[1] في مواجهة الترويج لمزاعم استهداف المذهب الزيدي بعد ثورة سبتمبر؛ يبرز سؤال نظنه مهما وهو: ماذا بقي أصلا من المذهب الزيدي لحظة سقوط نظام الإمامة؟
الجواب عن هذا السؤال سوف يكشف مصداقية أصحابه الذين أرادوا؛ من خلال إثارة السؤال؛ رفع قميص المذهب المضطهد للتغطية على جرائم دولتهم التاريخية ضد اليمنيين، وتصوير سقوط نظام بيت حميد الدين وكأنه حرب ضد المذهب ومعاداة أهل بيت النبي.. وهي وسيلة دهاة تمرسوا على استغفال الشعب بها، ويعلمون أنه لا يحرك ساكنا لنصرة الدولة المهترئة التي تحكمهم، وجعلت منهم مثالا مضحكا للتخلف والفقر والجهل!
من نافلة القول إن سقوط نطام الإمامة الزيدية لم يتم على يد أعداء المذهب بالمعنى الذي يروج له الآن؛ فقد كان السخط الشعبي عاما يشترك فيه اليمنيون من كل المذاهب، ويشارك في الثورات بل ويتزعمها: هاشميون وعلماء وقضاة وضباط وتجار وشباب زيدية جنبا إلى جنب إخوانهم من المناطق والمذاهب الأخرى، وكانت كثير من القبائل الزيدية قد انضمت نهاية الخمسينيات لجهود إسقاط الإمامة، وتصدر مشائخ قبائل شهيرة الثورات والتمردات ضده. ولعل من المفارقات أن الذين هبوا لنصرة دولة المذهب عند سقوطها هم الذين يتهمون الآن بأنهم الذين يعملون على تصفية المذهب وإحلال مذهبهم بدلا منه؛ وبالتحديد نقصد الدعم السعودي الهائل الذي لولاه لما خطر لأحد في الزيدية السياسية أن يحارب وأن يرفع رأسه في مواجهة اليمنيين بعد أن جعلوا حياتهم وحياة الحيوانات سواء!
الحالة الشعبية عموما كانت في أشد حالات العداء ضد نظام الإمامة، والرغبة في الانعتاق من هيمنته وفساده، وبمعنى آخر؛ فإن نسبة رضا الشعب اليمني عن دولة الزيدية السياسية المستندة إلى الحق الإلهي في الحكم كانت قد تضاءلت إلى حد لم تعد الأكثرية ترى فيه أثر القداسة التي يزعمونها لأنفسهم بالانتماء للبيت النبوي، وحقهم في حكم البلاد والعباد، وهو أمر يهدم المذهبية الزيدية السياسية من أساسها. أما المذهب الفقهي فلم يعد منه لدى العامة إلا رسوم باهتة بسبب حالة الجهل الشامل بالدين قبل الدنيا الذي فرضته الإمامة على الشعب!
من الصعب المكابرة في أن الإمامة بفساد سياساتها قد أضاعت حتى الأسس المذهبية التي اعتمدت عليها في التمكين لسلطانها في نفوس عامة الزيدية أنفسهم، وحتى القداسة الدينية العمياء التي طالما كانت مصدر قوتهم عند القبائل الشرسة تعرضت بفعل سياسة التجهيل المتعمدة إلى عوامل التعرية والتلاشي، وهو أمر تدل عليه كما سلف مشاركة القبائل وشيوخها في حركة الثورة وإسقاط الإمامة، ويؤكد ذلك دليل من داخل الإمامة ظهر في مذكرات القاضي عبد الرحمن الإرياني الصادرة مؤخرا؛ ففي برقية أرسلها الإمام المخلوع البدر إلى عمه الحسن غداة وفاة أبيه؛ اعترف فيها بجانب خطير مذهبيا من الانهيار العام الحاصل في البلاد؛ ففي البرقية راح البدر يحمس عمه للتعاون معه، وتوحيد صفوف الأسرة الحاكمة لمواجهة خطر المعارضة وخاصة شباب مشائخ القبائل؛ لكن المهم هنا وصفه للحالة الشعبية: «.. وقد تدهورت الأخلاق العامة، وضعفت المعتقدات سيما حب الآل، ولم يبقَ منه شيء ما في الشمال (يقصد: مناطق القبائل المتشيعة بالوراثة) وهذا أهم وأخطر ما في الأمر!»، وفي مكان آخر من الرسالة يبرر بثلاثة أسباب قراره بتعيينه أميرا للواء الشام بدرجة نائب وحيد للإمام ليكونا في منطقتين متباعدتين في البلاد لكيلا يسهل القضاء عليهما، لكن ما يهمنا هنا هو السبب الثالث للاهتمام بتلك المنطقة، أو كما قال: «إعادة التراث من حب الآل إلى نفوس الإخوان هناك..».
