نحن في العام 2011، أكمل نواب صالح تمرير تعديلات دستورية تسمح لصالح بالاستمرار في الحكم كل الدهر، تمتم القوم: إضافة لذلك، ليت باستطاعتنا أن نمنحه حياة أبدية، ثم تضاحكوا ملئ القاعة. اطمئن صالح للتعديلات التي منحته فرصة للمناورة، ولقد أصبحت الانتخابات القادمة مضمونة نتائجها، تباً، متى كانت الانتخابات غير مضمونة نتائجها في عهد صالح؟ لكنها، منذ اليوم، صارت مضمونة تماماً. استكمل صالح في العام التالي والذي يليه، وضع اللمسات الأخيرة على سيناريو التوريث، بعد أعوام مات الرجل، وكانت البيئة السياسية والوضع في القوات المسلحة مهيئ تماماً للتوريث، المشاكل في البلد لا تنته، استلم "أحمد" الحكم ووعد بإصلاحات من نوعا ما، تماماً كما فعل قبل زمن "بشار الأسد".. لكن أول الخطوات التي قام بها الحاكم الجديد هي العمل على وضع اللبنات الأولى لحكومة عسكرية قمعية، ونتيجة لذلك اندلعت، بشكل مفاجئ، أعمال عنف في كل البلاد، أعلنت على إثرها السلطات حرباً على "الإرهاب" تلاها حالة طوارئ ومن ثم حل للأحزاب السياسية، كانت كل التحركات والاحتجاجات تجابه بفعل عسكري عنيف، أهلاً بكم في دولة الفرد الواحد والحزب الوحيد والعسكر والقبيلة. نتيجة لكل ذلك، اتجهت البلاد للهاوية، الهاوية التي ستودي باليمن، كل اليمن إلى السحيق الأبدي.
لحسن الحظ، لم يحدث كل ذلك، فلقد قامت ثورة في ال 11 من فبراير 2011، رافضة للتعديلات التي اقترحها صالح، ولنظام حكمه أجمع، ونجحت إلى حد بعيد في الحفاظ على "الجمهورية " كمبدأ وعلى "التغيير" كهدف، جاءت كمدافع عتيد عن قدسية الدستور وجلالة الشرعية الشعبية وليست نقيضة لهما.
المعيار الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نحاكم ثورة فبراير هو في أهدافها التي أعلنتها، وهي أهداف جميعها تجسد الحلم اليمني الجديد، ولا يمكن الاحتكام للفوضى السلبية التي أعقبت الثورة كمعيار لمحاكمة الثورة نفسها. لا توجد ثورة لا تعقبها فوضى، فكل البنى السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية ستنهار بانهيار من قامت الثورة ضدهم وهو الأمر الذي سيخلق تكتلاً مواجهاً للثورة يتعايش بالفوضى ويؤدي إليها.
لا داع حقاً للأسف، فلم نكن في الجنة وهبطنا مغضوب علينا إلى حياة دنيا، هذه هي حياتنا البائسة مذ عرفنا علي عبدالله صالح حاكماً علينا، وإنه لجدير في ظل هذا الكم الكبير من التآمر والإحباط واليأس أن أسرد لكم خمسة أمثلة لتجارب دول خمس عايشت الثورة ومن ثم الفوضى حتى استقرت في نهاية الأمر إلى دولة الرفاه والعدالة، ولو لم يكن في تلك التجارب "ثورة" ما وصل الرفاه إليها في خاتمة القصة.
ثورة القرنفل، البرتغال من الديكتاتورية إلى الرفاهية البرتغال بلد في جنوب غرب أوروبا، عانى الكثير في مسيرته التي بدأت بتحوله من الملكية إلى الجمهورية ثم إلى الاستبداد في عهد الديكتاتور سالازار الذي وصل لدفة الحكم عن طريق انقلاب عسكري واستمر نظامه لأكثر من أربعين عاماً، حتى 25 نيسان 1974 تاريخ اندلاع ثورة القرنفل كنتيجة طبيعية لديكتاتورية طويلة زورت الانتخابات وارتكبت أفظع الجرائم. الاضطرابات بعد الثورة سادت لأعوام إلا أنه في النهاية استطاعت هذه الدولة أن تنجو، وأن تحتل موقعاً متقدماً في صدارة الأمم، فالبرتغال الآن تحتل المرتبة ال 19 عالمياً من حيث جودة الحياة، عضو في الاتحاد الأوروبي، تصنف في المرتبة ال 13 من ضمن أكثر الدولة سلمية.
