يتحدثون عن نكاح الأيدلوجيا والسياسة، وعن سفاح سلطة ومال، في محاولة جادة للعب دور الفضيلة في مسرحية للعراة وفي مسرح للتعري. لا يعلم إلا الله كم أن المواطن العربي اليوم بأمس الحاجة لا لمن يقدم له الحقيقة، ذلك أن الحقيقة بسيطة وفي المتناول ولا تحتاج لكل ذلك التشابك النظري في الطرح والتداخل المخيف والمربك والمتناقض حد الفضيحة في المواقف. البسيط من الناس اليوم يبحث فقط عمن يسعفه بقليل من الاحترام لبقايا كرامة ديست عبر العقود وعقل أمة بأكملها اُسترخص، حد تنصيب حثالاته عليه أوصياء ونخب من سفالة لا تجيد حتى القراءة, ولا تحاول في أحسن صورها حتى أن تجمل كذبها أو تبرع في فشلها لتقدم نموذجاً يصلح ولو للتذكر على الأقل كراسبوتين الدجال.
في فيلم لا يستحق الذكر كنخبنا الموقرة، شاهدته قبل زمن، كان مجموعة من المقاتلين المرتزقة يبحثون عما يسليهم في طريقهم بين مدن وبلدات أسيوية، ليصل بهم حظهم الى حفلة غنائية محلية صغيره تحييها فتاة من الفلاحين بائسة يأكل الحزن والجوع والقهر كل تفاصيل وجهها، وهي تتردد قبل البدء بسبب الحضور الباهت جداً كماً ونوعاً والذي لم يكن سوى ذويها ومجموعة الأوغاد المرتزقة هؤلاء. قلبت عينيها الأسيويتين في وجوههم بقلق مبرر جداً من طرف المشاهد الذي يدري من مجريات أحداث الفيلم السابقة أن جمهور هذه الفنانة المتعبة الحظ ليسوا سوى مغتصبين ولصوص طال جوعهم بين الأدغال لروائح النساء والتبغ والشراب واللهو. لم يدم الأمر طويلاً، وكان الأداء المرتبك للفنانة المرتعشة وجلاً، وهزيمتها توقعتها باكراً.. سرعان ما تثاءب من لم يفهموا من لغة مضيفتهم الليلة حتى الإيقاع التعيس الكئيب.. يصرخ أحدهم بكل ما أوتي من ملل وشوق لما هو أقرب إلى رخص غرائزه: "تعري تعري"! يمتهن اللص السرقة لحاجته. غير أن هذا اللص قد يبالغ في تفننه في السرقة وخفة اليد. ساعتها تبدأ مرحلة أخرى في الجريمة وهي الأخطر. حين يتحول المجرم على نموذج لنظرية تقدمه أو يقدمها. لا يتورع اللص إذا أبدع في خفة اليد عن المجاهرة باستعراض مهاراته مستغرقا في تقديم فلسفة سوداء للفن توفر غطاء أخلاقي للجريمة وتؤخر ولو نسبيا تقييم الناس لفداحة الموقف. فهو لا يسرق لأنه مجرم وإنما لأنه يقدم شيء جميل يجيزه الحاضرون ضمنا ويستقبله المجتمع وهو يصفق. تقدم بعض أفلام ليوناردو دي كابريو نموذجا لهذا الارتباك القيمي والالتباس الجمالي لدى انسان العصر.
لا تتوقعوا الكثير من نخب جل ما اُستُقدِمت لأجله بلاط الحاكم وتلميع بيادات السادة المغتصبين وتوفير مساحيق ثقافية وفنية لمومسات أخرى يعدونها من الآن لترث بعدهم حمل راية الخزي والعهر البواح هذا. كشفت وتكشف لنا أحداث الربيع العربي مؤخراً سوأة القرد الذي ظل يحكمنا لعقود وهو يواري احمرار مؤخرته المذل ببزة عسكرية أو شعار مهترئ تعده حاملات المباخر النخبوية تلك. لا تستغرب أن يتحول مغتصبو الأطفال وآكلو لحوم اليتامى وسرّاق بيوت الله- بين ليلة وضحاها- الى ايقونة حنين وطني خالص هو أطهر وأصدق من لحظات اعدام عمر المختار! المنطقة ترتج اليوم تحت أقدام شعوب ملت قلة حياء مثقفين ما مثلوها يوماً ولو في أحلك لحظاتها وجهاً لوجه مع الديكتاتور.. ما عاد من الممكن أن تقبل الجماهير التي شهدت مقتل أبنائها بيد الجزار نفسه أن تتغاضى ولو صمتاً عن إفك شهود الزور يستغرقون في خدر يحيل الدماء هالة من شمس حرية تستفيق بضربة من ساطور القائد والزعيم مدشنة عهداً جديداً من الرفاء يبرق بالموت لأول وهلة من بين نياشين ورتب ابن البلد البار وبطلها المغوار.
تلك الحثالات التي راكمتها الأنظمة في بلاطاتها مع باقي العفش وأحذية السيدة الأولى بدأت تجاهر وقد خذلتها حساباتها المتواطئة بكل خسة على كل قيمة ومثال .. بحرفتها الأولى قبل الانخراط الأول في منظومة العار وحمى حامي الديار.. كاللصوص الذين لم يتقنوا حتى خفة اليد.. هاهم يعلنون صراحة أنهم ليسوا حتى لصوصاً شرفاء، بل مغتصبون وخونة وقاطعو طرق.. يبدو الأمر ملهماً في أن يتحول كاتب ومثقف كنا نعده ونعتد به ونحسب لما يقول ويكتب ألف حساب، أن يتحول بكل ميوعة إلى ما رفضته مغنية جائعة مطمورة من قرية آسيوية منسية.. ربما بدأ سوق عارضات "الاستربتيز" بالرواج مؤخراً لا سيما تلك العروض النخبوية المغرية لكتاب ومفكرين وأدباء وفنانين.
كان بإمكان تلك البائسة أن تهرع الى مشروع إفراغ جيب ولو واحد من أولئك السفلة، هي أدركت وهي تغني بلغة لا يفقهونها أن جسراً من البوص الآسيوي قد هشمته بيادات هؤلاء المرتزقة القادمين من كل القارات وأزمنة الخوف الأخيرة والفحش والفجور.. كان بإمكانها أن تنسحب بكامل بشريتنا نحن، وأن تصمد أمام دعوات التعري الأخلاقي السافرة تلك.. لكنها أمام كل ذلك الغل الآدمي والحقد الموجه بإتقان.. تنفجر بالبكاء وتغادر. _______ "النُّقض" بضم النون المشددة، في اللهجة المحلية: بثور تظهر حوالي الفم بعد الإصابة بالحمى أو إثر التعرض لنوبة قرف أو تقزز شديدة!