[2] مقصودنا من الكلام السابق؛ الإشارة إلى أن الحالة السيئة للمذهب الزيدي وعامة الزيدية في المجتمع اليمني لحظة سقوط نظام الإمامة كان مفجعا وواضحا حتى في أعين الذين يحكمون باسم المذهب، وعقيدة الناس بهم كممثلين لآل البيت النبوي الحاكمين بالحق الإلهي! ولا نظن أن الزيدية السياسية الناشطة الآن تنكر هذا الأمر أو تعده طبيعيا، وإلا كان معنى ذلك أنهم يقرون بأن حالة الجهل الشامل في أمور الدين/ المذهب والدنيا، والتخلف المريع الذي كان عليه ما يحكمونه من اليمن تجسيد أمين للمذهب الزيدي، وهو الصورة المثلى لحكم أهل البيت النبوي تماما كما تنص عليه عقائدهم وأدبياتهم! ونظن أن عملية رصد لمستوى العلوم الدينية المذهبية ومدارسها، ومدى انتشار مؤلفات المذهب في المجتمع سوف تؤكد بالفعل أن الزيدية السياسية جنت على مذهبها وأتباعه جناية بالغة؛ أنتجت حالة من الجهل والفراغ الديني/ المذهبي الذي يزعمون الآن أنه كان مؤامرة عليهم وعلى المذهب؛ مع أن أيديهم هي التي صنعته مع سبق الإصرار ليظل الشعب جاهلا بحقيقة دينه، مربوطا فقط بمجموعة تعاليم مذهبية ميتة لا تعرف من الدين إلا تقديس الأئمة، وتحريم حتى الخواطر القلبية ضدهم، حتى راج في التراث الشعبي في البيئة المذهبية أقوال مثل: «ظلمني صلوات الله عليه، نهب مالي صلوات الله عليه!» في معرض الشكاوى ضد مظالم الحكام!
ورغم هذا التراث البشع لنظام الإمامة الذي كرس كل ما هو مشين للدين، ومن باب أولى: المذهب نفسه؛ حتى جعل الإسلام والتخلف والفقر والعنصرية شيئا واحدا في عقول الناس.. ورغم أن البراءة كانت مطلوبة شرعا وعقلا من ذلك إنصافا للدين، وإعادة الاعتبار لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن عقدة السلطة والحق الإلهي كانت وما تزال تدفع أناسا للتغاضي عن ذلك، وإثارة البلبلة بالحديث عن استهداف المذهب والزيدية بعد ثورة سبتمبر بدلا من الإقرار بالحقيقة؛ حتى بلغ الفجور بأحد رموزهم للقول إن مؤامرة استهداف مناهج التعليم مذهبيا بدأت قبل الثورة، حيث كان أحد المشاركين في المؤامرة (رغم أنه هاشمي!) يعمل في غرفة في أسفل الحرم المكي لإعداد مناهج التربية في الدولة الجديدة على نمط المنهج الحنبلي للقضاء على المذهب الزيدي.. لكن كيف يحدث هذا في الوقت الذي أنفقت الدولة المشرفة على تلك الغرفة؛ الواقعة في الحرم المكي؛ الذهب والسلاح بلا حدود لإعادة دولة الزيدية السياسية، وأئمة الآل ليحكموا اليمن من جديد وفق المذهب؟ كيف حدث ذلك.. هذا أمر لا يستطيع إلا عقل بورعي يحمل شهادة دكتوراه في الجرح والتعديل أن يفسره، لكن يكفيه أنه يمارس دوره في إشعال نيران فتنة مذهبية، وتضليل الناس بدعوى مظلومية الزيدية والمذهب وتعرضهما لمؤامرة مذهبية خارجية!