إسبانيا، من الاستبداد والحرب الأهلية إلى رحاب الديمقراطية والاستقرار جنرال عسكري، فرانسيسكو فرانكو، اختار الانقلاب العسكري على الديمقراطية وأحلام الأسبان كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وهو ما جر البلاد لحرب أهلية استمرت سنوات قتل فيها ما يزيد عن نصف مليون مواطن ودمرت المدن وتم تشريد الآلاف من الناس وانتشر الفقر وضرب التخلف كل البلاد.
كانت إسبانيا قد اختارت الجمهورية كنظام سياسي في 1931 غير أن انقلاب فرانكو أعادها لمربع الاستبداد والديكتاتورية، وكان عهده معادياً للفكر والثقافة والفن، إلا أنه وبعد 36 عاماً سقط نظامه واتجهت البلاد بأسرها نحول التحول الديمقراطي. يمكننا أن نتعلم من التجربة الإسبانية أنه لا انقلاب يدوم إلى الأبد حتى لو أخضع بقوة البطش خيار الثورة. حققت إسبانيا نجاحات متميزة، بعد التحول الديمقراطي، فاقتصادها يصنف في المرتبة الثالثة عشر عالمياً والخامس في الاتحاد الأوروبي استناداً لإحصاءات 2012، كذلك تحتل إسبانيا المركز ال 23 في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة.
تشيلي، العسكر والديمقراطية مثّل فوز الماركسي، والمعارض الشرس آنذاك، سلفادور ألليندي جوسينز في سبتمبر 1970 بالانتخابات الرئاسية، ثورة من نوعا ما، فقد جاء عن طريق الديمقراطية ومن خارج الأجندة السلطوية وضداً للمصالح الأمريكية في هذا البلد، غير أن انقلاباً قاده قائد الجيش الجنرال أوجستو بيونشيه في 11 سبتمبر عام 1973 أطاح بالرئيس المنتخب وأنتج في نهاية المطاف حكماً ديكتاتورياً استمر حتى1990. في عهد حكم العسكر، تجاوز عدد المعتقلين أكثر من أربعين ألفاً خلال الأشهر الأولى من الانقلاب، ولقي الآلاف من المواطنين حتفهم جراء سياسة التعذيب والتنكيل والاضطهاد التي مارسها العسكر. رغم البطش والقوة العسكرية التي احتمى بها، انتهى بيونشيه مخلوعاً من شعبه، وبدأت محاكمته في ديسمبر 2004. تشيلي الآن: صحيح أن تحديات كبيرة لا زالت تواجه هذه الدولة، لكنها وبفضل التحول الديمقراطي، والانتقال من حكم العسكر إلى الحكم الديمقراطي استطاعت أن تكون واحدة من الدول الأكثر استقراراً وازدهاراً في أميركا الجنوبية، كما تحتمل مرتبة عالية إقليمياً في استدامة الدول والتطور الديمقراطي. وثمة العديد من النماذج التي تقول لنا بوضوح أن أحلام الشعوب في الحرية والرفاهية والديمقراطية تنتصر في النهاية رغم كل ما يمكن أن يصيبها من مؤامرات وانقلابات وتضحيا.
فنلندا.. من الحرب الأهلية إلى دولة الرفاه من لا يعرف دولة الرفاه، فلندا، صنفتها النيوزويك عام 2010 كأفضل بلد في العالم، وتعتبر ثاني أكثر البلدان استقراراً. لكن يتوجب علينا إخبارك أن مسيرة الفنلنديين كانت طويلة وشاقة واعترتها بكل تأكيد الكثير من لحظات الإحباط والعديد من التضحيات، فالرفاهية وأرقام التنمية المذهلة التي حققتها هذه الدولة لم تأت من العدم، بل جاءت بعد تضحيات، وحرب أهلية "1918" أعقبت استقلالاً عن روسيا البلشفية، لقي فيها ما يقارب 37 ألفاً مصرعهم. إذا اعتبرنا الحراك الذي أعقب استقلال البلاد "ثورة"، فإن ذلك لم يمنع دخول البلاد في مسيرة طويلة من الفوضى لأسباب متعددة، لكن الأمل والمثابرة كانا كفيلين بإحداث ثقب في جدار الظلمة. يتبع..