصراري على العودة كي أعمل صالحا فيما تبقى لي من أيام. كان له أن يقول: ها هي ذي الحياة وقد عدت إليها ثانية فلتكن فرصة كي أرمم فيها كل ذلك الخراب الذي دأبت على صنعه طوال التصاقي بكرسي الحكم خلال ثلاثة وثلاثين عاما. كان له أن يقول: هاهي ذي الحياة وتمنحني فرصة ذهبية كي أتطهر، كي أغتسل من ذنوبي ومما اقترفته طوال سنوات حكمي علنيّ أعود كائنا سويّا مثل بقية الكائنات البسيطة العادية وهذا شعب طيب ومتسامح وسيفغر لي في حال لو طلبت منه ذلك. كان له أن يقول: ها هي ذي الحياة وتهبني فرصة أخرى كي أعلن توبتي عن حياة سابقة غرقت فيها وانا أقوم بممارسة الدسائس والمؤامرات والخيانات والحروب الصغيرة والكبيرة وزرع الفتن والثارات كي أجلس أنا في النهاية متفرجا على ما صنعت يداي. كان له أن يقول: هاهي ذي الحياة وتمنحني فرصة جديدة كي أعود شخصا عاديا بلا بطولات مزوّرة ومنهوبة وبلا صور فخمة لا تقول بهيئتي الحقيقية بقدر ما تعمل على إخفاء ماض كنت أود الهروب منه. كان يكفيه ، وهو يفتح عينيه ثانية ليرى إلى نور الحياة وتتابع الأيام الجديدة عليه، وهو يخرج من عملية جراحية هنا ليعود ليدخل في عملية تجميلية هناك ، أن يرفع صوته طالبا الغفران ممن انتهك آدميتهم ودمّر مستقبلهم وحياتهم وشرد أسرهم ويتم أطفالهم ونهب أموالهم ، طالبا الغفران من تلك الدماء التي سالت في الشوارع والأعمار التي تكدست في السجون والمواهب التي استقرت في المنافي ورؤوس الأموال التي لم تجد في وطنها ملاذا آمنا فاختارت الهجرة والإقامة بعيدا بعد أن أغلقت أمامها جميع المنافذ والأبواب. (2) كان يكفيه كل هذا أو بعض منه كي نعيد اكتشاف نقطة بشرية في داخله ولم نكن ننظر إليها جيدا بسبب من انتفاخه الشديد وأفعاله التي لم تترك لنا مجالا كي نشعر أنه بشري مثلنا، وينتمي للناس العاديين الذين خرجوا للحياة بشكل طبيعي ومارسوا طفولتهم وشبابهم مثلنا تماما بل كائن بلا ملامح واضحة تقول إنه قد تدرج مثل غيره من العاديين في سلّم التطور الحياتي وتنقل من مرحلة إلى أخرى بشكل صحيح غير مخالف له. وعلى هذا قلنا واعتقدنا أنه سيعود من تجربته مع الموت كواحد يود تصالحا مع الحياة والناس وكل شيء فيها، ليعيد ترتيب أوراقه المتناثرة وإعادة خلق حلقة وصل مع كل الأشياء التي صنع قطيعة معها. هو ما يسمونه التكفير عن الذنب أو التكفير عن جبل الذنوب المحمولة على ظهره. وعلى هذا الأساس ذهبنا إلى الشاشة التلفزيونية مترقبين شيئا من هذا في خطابه (الهام) بمناسبة عيد الثورة. التصقنا بتلك الشاشة، نحن الأبرياء منتظرين إمساكنا لحظة اعترافه وإعلانه فتح صفحة جديدة في حياته التي عاد إليها من ثانية، منتظرين اعتذارا يليق برجل عائد من الموت، اعتذارا يناسب هيبة اللقاء مع الموت والعودة منه سالما. نحن الأبرياء الُسذج صدقنا أنه قد يفعلها، أن يتواضع قليلا، على الأقل أمام الموت الذي منحه فرصة لا تتاح لكثيرين غيره. صدّقنا أنه قد يفعلها معلنا أنه قد تعب من القتل والحروب اليومية ومن تحويل حياة اليمنيين إلى حلكة دائمة ورقص مع الذئاب الذين يحتمون به. صدقنا انه، في لحظة ضعف إنسانية، قد يطلب العفو والغفران من هذا الشعب الطيب المتسامح الذي ذاق منه ما ذاق. صدقنا انه قد يعلن تنحيه هن السلطة التي هي «مغرم وليس مغنما» بحسب ما يقول دائما، صدقنا انه قد يعلن توقفه عن الرقص على رؤوس الثعابين. لكن لا شيء من هذا حدث.
(3) هو الموت ومن غير الموت يصلح كي يكون مصلحا وواعظا ومرشدا، فيا لتعاسة من أفلت من الموت ولم يمسك بخيط النجاة الرفيع الذي امتد إليه ليعود إلى الحياة ثانية كي يعيد تصحيح ما ارتكبت يداه. وقد كان منهم، ترك الفرصة تنسل من تحته و لم يمسك بالخيط بل أطلق يديه فاتحا النار على الجميع. عاد لينتقم. عاد ليواجه التحدي بالتحدي.عاد كي يواجه شعبا بأكمله خرج إلى الشوارع بحثا عن كرامته وحياته السوية.عاد بنبرة هي أقرب منها إلى الفحيح من الصوت الإنساني العادي. عاد ليسيل الدم الطاهر ثانية في الشوارع وكي يقتنص حياة فتية اختاروا كرامتهم غير آبهين بشيء. عاد لينفذ الوعد الذي قطعه على نفسه مؤكدا على صوملة اليمن وتحويله إلى ساحة مفتوحة للحرب الأهلية والعنف الذي لن يترك حجرا على حجر. وما من رئيس في الدنيا يقول بهذا الكلام غيره. ما من نفسية مشوهة غير متصالحة مع ذاتها يمكن أن يقودها تفكيرها إلى خاتمة كهذه غير تلك النفسية التي يحملها. كأنه رئيس عصابة واختلف مع شركائه فقرر أن ينتقم منهم بطريقته التي لا يعرف غيرها.عقلية تؤكد وتشير باتجاه الطريقة التي كان يتعامل وينظر إليها للبلاد بأسرها متخفيا تحت شعارات مثل «الوحدة أو الموت» وما جاء على شاكلتها مبينا في الظاهر أنه لا يود غير الصلاح للبلاد وهو في حقيقة الأمر لا يبحث إلا عن غنائم أخرى واكتساب مساحات إضافية يمكن أن يمارس فيها تفريغا لغريزة القتل وتنفيسا لشهوة القتل والتدمير. من غيره يستمع للناس وهو تطالبه بالرحيل وأنه يكفي ما فعل طوال ثلاثة وثلاثين عاما سوداء فيرد عليهم ببلاطجته وقوات نجله الخاصة. أنا أو الحرب الأهلية، هكذا هي معادلته التي يبدو حتى بعد عودته من رحلة الموت أنه لا يفهم غيرها ولا يريد سوى تحقيقها ولا شأن له بالنتائج المترتبة عليها. (4) لكن ربما ينجح في تحقيق شيء أو أشياء من كل هذا، لكن هل قرأتم في كتب التاريخ عن رئيس استطاع الانتصار على شعب بأكمله!