(من العجائب في هذا الإطار ويتجاهلها القوم؛ أن المرجعية الزيدية الشهيرة مجد الدين المؤيدي فضل بعد ثورة سبتمبر أن يعيش في كنف الدولة الوهابية السعودية، متمتعا بالرعاية الرسمية حتى تفاخر أتباعه أنه العالم الوحيد من خارج المملكة الوهابية الذي سمح له رسميا بممارسة الإفتاء في بلاد الحنابلة الوهابيين.. أيضا: أفراد أسرة بيت حميد الدين الذين يعيشون في المملكة ويتعلمون وفق مناهجها الحنبلية، يرفضون؛ وفق تصريح صحفي لأحد أبنائها؛ أن يتخلوا عن جنسية الدولة الحنبلية، ويعضون عليها بالنواجذ في الوقت الذي يثيرون الآل العداوة ضدها باعتبارها العدو الاول للمذهب!.. كيف يستقيم ذلك مع المؤامرة الوهابية الحنبلية ضد المذهب؟ اسألوا العقل البورعي الذي أشرنا إليه!).
حملة ادعاء المظلومية الزيدية هذه تعمل بنشاط غير عادي لتزييف الوعي الشعبي الزيدي؛ منذ بدأت الزيدية السياسية في مطلع الثمانينيات تشعر بأن حصونها التقليدية في صعدة قد بدأت تنفتح لدعوات دينية أخرى، وبدأت عملية الاغتراب في داخل اليمن وخارجها، والاختلاط بالآخرين تكشف أمام أهالي صعدة آفاقا رحبة عن الإسلام لم تكن معروفة لديهم بفعل حالة الانغلاق التاريخي: واقعيا ومذهبيا التي كانوا عليها، وفي المقابل كانت هناك حالة فراغ مذهبي عميق كما سلف تسبب بها زوال دولتهم، وجمود الزيدية الفقهية، وتقليدية فقهائهم، وتقوقعهم في دائرة مغلقة تدير الدين كله حول مفاهيم بالية عن الإمامة وتقديس آل البيت، وربط الدين بهم وحولهم.. وهو واقع أنتج مرحلة انفضاض ملحوظة من حول كهنة المذهب، والقابضون على نظرية الحق الإلهي كالقابض على الجمر في ظل منظومة سياسية وإعلامية وتربوية ترفع من شأن النظام الجمهوري، وفي ظل انتشار ثقافة إسلامية جددت روح الدين والتدين في نفوس اليمنيين الزيدية بعيدا عن إسلام الأئمة والتقليد المذهبي، والمهم: الإسلام الذي يحمل مشروعا حضاريا وإنسانيا راقيا قادرا على مواجهة حملات التشكيك به التي راجت في اليمن تحت مسميات سياسية وفكرية مختلفة.
[3] غير المشار إليه؛ ينشط آخرون للترويج أن استهداف الزيدية والمذهب بعد سبتمبر تولى مسؤوليته ثلاثة أطراف: 1- الشيخ عبد الله بن حسن الأحمر؛ الذي منحت له صعدة يتحكم بها، ويديرها، ويضبط حركتها كما يراه مناسبا بعد المصالحة الوطنية عام 1970.
2- اللواء علي محسن الأحمر الذي شارك الشيخ في فرض سياسات فاقمت حالة الاحتقان والشعور بالاضطهاد في صعدة، وتجاوز خصوصية ثقافتها المذهبية، والعمل على توطين فكر وافد معاد للزيدية من خلال تشجيع الحركة السلفية بقيادة الشيخ مقبل الوادعي، والمعاهد العلمية ومؤسسات الإرشاد.
3- الإخوان الذين حرضوا نظام الرئيس السابق علي صالح –منذ تحالفهم معه مطلع حكمه- ضد المكون الزيدي، والعمل على تجفيف منابعه ومحاصرة روافده، وتقليص الحضور السياسي والاجتماعي لرموزه والمحسوبين عليه حتى جروه (!) إلى حرب صعدة التي يفتي حوثيو المؤتمر الآن بأنها كانت مؤامرة ضد علي صالح تمهيدا للثورة الشعبية الشبابية السلمية!
هذه تقريبا أبرز ما يروج له عن المسؤولين عن مؤامرة استهداف الزيدية بعد ثورة سبتمبر، وسوف نبدأ الأسبوع القادم،بإذن الله تعالى، بمناقشة مصداقية اتهامات الزيدية السياسية هذه من عدمها تجاه الأطراف الثلاثة المذكورة، وهذا هو الهدف الرئيسي من هذه الكتابة؛ لكن قبل ذلك لدينا بعض الملاحظات التي ننهي بها الحديث هذا الأسبوع: أ - يتحمل كهنة الزيدية السياسية مسؤولية حالة الجمود الشامل في مناطقها التاريخية وخاصة مدن كراسيها كما يقولون، وانفضاض الناس عنهم إما لأنهم وجدوا ما يروي شوقهم للدين الصحيح الخالي من الخرافات والجمود والعبودية للبشر، وإما لأن بعضهم تفلت من التدين من الأساس، وراح يبحث له عن معتقدات أخرى تهمش الدين أو ترفضه من أساسه.. فلا يلومون إلا أنفسهم في ذلك، وربما كان أصدق شخص فيهم هو حسين الحوثي (مؤسس حركة الشعار) الذي فضح في ملازمه دور فقهاء المذهب ومسؤولياتهم في إيصال الزيدية لذلك الحال؛ بصرف النظر عن بعض عباراته المبالغ فيها في تفسير حالة جمود الزيدية.
ب - من الضروري الإشارة إلى أن اتهام الأطراف الثلاثة؛ التي يحملها الخطاب الزيدي مسؤولية نكبة المذهب بعد ثورة سبتمبر؛ ليس محل اتفاق تام –على الأقل ظاهريا- بين جميع فئات الزيدية السياسية؛ فالاتهام يتفاوت وفق وجودهم السياسي في صفوف المعارضة أو داخل حزب المؤتمر أو الزيدية السياسية في صعدة؛ وخاصة فيما يتعلق بدور الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الذي حرص ويحرص عديدون داخل مربع الزيدية السياسية –ربما من باب تقاسم الأدوار المعروف عنهم- على تملقه وأولاده وإظهار رضاهم عنهم، والتقرب إليهم ملقين المسؤولية على حلفائه الإخوان.. في الوقت الذي يتناوشهم آخرون من الزيدية السياسية وخاصة الشباب منهم، ويجعلونهم رأس المصائب التي لحقت بهم!
ج - لقد شهدت الزيدية السياسية عهدها الذهبي في ظل حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح؛ رغم ما تحاول أن تروج له بعض أجنحة الزيدية السياسية بأنها واجهت في عهده مؤامرة الإقصاء والتآمر وإبعاد رموزه السياسية والاجتماعية، وتوطين مذهب معاد.. إلخ منظومة الاتهامات.. والراجح أن ما تمكنت الزيدية السياسية من تحقيقه من مكاسب مذهبية وثقافية وتعليمية في ظل دعم صالح لها يفوق في كثير من تفاصيله ما حدث أيام بيت حميد الدين؛ ونظن فقط أن أسماء مؤلفات المذهب وكميات طباعتها فاقت بكثير: كما ونوعا كل ما تم طباعته برعاية الأئمة؛ بل لقد وصل الأمر أيام تولي الوزير أحمد عقبات وزارة العدل (أحد كبار الحوثيين كما تأكد الآن) أن تم طباعة كتب الزيدية السياسية بأوامر جمهورية (!) ووضعت فيها صورة رئيس الجمهورية، والمفترض أنه حامي حمى ثورة سبتمبر شخصيا! أما نفوذ رموزه السياسية في الحزب الحاكم، والمنظومة الدينية والاجتماعية فإنكاره هو محاولة بائسة لأداء دور الثوري المظلوم، وقد ذكرنا شيئا من هذا في حلقة: السمن والعسل.